حوار: أسامة آغي
يزداد الملف السوري تعقيدًا مع غياب الحل السياسي وشكل السيطرة العسكرية على الأرض، مع كثرة الدول المتدخلة في الشأن الداخلي السوري، إذ يقبع النظام السوري تحت الحماية الروسية والإيرانية، وتُتهم المعارضة السورية بتبعيتها لحكومات دولية وإقليمية.
ويرى الدكتور في جامعة “السوربون” الفرنسية، والرئيس السابق لـ”المجلس الوطني السوري”، برهان غليون، أن المعارضة السورية “فقدت مصداقيتها” أمام السوريين، والمعارضين منهم على وجه الخصوص.
عنب بلدي التقت بالدكتور غليون للإضاءة على المشهد السوري الحالي، والتحركات الروسية والأمريكية، والوضع القائم للمعارضة السورية.
فقدان المصداقية
مع وفاة الرئيس السابق، حافظ الأسد، ثم تولّي ابنه بشار الأسد، رئيس النظام السوري الحالي، الحكم في البلاد، في عام 2000، خرجت أصوات من معارضين ومثقفين وفنانين سوريين، دعت إلى انفتاح سياسي ومزيد من الحريات والديمقراطية.
وعبرت هذه النخب الثقافية حينها عن مطالبها فيما عرف لاحقًا ببيان “الـ99″، و”بيان الألف”، ثم “ربيع دمشق”، وسرعان ما رفض النظام السوري هذه المطالب.
ومع اندلاع الثورة السورية التي طالبت برحيل النظام السوري، بدأ معارضون سوريون بمحاولات لإنشاء أجسام سياسية جديدة في عام 2011، وأُعلن عن تشكيل “المجلس الوطني السوري” في ذلك العام، والذي كان الدكتور برهان غليون أول رئيس له.
ويرى الدكتور غليون أن فقدان مؤسسات المعارضة مصداقيتها وثقة السوريين والمجتمع الدولي، يعد سببًا لطول أجل المحنة، وهو ما أدى إلى نجاح النظام السوري والقوى الدولية الداعمة له بتحييد قرارات مجلس الأمن.
كما اعتبر غليون أن هذه القرارات بحد ذاتها “صيغت لتكون قابلة للتحييد أصلًا”.
وحول أسباب انسداد أفق الحل السياسي، قال الدكتور غليون، إن هذ الانسداد لا يتعلق بإجهاض مؤسسات المعارضة فقط، ولكنه يعود أيضًا إلى عوامل إقليمية ودولية، وإلى عجز النخب السورية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمثقفة عن التفاهم والتعاون.
وأضاف غليون أن هذا العجز ينسحب حتى على التواصل الإيجابي للضغط على هذه المؤسسات الممثلة للمعارضة، وإعادة بنائها، وإنتاج قيادة وطنية فاعلة تحظى بالثقة العامة.
وأوضح غليون أن النخب التي أشار إليها هي “التي تحظى بقسط من موارد القوة، سواء كانت القوة اقتصادية أو مالية أو حزبية سياسية، أو رصيدًا ثقافيًا رمزيًا، أو وجاهة اجتماعية”، وبالتالي، فإن الجميع مسؤولون عن حالة “العجز الوطني”.
ومنذ تشكيل “المجلس الوطني”، الذي ضم عددًا من الكتل والتيارات السياسية السورية في عام 2011، شُكّلت عشرات الأحزاب السياسية المستقلة والإسلامية والقومية،
فكاكٌ عن العجز.. كيف؟
في الشارع، تشهد المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري مظاهرات متكررة، تهاجم الأخير، أما في أروقة العمل السياسي فتنشط “هيئة التفاوض السورية”، التي تمثل المعارضة في اجتماعات اللجنة الدستورية، و”الائتلاف السوري” الذي يضم تشكيلات معارضة متعددة.
ويتهم “الائتلاف” بالضعف وعدم تقديم حلول حقيقية للشعب السوري على الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى عجزه عن التقدم بالحل السياسي.
ويرى الدكتور برهان غليون أن ضعف القيادة، يُغري القوى الدولية بمزيد من محاولة السيطرة على قرارها، وإلحاقها بها.
و”ضعف القيادة هنا لا يعني ضعف أشخاصها”، بحسب غليون، بل افتقارها لثقة جمهورها ودعم هذا الجمهور وتأييده، موضحًا أن القيادة الضعيفة، تحتاج بشكل أكبر إلى الارتماء على قوى خارجية، تدعمها وتلتحق بها.
ويعتقد الدكتور غليون أن ما يحصل هو معادلة “سلبية وقاتلة”، تلجأ فيها المعارضة للتعويض عن ضعفها الذاتي بالالتحاق بالقوى الإقليمية التي تدعمها، في حين أن التحاقها يزيد من فقدان ثقة الجمهور بها، ورفضه لتأييدها، كما يعزّز قوة منافسيها.
واعتبر غليون في حديثه إلى عنب بلدي، أن فكاك قوى المعارضة عن عجزها وتبعيتها أمرٌ ممكن عبر كسر هذه المعادلة الشريرة أو الفاسدة، ومنطقها استعادة ثقة الجمهور، وهو ما يرفع من درجة المصداقية لدى المعارضة، ويقلل من جموح القوى الإقليمية لاستخدامها أدوات وبيادق في لعبتها السياسية والاستراتيجية، وبحثها على احترامها، وتقدير استقلال قرارها، والاعتراف بشرعية قضيتها الوطنية.
كما أن النخب السورية، برأي غليون، “منقسمة بشكل لا يمكن تجاوزه ولأسباب غير مفهومة”، نافيًا في الوقت نفسه أن تكون الانقسامات “طائفية أو قبلية”، بل هي سياسية وسط تشكيك متبادل ضمن مواقف التجمعات والأحزاب، بحسب رأيه.
ويصف الدكتور غليون هذا الوضع بأنه “انعدام مذهل ومأساوي للثقة بين المجموعات والأفراد العاملين في السياسة اليوم، وهو ما يعطل أي إمكانية لبناء قوة، أو بناء إطار سياسي شعبي، أو قاعدة دعمٍ شعبي عريضة”.
وأشار الدكتور غليون إلى أنه بمجرد وجود هذه القوة والحصول على تأييد الناس وثقتهم، تتغير العلاقة بين القوى المتنافسة على وضع حلول لغير مصلحة الشعب السوري.
أهداف الروس في سوريا
مع تحول الثورة السورية إلى المواجهة المسلحة، وخسارة النظام السوري السيطرة على عشرات المناطق والمدن داخل سوريا، لجأ الأسد إلى الاستعانة بروسيا في عام 2015، لتتدخل بشكل مباشر في العمليات العسكرية، وهو ما أتاح المجال لموسكو للسيطرة على عشرات القطاعات الاقتصادية والخدمية وغيرها.
وسبق لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن قال في مؤتمر صحفي عام 2016، إن تدخل بلاده “سمح بقلب الوضع لمصلحة النظام السوري”، مؤكدًا أن عمليات سلاح الجو الروسي “نُفذت بناء على طلب النظام”.
كما تعرقل روسيا منذ سنوات أي حل سياسي تحت مظلة الأمم المتحدة في جنيف ووفق القرار الدولي “2254”، في حين رعت محادثات “أستانة” إلى جانب تركيا وإيران، فضلًا عن لعبها دورًا في المعارضة السورية من خلال إقحام منصات تصف نفسها بـ“المعارضة”، تدعمها بما يعرف بـ”منصة موسكو”.
وأسهمت روسيا في سيطرة قوات النظام السوري على مساحات واسعة من يد فصائل المعارضة السورية، منذ تدخلها الرسمي عسكريًا في أيلول 2015، وقتلت صواريخها آلاف المدنيين، كما دعمت سياسات التهجير تحت مسميات “المصالحة الوطنية” التي شردت آلافًا آخرين من منازلهم.
ويشير الدكتور برهان غليون إلى أن الدول المتدخلة عسكريًا لا تهتم كثيرًا بمصير الشعوب الأجنبية، أما النظم “الأوليغارشية” فلا تهتم حتى بمصائر شعوبها، وذلك ردًا على سؤال عنب بلدي عن الأهداف الروسية في سوريا.
وتعرف “الأوليغارشية” أو ما يسمى بحكم القلة، بأنها أحد أشكال الحكم الذي تكون السلطة السياسية فيه مقتصرة على فئة اجتماعية صغيرة، تتميز إما بثرائها أو نَسبها أو سلطتها العسكرية، وتعتبر من أنظمة الحكم التي لا تحترم القانون.
وأضاف الدكتور غليون، الذي يشغل حاليًا منصب مدير مركز “دراسات الشرق المعاصر” في جامعة “السوربون” بالعاصمة الفرنسية باريس، “ما يهم هذه الدول هو حل مشكلاتها وتناقضاتها، والردّ على التحديات التي تتعرض لها على حساب الشعوب الضعيفة”.
وبرأي غليون فإن هذه الدول تنتظر سقوط البلدان في صراعات وتترصد أزماتها، حتى تتدخل لحسابها.
وشرح الدكتور غليون الأمر بأن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وبوقوفه في سوريا ضد أي تغيير، يردّ على التهميش، “إن لم يكن الاحتقار الشديد”، الذي درج الغرب على التعامل به مع روسيا، ومع بوتين شخصيًا، منذ سقوط جدار برلين عام 1990 واختفاء الاتحاد السوفييتي.
و”هذا تجلّى في الطريقة التي سخر بها التكتل الغربي (الأمريكي- الأوروبي) عمومًا من روسيا، وضحكوا عليها خلال الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، ثم تدخل حلف (الناتو) في ليبيا، بعد اندلاع الثورة عام 2011″، بحسب رأيه.
وأضاف الدكتور غليون، “في البداية أرادت موسكو أن تقول للغرب إن روسيا موجودة، وإنها ترفض قاعدة اللعب التي انفرد بها الغرب بالقرار الدولي، وبالسياسة الدولية”، ثم طورت موقفها أمام شعورها بضعف الغرب وعدم استعداده لمقاومة سياستها الجديدة، ووضعت أهدافًا أكبر لتدخلها، وبالتالي صارت سوريا مسرحًا لموسكو لاستعراض القوة واستعادة دورها الدولي كقطب عالمي.
ويرى غليون أن هذه النتائج السياسية، تقف خلفها سياسة الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، الذي أراد التركيز على الداخل الأمريكي، فكبرت شهية روسيا، وصارت ترى في سوريا غنيمة تستحق الاحتفاظ بها، لموقعها الاستراتيجي، وثرواتها مثل أي مستعمرة جديدة، واستخدامها حقل تجارب مجانيًا لتحسين أداء الأسلحة الروسية، ومعرض بيع دائمًا لأسلحتها الجديدة.
وبناء على ما سبق، فإن موسكو لا ترى لا الشعب السوري ولا الأسد نفسه، بل ترى مصالح كبرى ينبغي حمايتها بأي وسيلة في مواجهة مطامع الأطراف المنافسة الأخرى (أمريكا وإيران وتركيا وغيرها)، وبالتالي فإن بقاء الأسد هو أفضل ضمانة لهذا الأمر.
وبرأي الدكتور برهان غليون، فإن الروس ينظرون إلى نظام الأسد على أنه “نظام خيانة موصوفة تسبب بتدمير بلاده وقتل شعبه للبقاء على كرسي الحكم”.
–