جمّد بدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار في محافظة إدلب شمال غربي سوريا حالة التوتر التي بلغت أوجها بين تركيا وحليفتها روسيا، وذلك بعد سبعة أيام من مقتل 34 جنديًا وضابطًا تركيًا بقصف النظام لبلدة بليون.
دفع مقتل الجنود الأتراك، في 27 من شباط 2020، في بليون بجبل الزاوية جنوبي إدلب، تركيا إلى مواجهة مباشرة مع النظام، استخدمت فيها القصف الأرضي بالمدفعية والصواريخ، والجوي عبر طائراتها المسيّرة، التي أحدثت فارقًا في مجريات المعركة.
مضى عام على مقتل الجنود، إلا أن وجود تركيا في شمال غربي سوريا وحضورها العسكري اختلف بشكل كبير، لما أصبحت المنطقة تمثله لتركيا من “عمق استراتيجي وأمن قومي”، وفق تصريحات مسؤولين أتراك.
وعززت تركيا وجودها عسكريًا في مناطق سيطرة المعارضة، وسحبت نقاطها العسكرية من مناطق سيطرة النظام الواحدة تلو الأخرى.
ضربة أجبرت تركيا على الرد والتصعيد
شن النظام السوري، بدعم روسي ومشاركة الميليشيات الإيرانية منذ شباط 2019، حملات عسكرية على مناطق سيطرة المعارضة في إطار سياسة قضم المناطق.
تقدم النظام وسقطت عدة مناطق استراتيجية، وتعرضت النقاط التركية المنتشرة في مناطق “خفض التصعيد” وفق اتفاق “أستانة” إلى قصف متكرر من قبل النظام.
ووصلت حصيلة قتلى جنود الجيش التركي إلى 13 قتيلًا في 18 من شباط 2020، كما حوصرت نقاط مراقبة تركية كمورك وشير مغار بريف حماة.
هدد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بشن عملية عسكرية قبل نهاية الشهر نفسه في حال لم تنسحب قوات النظام، مع دفع تعزيزات إضافية إلى إدلب دون وضوح كامل لآلية الانتشار.
قابل ذلك إصرار روسيا على تثبيت المناطق التي تقدمت إليها قوات النظام حينها، وفتح الطريقين الدوليين “M4” و”M5″، وتقديم خريطة إلى تركيا حول ذلك، لكن أنقرة رفضتها.
ولم تنقضِ مهلة أردوغان حتى استهدف النظام بغارة مبنى بشكل مباشر كان يتجمع داخله جنود أتراك، وقُتل إثرها 34 جنديًا وأُصيب آخرون، في 27 من شباط 2020.
وقبل الضربة بساعات، كانت المحادثات بين وفد روسي- تركي حول مصير إدلب ما زالت جارية، وهي الجولة الرابعة بهدف التوصل إلى حل يرضي الطرفين.
تصدّر هاشتاغ “#sehitlerimizvar” (يوجد شهداء) على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” في تركيا، وتصاعد التوتر.
خرج أردوغان بعد الضربة مباشرة، وتحدث عن مقتل ثلاثة من جنوده، مشيرًا إلى خسائر في قوات النظام.
في اليوم التالي، ترأس أردوغان اجتماعًا أمنيًا في العاصمة أنقرة، بحضور كبار الشخصيات الأمنية إلى جانب المعارضة، من بينهم وزير الدفاع، خلوصي آكار، ووزير الخارجية، مولود جاويش أوغلو، ورئيس الاستخبارات، هكان فيدان، وزعيم حزب “الشعب الجمهوري” التركي المعارض، كمال كليجدار أوغلو، واستغرق ساعتين.
وفي نفس اليوم، أجرى أردوغان اتصالًا مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، واتفقا على بحث إمكانية عقد قمة بينهما في القريب العاجل، و”تكثيف المشاورات بشأن سوريا”، حسب الناطق الرسمي باسم الكرملين، دميتري بيسكوف.
كما دعت تركيا “حلف شمال الأطلسي” (الناتو) إلى اجتماع طارئ للحلف.
التحرك على الأرض
قبل انتهاء شباط 2020، أطلقت تركيا وقوات المعارضة عملية تحت اسم “درع الربيع”.
https://www.youtube.com/watch?v=tDq5PrcUnUU
بدأت فصائل المعارضة بتغيير الخريطة العسكرية في إدلب، عبر شنّ عمليات عسكرية ضد قوات النظام في عدة محاور، وتمكنت من استعادة بعض المناطق الاستراتيجية، أولاها مدينة سراقب ومحيطها، الواقعة على نقطة تقاطع الطريقين الدوليين دمشق- حلب (M5) وحلب- اللاذقية (M4)، والتي تضم أربع نقاط مراقبة تركية، لكنها عادت وخسرتها لاحقًا.
كما شنت الفصائل عملية عسكرية في ريف إدلب الجنوبي، وسيطرت على قرية كفر عويد الاستراتيجية.
وتضم كفر عويد سبعة تلال مرتفعة في منطقة جبل الزاوية، تطل على عدة قرى بجبل شحشبو جنوب القرية، وسهل الغاب في الطرف الغربي منها، وسط توقعات باستمرار العمل العسكري على كامل جبل الزاوية وسهل الغاب الذي سيطرت قوات النظام على معظم قراه حينها.
وإلى جانب هجمات الفصائل، دخلت الطائرات التركية المسيّرة في المعركة، بعد صعوبة في دخول سلاح الجو الحربي التركي، نتيجة عدم السماح له من قبل روسيا التي تتحكم بالمجال الجوي فوق إدلب، وهو ما أشار إليه أردوغان بتصريحات قال فيها، “المشكلة الوحيدة أمام تركيا في إدلب هي المجال الجوي وسنجد حلًا”.
ونشرت وزارة الدفاع التركية تسجيلات تظهر استهداف قوات النظام بشكل واسع في إدلب وخارجها، وتدمير دبابات ومدرعات عسكرية وراجمات صواريخ للنظام، إضافة إلى منشآت حيوية، أهمها مصنع أسلحة كيماوية في ريف حلب، ومقتل عدد من العسكريين والضباط، كان أبرزهم قائد “اللواء 124” في “الحرس الجمهوري”، اللواء الركن برهان رحمون.
وصرح أردوغان، خلال خطاب في 29 من شباط 2020، أن الجيش التركي “حيّد” أكثر من 2100 عنصر من قوات النظام السوري، ودمر حوالي 300 موقع وآلية، بينها 94 دبابة، و37 مدفعية، و28 راجمة صواريخ، و17 عربة مدرعة، كما دمرت القوات التركية عددًا من المواقع، من بينها مدارج للطائرات، ومستودعات للأسلحة، وأنظمة دفاع جوي، وعنابر للطائرات، فضلًا عن مصنع لإنتاج الأسلحة الكيماوية.
غازل رئيس النظام السوري، بشار الأسد، الشعب التركي عبر قناة روسية، متحدثًا عن عدم وجود خلافات بين البلدين، واستغرابه من “موت المواطنين الأتراك ببلد أجنبي”.
واعتبر الأسد أن “هناك عائلات سورية- تركية، وهناك مصالح مشتركة حيوية. التداخل الثقافي المتبادل حدث تاريخيًا، وبالتالي فمن غير المنطقي أن يكون بيننا وبينهم خلافات جدية”.
انتهت عملية “درع الربيع”، وتوقف تقدم النظام، وأعلنت روسيا وتركيا وقف إطلاق نار وتسيير دورات مشتركة بينهما على “M4″، باتفاق بين أردوغان وبوتين في 5 من آذار 2020 بالعاصمة “موسكو”.
لكن ذلك لم يوقف الأتراك عن التمدد العسكري واتخاذ إجراءات احترازية أكبر.
https://www.youtube.com/watch?v=UYwVUuKhVEs
إعادة تموضع.. إنشاء نقاط جديدة وسحب أخرى
غيّرت تركيا من استراتيجيتها العسكرية وانتشارها في شمال غربي سوريا بعد اتفاق “موسكو” بإعادة تموضع لقواتها منذ تشرين الثاني 2020، ونقلها من مناطق ذات خواصر رخوة، إلى مناطق فيها خطوط دفاع أكبر واستراتيجية أكثر، حسب دراسة لمركز “عمران للدراسات الاستراتيجية“.
وتمثل ذلك بعدم وجود قواتها العسكرية في مناطق النظام، خشية تعرضها للمزيد من الضغوط واحتمالات الانزلاق من جديد لمواجهات عسكرية مباشرة.
وهو إجراء احترازي لعدم وقوع هذه النقاط رهائن بيد قوات النظام يتم استخدامها للضغط على أنقرة، كورقة مفاوضات للحصول على هدف سياسي أو عسكري.
وبدأت أنقرة بالتعامل مع إدلب كخيار عسكري استراتيجي، عبر تغيير وظائف النقاط التركية من المراقبة إلى قواعد عسكرية معززة ومدعومة بجميع أنواع الأسلحة ومجهزة لأي عمل عسكري، حسب الدراسة.
انتشرت النقاط الجديدة من ريف حلب الغربي مرورًا بأرياف إدلب الشرقي والجنوبي والغربي وصولًا إلى جبل الأكراد بريف اللاذقية.
إذ سحبت تركيا آخر نقاط مراقبتها (نقطة تل طوكان شرقي سراقب) من مناطق سيطرة النظام، أواخر عام 2020.
وفي آذار 2020، وبعد دخول اتفاق “موسكو” حيز التنفيذ، أنشأت تركيا ست نقاط جديدة في ريف إدلب، أتبعتها بعدة نقاط بمناطق استراتيجية، حسب رصد عنب بلدي، هي:
- نقطة على تل النبي أيوب بجبل الزاوية في 14 من أيار، وهو أعلى تلال إدلب، ويكشف معظم مناطق جبل الزاوية وسهل الغاب شمال غربي حماة، وتحيط به العديد من التلال الأقل ارتفاعًا، وتتوزع حوله أشجار الكرز والزيتون.
- نقاط في معراتة ومرعيان وفركيا بجبل الزاوية، في حزيران.
- نقطة على تل بين قريتي أرنبة وبليون بجبل الزاوية، في آب.
- نقطة في تل الحدادة بجبل الأكراد شمال شرقي اللاذقية في آب، بعد تعرضه لهجمات من قبل قوات النظام.
- نقطة في بليون أيضًا في تشرين الثاني، لكنها متقدمة بالقرب من خطوط التماس.
- نقطة في تل بدران ببلدة كنصفرة على خطوط التماس، في تشرين الثاني.
- نقطة بين كنصفرة والبارة بالقرب من خطوط التماس، في كانون الأول.
- نقطتان في بلدة قسطون بسهل الغاب شمالي حماة، في كانون الثاني 2021.
ونقلت صحيفة “الشرق الأوسط” عن مسؤول “وحدة الرصد والمتابعة” في فصائل المعارضة، أن تركيا أنهت تشكيل خط دفاعي “الدرع الفولاذية” على طول خط التماس.
ونشرت تركيا نحو 6000 جندي تركي، وحوالي 7500 آلية عسكرية، بينها مدفعية ثقيلة وراجمات صواريخ ورادارات وعربات تنصت، بالإضافة إلى أكثر من 200 دبابة ومدرعة وناقلة جند، توزعت في أكثر من 70 نقطة وموقعًا عسكريًا استراتيجيًا.
وأضاف المسؤول أنه في جبل الزاوية جنوبي إدلب أُنشئت 20 نقطة وموقعًا عسكريًا تركيًا.
مصير إدلب بين أطماع النظام وسياسة الردع
تشكّل سيطرة النظام على إدلب أهمية من عدة نواحٍ، منها ما هو متعلق بضرورات “النصر” قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة، وتنشيط الحركة التجارية بين الساحل وإدلب وحلب، وإضعاف الموقف التفاوضي للمعارضة السورية، عبر زيادة المكتسبات الميدانية وتوظيفها في التفاوض السياسي.
إضافة إلى رغبته في السيطرة على الحدود، وخاصة معبر “باب الهوى” على الحدود السورية- التركية، ما يعني احتكاره الإدارة الأمنية والفوائد الاقتصادية للحدود.
لكن هجومه على إدلب سيصطدم بسياسة ردع عسكرية أعدتها تركيا بعد اتفاق “موسكو”، إضافة إلى وجود اتفاقيات دولية فرضت واقع استمرار “الهدنة”، وهو ما اتفق عليه في ختام محادثات “أستانة- 15” بين الدول الضامنة (روسيا وتركيا وإيران).
وتتقاطع مصالح النظام في السيطرة مع أهداف الميليشيات الإيرانية بالهجوم على إدلب.
لكن تصريحات الروس تدل على جنوحهم للتهدئة.
ومشهد إدلب الميداني، بحسب دراسة مركز “عمران”، ينحو باتجاه أحد السيناريوهات التالية:
الأول: استمرار القضم جزئيًا أو باجتياح كامل
القضم الجزئي، من المرجح أن يبدأ من المنطقة الواقعة جنوب “M4″، الذي يشهد قصفًا متكررًا ومحاولات تسلل للنظام.
وفي حال نجاح هذه المحاولات يكون الطريق أصبح تحت سيطرة النظام وروسيا بشكل كامل، ما يعني تمكّن قوات النظام من فرض رصد ناري على ما تبقى من مواقع المعارضة في إدلب.
أما الاجتياح الكامل وعلى الرغم من كونه مستبعدًا، نظرًا إلى تكلفته السياسية والإنسانية والاقتصادية، فسيكون إما باتجاه كامل للمنطقة والأرياف المحيطة بها وصولًا حتى بلدة دارة عزة بريف حلب الغربي.
وإما باتجاه اجتياح كامل لمدينة إدلب، عدا الشريط الحدودي الممتد من مدينة دركوش حتى سرمدا (وهي منطقة واقعة بين سلسلة جبال والحدود السورية- التركية).
السيناريو الثاني: التجميد.. وهو الأكثر توقعًا خلال هذه الفترة
وهي سمة المشهد الميداني حاليًا، بأن تبقى نقاط السيطرة على ما هي عليه، وإعطاء الفرصة باتجاه أكبر للتفاهمات السياسية بين الأتراك والروس، وهذا ما بدا من خلال اتفاق “أستانة- 15” الذي أكد على التهدئة في منطقة إدلب.
–