اعتُقل الأب في سجون النظام السوري وأُعدم بسجن “صيدنايا” دون علم عائلته، التي فوجئت مطلع فصل الشتاء الماضي بإجبارها من قبل “دائرة أملاك الدولة” على إخلاء منزلها الكائن في مدينة دمشق، الذي صدر قرار بمصادرته كونه يعود لـ”إرهابي”.
لم تكن زوجة المعتقل التي طلبت المساعدة من راوي الحادثة، الذي فضل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، تعلم أن زوجها الذي كان مغيّبًا قد نُفّذ بحقه حكم الإعدام، كما كانت تجهل مصيرها بعد قرار مصادرة منزل العائلة الذي يؤويها هي وأبناؤها.
يقول راوي الحادثة لعنب بلدي، “لم يجد استجداؤها للبقاء في منزلها ريثما تؤمّن مكانًا تلوذ به وعائلتها آذانًا صاغية، كما عجزنا عن إيجاد حل قانوني للمسألة، لقد خرجت الأسرة من المنزل رغم ظروف البرد القارس وعدم تأمين مأوى، ولم تستطع الاعتراض على قرار الإخلاء”.
ويضيف، “ما ذنب هذه الأسرة لينتهي بها المطاف في الشارع؟ حتى وإن وُجهت لصاحب المنزل تهمة (الإرهاب)، فكون المنزل مسجلًا باسمه في السجل العقاري، ليس مبررًا ليُصادر ويُحرم بقية أفراد الأسرة من حقهم فيه”.
منذ بداية عام 2011، أصدرت حكومة النظام السوري مجموعة من القوانين والمراسيم التشريعية المتعلقة بحقوق الملكية، كان لها تأثير على السوريين الموجودين داخل وخارج البلاد، كما شملت الحجز على الأموال المنقولة وغير المنقولة لمعارضين سياسيين أو متعاطفين مع الثورة السورية من فنانين ومثقفين وتجار، وُجهت إليهم تهم دعم ما يسمى بـ”الإرهاب”.
وقد عمد النظام السوري إلى الحجز على أملاك وأموال شخصيات بارزة في المعارضة السورية، كأداة عقاب وانتقام، ففي عام 2012، أصدر النظام السوري حكمًا بالإعدام بحق ابن وزير الدفاع الأسبق فراس طلاس، وهو رجل أعمال، ومؤسس “تيار الوعد السوري” ورئيسه السابق.
وأرفق الحكم بقرار ينص على مصادرة جميع أملاكه، نشرته وسائل إعلام سورية، وفق ما أشار في حديث إلى عنب بلدي.
وأوضح طلاس أن قرار المصادرة شمل الشركة التي كان يملكها في سوريا وتفرعاتها والأراضي التي شُيّدت عليها، إلى جانب منزله ومكتبه.
وحول ما آل إليه مصير العقارات المصادرة، بيّن طلاس أن المعلومات التي وصلت إليه تشير إلى بيع بعضها في المزاد العلني، واستخدام كل من المنزل والمكتب من قبل أشخاص تابعين للنظام.
يُعرّف الحجز الاحتياطي بأنه: “وضع مال المدين تحت يد القضاء، لمنعه من القيام بأي عمل قانوني أو مادي من شأنه أن يؤدي إلى استبعاده أو استبعاد ثماره من دائرة الضمان العام للدائن الحاجز”.
أما الحجز التنفيذي: فهو الحجز الذي بمقتضاه يطلب الدائن من القضاء الحجز على أموال المدين المنقولة وغير المنقولة وبيعها بالمزاد العلني لتسديد الدين، إذ يؤدي إلى نزع الملكية أي بيع العقار أو المنقول. وجاء تعريف المصادرة في “قانون مكافحة الإرهاب” رقم “19” لعام 2012 على أنها: “الحرمان الدائم من الأموال المنقولة وغير المنقولة، وانتقال ملكيتها إلى الدولة وذلك بموجب حكم قضائي”. |
مكافأة الأعوان
الحقوقية السورية جمانة سيف، تحدثت لعنب بلدي عن تفاصيل مصادرة النظام منزل والدها رجل الأعمال والبرلماني السابق رياض سيف، وأحد أبرز السياسيين المنشقين عن النظام.
فبعد خروجه من منزله الكائن في منطقة ضاحية قدسيا بدمشق عام 2012، أسكن فيه ثلاث عائلات ممن خسروا بيوتهم بسبب الحرب، وفي عام 2013 اقتحم المنزل عناصر من الأمن السوري، وطلبوا من العائلات القاطنة بالمنزل إخلاءه خلال مدة لا تتعدى العشرة أيام.
وأضافت سيف، “أخرجوهم بالتهديد والإجبار، وصادروا المنزل المكوّن من طابقين والذي يتمتع بموقع استراتيجي مهم، لنعلم لاحقًا من مصادر متقاطعة أن ضباطًا ممن كانوا يتناوبون على الحاجز القريب من المنزل هم من سكنوه، وحتى العام الماضي كان لا يزال يوجد فيه أشخاص غرباء، أما حاليًا فلم نعد نعلم ما حلّ به”.
قرار المصادرة طال أيضًا منزل عضو اللجنة الدستورية ورئيسة ملف المعتقلين في “هيئة التفاوض السورية”، أليس مفرج، في منطقة جرمانا بريف دمشق، وفق ما أطلعت عليه عنب بلدي.
فبعد اعتقالها بسبب مشاركتها بالمظاهرات السلمية وعملها في المجال المدني، بما فيه الإغاثي، والعمل السياسي، وخروجها بموجب صفقة تبادل، تمكنت من الهروب إلى لبنان في أيلول من عام 2014، لتلحق بزوجها الذي كان مطلوبًا أيضًا لأكثر من فرع أمني.
وقد استأجرت المنزل حينها عائلة مهجرة من محافظة حمص حتى بداية عام 2015، إذ صدر قرار من قبل فرع “أمن الدولة” بمصادرة المنزل.
ولم يكتفِ الأمن بإخراج العائلة المستأجرة من المنزل، بل طالب أيضًا بدفع جميع فواتير الماء والكهرباء المترتبة عليه، ثم سلّمه إلى شخص متنفّذ في “اللجان الشعبية” (الدفاع الوطني) بجرمانا.
وأكدت مفرج أهمية أن تناقش اجتماعات اللجنة الدستورية السورية صياغة نصوص دستورية من شأنها معالجة الانتهاكات التي طالت حقوق الملكية العقارية خاصة خلال سنوات النزاع، إلى جانب إيقاف القوانين السالبة للملكية أو المقيدة لها، وفرض الالتزام بالقوانين الدولية الضامنة لحقوق الملكيات، كما نوهت إلى ضرورة أن يكون هذا الملف ضاغطًا على طاولة مفاوضات “جنيف”، إذ لا يمكن الحديث عن تأمين بيئة آمنة ومحايدة لعودة اللاجئين دون رد الملكيات لأصحابها، مؤكدة استخدام النظام السوري الحجز على الأملاك ومصادرتها كأسلوب عقابي لمعارضيه.
خلال السنوات الماضية، أصدر النظام السوري قرارات الحجز الاحتياطي على أملاك مواطني مناطق ثارت ضده، كـالغوطتين الشرقية والغربية، ودرعا، وحماه، والقنيطرة، والسويداء، وإدلب، وغيرها، وكانت هذه القرارات بمثابة عقوبة جماعية ضد قاطني هذه المناطق، وتمهيدًا لإجراء تغيير ديموغرافي بطرق “قانونية” فيها. |
وسائل تبليغ بدائية
مع طول أمد الحرب، تطول قائمة أسماء الأشخاص الذين صودرت ممتلكاتهم، ويصعب الوصول إلى أرقام دقيقة حولها، خاصة أن كثيرًا من السوريين ما زالوا يتفاجؤون بوجود حجز على عقاراتهم، إذ لا يتم إبلاغهم من قبل الجهات الحكومية بالقرارات التي اتُّخذت بحقهم.
ويصدر قرار الحجز الاحتياطي ضد المعارضين من قبل وزير المالية، بناء على طلب إحدى الجهات الرسمية أو أحد أجهزة الأمن والمخابرات، كما قد تصدره النيابة العامة لدى محكمة “الإرهاب” إذا أحيلت القضية إليها، وفق ما أوضحه محامٍ سوري مطلع في حديثه إلى عنب بلدي.
وأشار إلى أن الكشف على صحيفة العقار، والحصول على قيد عقاري له، هو الطريق لمعرفة إذا كان العقار محجوزًا أو مصادرًا، مبينًا أن ذلك متاح لأي شخص كون قيود السجل العقاري علنية.
ولفت المحامي إلى أنه لا يتم عادة إبلاغ الأشخاص بالحجز على عقاراتهم أو مصادرتها، بل يتم تبليغهم بإقامة الدعوى الجزائية عليهم بواسطة طرق بدائية كوضع ملصق على لوحة إعلانات المحكمة.
ويتحول الحجز إلى مصادرة بالحكم النهائي من قبل المحكمة، سواء كانت “ميدانية” أو “إرهاب”، إذ تحكم المحكمة بالعقوبة وبالمصادرة، ثم ترسل كتابًا بذلك إلى “إدارة أملاك الدولة” في وزارة الزراعة، التي تخاطب “السجل العقاري” لنقل الملكية إلى اسم “الجمهورية العربية السورية”، ومن ثم تقوم “إدارة أملاك الدولة” بإخلاء العقار وتسلّمه عن طريق الشرطة.
وأوضح المحامي أن الاعتراض على أحكام محكمة “الإرهاب”، ورفع الحجز والمصادرة، يقتضي أن يسلّم المتهم نفسه للسلطات السورية، لكي تعاد محاكمته.
وأكد أن عملية المصادرة يجب أن تشمل أملاك الشخص نفسه، ولا تتعداها إلى أفراد أسرته، لأن العقوبة شخصية.
انتقادات قانونية لمحكمة “الإرهاب”
عمد النظام السوري إلى مصادرة ممتلكات كثير من السوريين بطرق مختلفة وحجج شتى، وبما أن محكمة “الإرهاب” معفاة من التقيد بالقواعد والأصول القانونية في أثناء النظر بالدعاوى، وكون هذه المحكمة أُنشئت لمحاكمة معارضي النظام السوري داخل سوريا وخارجها، ويتم تعيين قضاتها من قبل رئيس الجمهورية، حينها يمكن أن نتخيل حجم الأموال المنقولة وغير المنقولة التي قامت وستقوم هذه المحكمة بمصادرتها، وفقًا للقاضي السوري رياض علي.
نص قانون “مكافحة الإرهاب” رقم “19” لعام 2012، في المادة “12” منه على أنه، “في جميع الجرائم المنصوص عليها في هذا القانون، تحكم المحكمة بحكم الإدانة بمصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة وعائداتها والأشياء التي استخدمت أو كانت معدة لاستخدامها في ارتكاب الجريمة، وتحكم بحل المنظمة الإرهابية في حال وجودها”. |
يرى علي أنه لا يمكن اعتبار محكمة “الإرهاب” إلا جهازًا رديفًا لأجهزة المخابرات السورية، لكن بلبوس المحكمة وقضاتها وقوانينها الاستثنائية، فقد أتت كبديل عن محكمة “أمن الدولة العليا” سيئة الصيت، بعد أن تم إلغاؤها عام 2011 كمحاولة يائسة من النظام للحد من الاحتجاجات الشعبية التي عمت البلاد آنذاك، فقضاة هذه المحكمة يسميهم رئيس الجمهورية بمرسوم، ومن المؤكد أنه لن يسمي من القضاة إلا أولئك المحسوبين عليه والساعين إلى نيل رضاه، كما أن هذه المحكمة معفاة من التقيد بالأصول والقواعد القانونية المنصوص عليها بالقوانين السورية، في جميع أدوار وإجراءات الملاحقة والمحاكمة، وهو ما يعني تمتّع قضاتها بصلاحيات واسعة وغير منطقية، وهم ينظرون في قضايا تمس حيوات الناس وحرياتهم وممتلكاتهم.
كما أن أحكام هذه المحكمة تقبل الطعن أمام غرفة خاصة في محكمة “النقض”، وقضاة هذه الغرفة يتم تسميتهم أيضًا من قبل رئيس الجمهورية، المسؤول المباشر عن جميع الانتهاكات والجرائم التي حصلت وتحصل في سوريا، ولم يميز قانون إحداث المحكمة بين المدنيين والعسكريين، ولا بين البالغين والأحداث، وجميعهم يحاكمون أمامها على حدّ سواء، وهذا يعد افتئاتًا على قانون أصول المحاكمات الجزائية، وقانون الأحداث الجانحين، وعلى اختصاص قضاء الأحداث، وقد تمت محاكمة أطفال لم تتجاوز أعمارهم الـ16 عامًا أمامها.
وإضافة إلى ذلك، فقد استندت المحكمة إلى القانون رقم “19” الذي جاء بمصطلحات “فضفاضة” تحتمل أكثر من تأويل وتفسير على هوى القاضي الناظر في الدعوى، المعفى أصلًا من التقيد بالقواعد والأصول القانونية.
قالت منظمة “هيومن رايتس ووتش” إن “محكمة الإرهاب تستغل الأحكام الفضفاضة لقانون مكافحة الإرهاب، لإدانة ناشطين سلميين بتهمة مساعدة الإرهابيين في محاكمات تنتهك الحقوق الأساسية في الإجراءات القضائية السليمة، ويتم توجيه الاتهامات تحت ستار مكافحة التشدد العنيف، لكن المزاعم المأخوذة على الناشطين لا تزيد في الواقع على أفعال من قبيل توزيع المساعدة الإنسانية والمشاركة في مظاهرات وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان”. |
ويرى علي أن محكمة “الإرهاب” ليست سوى محكمة استثنائية شكّلها النظام بهدف التخلص من خصومه السياسيين، وأن طريقة تشكيلها ومعالجتها للقضايا المنظورة أمامها، يجعلنا ندرك أنه من الصعب إدراجها في قائمة المحاكم المطالبة بتحقيق معايير المحاكمة العادلة، كما لا يمكن الحديث عن مبدأ استقلالية القضاء في سوريا، مع وجود هذه المحكمة وبهذا الشكل.
أوعزت “المديرية العامة للمصالح العقارية” بتسريع مصادرة أملاك السوريين المشمولين بقانون “الإرهاب”، ونقل ممتلكاتهم لمصلحة الدولة.
وقد ذكر التعميم المذكور الذي حمل الرقم “346” بأنه يجب “على جميع دوائر المصالح العقارية في المحافظات، إيلاء الأحكام القطعية الخاصة بالمصادرة، والصادرة بموجب أحكام قانون “الإرهاب” رقم (19) لعام 2012 الأولوية والأهمية المطلوبة، وعدم تأخير تنفيذها، ونقل الملكية من اسم المحكوم عليهم، إلى اسم الجمهورية العربية السورية”. |
عشرات آلاف حالات الحجز الاحتياطي
كشفت لوائح نشرتها وزارة المالية عن وجود 40 ألف حالة حجز احتياطي على الأموال المنقولة وغير المنقولة لسوريين في عام 2017، و30 ألفًا في عام 2016، معظمها بسبب ما وصفها النظام بـ”التورط بأعمال إرهابية”، ويرى القاضي رياض علي أنه إذا نظرنا إلى هذه الأرقام “المرعبة”، والسعي الحثيث للجهات التابعة للنظام إلى التأكيد على السرعة في تنفيذ القرارات الصادرة عن هذه المحكمة بخصوص مصادرة العقارات العائدة ملكيتها للمحكومين من قبل هذه المحكمة، وهم حقيقة المعارضون لنظام الأسد، نعلم “حجم الكارثة” التي سيواجهها السوريون في الأيام المقبلة.
أعلن معاون وزير المالية في حكومة النظام السوري، بسام عبد النبي، في 28 من أيلول 2019، عن تنفيذ قرار الحجز الاحتياطي على الأموال المنقولة وغير المنقولة بحق 10315 شخصًا، منذ مطلع العام نفسه.
وأضاف أن عدد قرارات الحجز الاحتياطي على الأموال المنقولة وغير المنقولة لعدد من المسؤولين في الحكومة السورية بلغ نحو 538 قرارًا. وأوضح عبد النبي أن قيمة الأموال المقدرة من قرارات الحجز الاحتياطي، الصادرة منذ بداية عام 2019، وصلت إلى 1.8 مليار ليرة، دون تبيان قيمة المبلغ المحجوز في كل قرار. |
وقد منح المرسوم التشريعي رقم “63” لعام 2012 سلطات الضابطة العدلية في أثناء إجراء تحقيقات بخصوص الجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي أو الخارجي، وكذلك الجرائم الواردة في قانون “مكافحة الإرهاب”، الحق بمخاطبة وزارة المالية خطيًا، وطلب اتخاذ الإجراءات التحفظية اللازمة على الأموال المنقولة وغير المنقولة للمتهم، كما ومنح هذا الحق للنيابة العامة ولقاضي التحقيق في أثناء نظر الدعوى اتخاذ هذه الإجراءات في مواجهة المتهم أو المدعى عليه، بما في ذلك المنع من السفر، وذلك إلى حين البتّ في الدعوى بحكم قضائي مكتسب الدرجة القطعية، وهو ما يعني منح الصلاحيات للضابطة العدلية، بمن فيهم عناصر الشرطة والأمن، بطلب إلقاء الحجز على أموال وممتلكات الشخص الذي هو قيد التحقيق، ويعتبر علي أن مؤسسات النظام السوري اجتهدت في التفنّن بمصادرة أملاك السوريين وخاصة المعارضين منهم، لمنعهم من العودة إلى ديارهم ودفع من تبقى منهم للرحيل، “لخلق مجتمع أكثر صحة وتجانسًا” كما قالها بشار الأسد يومًا.
أصدرت وزارة المالية السورية، في 3 من كانون الأول الحالي، قرارًا يقضي بالحجز الاحتياطي على الأموال المنقولة وغير المنقولة العائدة لمحافظ ريف دمشق السابق، علاء إبراهيم، وزوجته وأولاده.
وفي بيان لوزارة المالية اطلعت عليه عنب بلدي، سمى الشخصيات التي حُجزت أموالها، وهي: المحافظ السابق علاء منير إبراهيم، وزوجته ريم حاج نجيب، وأولادهما باسل، وفاطمة الزهراء، وبشار. ولم ترد تفاصيل عن أسباب قرار الحجز الاحتياطي، وما إذا كان الأمر متعلقًا بعمل إبراهيم كمحافظ في السنوات الأربع الماضية، أو بقضايا أخرى. |
ما انعكاس عمليات مصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة على الاقتصاد السوري؟
الباحث في “المركز السوري لبحوث السياسات” ربيع نصر، أوضح الطرق التي يلجأ إليها النظام للاستيلاء على الملكيات والأموال العائدة لمعارضين، وانعكاس ذلك على الاقتصاد السوري.
وفي حديث إلى عنب بلدي، أشار نصر إلى وجود طرق مباشرة وأخرى غير مباشرة يتبعها النظام السوري في السيطرة على الأملاك، إذ قد يحصل استحواذ على الملكية من قبل أشخاص متنفذين في النظام، أو ميليشيات تابعة له بفرض الأمر الواقع، وهو ما يتبعه في الغالب نقل ملكيتها لهم من خلال تزوير الأوراق الثبوتية، الأمر الذي حدث بشكل كبير في سوريا خاصة في السنوات الأولى من الحرب، وقد يعمد النظام إلى وضع يده على عقار معيّن دون التلاعب بأوراقه، وفي هذه الحالة يبقى احتمال عودته إلى صاحبه الأصلي لاحقًا ممكنًا، إلا إذا كان مصنفًا على “قائمة الإرهاب”، فعندها لن يتمكن حتى أهله أو أقاربه من المطالبة بحقهم في الملكية.
أما الطرق غير المباشرة للاستيلاء، التي وصفها نصر بـ”الأخطر”، فقد تتمثل بالضغط على الشخص حتى يضطر لبيع أملاكه بأسعار بخسة، ويحصل ذلك عندما يعمد النظام إلى فرض حجز احتياطي أو وضع إشارة حجز على العقارات التي يملكها أشخاص معارضون، وأغلبهم يكونون بحاجة إلى أموال أو إلى سيولة ليكملوا حياتهم في الخارج، ما يجعلهم يضطرون لدفع مبالغ للنظام حتى تُرفع الإشارة عن أملاكهم ويتمكنوا من بيعها، وغالبًا ما تحدث عمليات البيع بأسعار أقل من السعر الحقيقي، كما يتم الضغط على التجار الكبار من أجل البيع بأسعار أقل بكثير من سعر العقار الحقيقي، كما حصل مع رجل الأعمال السوري زهير الغريواتي.
طرحت شركة “شام القابضة” أسهم شركة “أبناء زهير الغريواتي” للبيع من حصة الشركة في مزاد علني، وذكرت الشركة في بيان صادر عنها، في 19 من تشرين الثاني 2019، أنها ستبيع نحو ثلاثة ملايين و90 ألفًا من أسهم شركة “الغريواتي”، موضحة أن الشركة “تخلفت عن تسديد قيمة القسط الخامس من أسهمها لشركة شام القابضة”، بحسب ما ذكره موقع “الاقتصادي“.
وتعد أسهم شركة “أبناء زهير الغريواتي” هي الخامسة التي طُرحت للبيع، بعد أن أقدمت “شام القابضة”، في 28 من شباط 2018، على بيع 17 مليونًا و740 ألفًا و843 سهمًا، تعود إلى أربعة مساهمين، أبرزهم محمد وخالد سماوي والصناعي محمود فرزات، وقالت الشركة حينها إن سبب البيع يعود إلى تخلّف المساهمين الأربعة عن تسديد القسط الرابع من أسهم الشركة. وكانت وزارة المالية في حكومة النظام السوري أصدرت، في تشرين الأول من عام 2017، قرارًا يقضي بالحجز الاحتياطي على جميع الممتلكات العائدة لرجل الأعمال السوري زهير الغريواتي وعائلته داخل سوريا. وتضمّن القرار الصادر آنذاك حجز الأموال المنقولة وغير المنقولة لزهير الغريواتي، الذي غادر سوريا عام 2012 إلى دولة الإمارات، وعشرة من أفراد عائلته، لتصادر لاحقًا. ويعد الغريواتي أبرز الحائزين على وكالات تجارية في تصنيع السيارات مثل “لاند روفر”، “جاكوار”، “فورد”، “كيا”، “ميركوري”، “لنكولن”، إضافة إلى حصوله على وكالة شركة “إل جي” الكورية العالمية للإلكترونيات المنزلية. |
وإلى جانب ذلك، قد تعمد البنوك الخاصة إلى أخذ رهون ممن لم يسددوا قروضها، فعلى سبيل المثال، كان الجهاز التابع لرجل الأعمال رامي مخلوف، ابن خال رئيس النظام، يشتري الرهن من البنك بربع سعره، وفي إحدى الحالات رفض أحد البنوك عملية البيع لكون السعر الحقيقي يعادل عشرة أضعاف ما عرضه، فتم فصل موظفي البنك، وتحولت ملكيته لرامي مخلوف وشركاته، وفقًا لنصر.
ويمثّل القانون رقم “10” إحدى الطرق غير المباشرة للاستيلاء على أملاك المعارضين، بحسب نصر، إذ سيتعذر على المعارض استخراج الموافقة الأمنية المطلوبة لإجراء عملية التوكيل، وبالتالي سيصبح من الصعب وجود شخص يدافع عن أملاكه أو يمثلها، وهو ما قد يعرضه لخسارتها عندما تجري عملية إعادة تنظيم المنطقة، كما لن يتمكن أصحاب هذه العقارات من التصرف بملكياتهم أصلًا، لورود أسمائهم على “قائمة الإرهاب” التي وضعها النظام.
حذرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية في تقرير لها من أن تطبيق القانون رقم “10” في سوريا، سيؤدي إلى “الإخلاء القسري” للمواطنين غير القادرين على إثبات ملكيتهم، واعتبرت المنظمة أن القانون يؤثر على حقوق الملكية، ولا يقدم إجراءات محاكمة أو تعويض، ويصل إلى حد “الإخلاء القسري” بحق المالكين، ومصادرة أملاك من لا يملكون حقوق ملكية معترفًا بها.
وقالت نائبة مديرة قسم الشرق الأوسط في المنظمة، لما فقيه، إن “القانون رقم (10) يشكل إضافة مقلقة إلى ترسانة الحكومة السورية من قوانين التخطيط العمراني التي استخدمتها في مصادرة الممتلكات، دون مراعاة الأصول القانونية أو التعويض”. وكان رئيس النظام السوري، بشار الأسد، أصدر القانون رقم “10”، في 2 من نيسان 2018، وينص على “إحداث منطقة تنظيمية أو أكثر ضمن المخطط التنظيمي العام للوحدات الإدارية”. |
في ميزان الخسائر والأرباح.. كفة الخسائر راجحة
يؤكد الباحث الاقتصادي أن التعدي على الممتلكات الخاصة، وحرمان الأشخاص من ملكياتهم، يشكل أمرًا خطيرًا جدًا على مستقبل الاستثمار في البلاد، وعلى الثقة بين المؤسسات والناس.
وأشار إلى أن موجة التأميم التي فرضتها الحكومة السورية أدت إلى تخوف رجال الأعمال من أي استثمار كبير في البلاد، وهو الأمر الذي استمر لعشرات السنين، لافتًا إلى أن عمليات الاستحواذ غير الشرعي من خلال “البلطجة”، ستفضي إلى إضعاف الثقة بالمؤسسات العامة، ولاحقًا بإمكانية الاستثمار والإنتاج والاستقرار في سوريا.
واعتبر نصر أن خسائر النظام هي أكبر بكثير مما قد يجنيه من فوائد جراء عمليات المصادرة، فبينما قد تكون لها فائدة مباشرة تتمثل بمكافأة أتباعه من خلال قيمة العقارات الموجودة بشكل مباشر أو عوائدها لاحقًا، إذا كانت مصانع أو تجهيزات أو آلات على سبيل المثال، وهو ما قد يعني احتكار قطاعات اقتصادية وإعطاء المنافع لدائرة ضيقة يمكن أن تستفيد منها في تمويل أنشطتها، لكن ذلك سيكون على المدى القصير والمتوسط، ولاحقًا لن يتمكن النظام من جذب رجال الأعمال الجديين للاستثمار بهذه الممتلكات.
القانون الدولي يصون الحريات الفردية
تحمي القوانين الدولية حقوق الملكية الفردية، وتفرض حمايتها من الحجز أو الاستيلاء من قبل الحكومات، إذ ينص “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” في المادة “17” منه على أنه “لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفًا”.
وقد وجدت القوانين لضمان سيادة القانون، وتعزيز حماية الحقوق الفردية للممتلكات، وفق ما أكده مدير مركز “العدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، لعنب بلدي.
وأشار إلى أن بعض القوانين تنص على فرض تدابير عقابية أو احترازية أو توصيات بهذا الخصوص، وهي جزء من القوانين والمعاهدات التي تحمي حقوق الملكية، فهي ليست محمية فقط بموجب القوانين المحلية، أو التشريعات الوطنية، وإنما أيضًا بموجب القوانين الدولية.
ويشكل “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” الذي اعتمدته “الجمعية العامة للأمم المتحدة” عام 1948، أحد أبرز المبادئ الدولية التي تحمي حقوق الملكية الفردية، خاصة في المواد “8” و”17″ و”25″ منه، إلى جانب، “العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية“، و”الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان لعام 1969“، و”الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب“، و”المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة حول الإزاحة الداخلية“.
كما يحمي الدستور السوري في مواده “15” و”16″ و”17″ الحق في الملكية الفردية، ويعزز تلك الحماية “القانون المدني السوري” و”قانون التخطيط وتنظيم عمران المدن” رقم “23” لعام 2015.
إن استعادة اللاجئين والنازحين لممتلكاتهم حق قائم بذاته وفقًا لمبادئ “بينهيرو” التي تبنتها “اللجنة الفرعية لحماية وتعزيز حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة” عام 2005، إذ تؤكد هذه المبادئ على الحق في استعادة الملكيات التي فُقدت تعسفًا، أو أن يتم التعويض عنها بقرار من محكمة مستقلة ونزيهة في حال استحالة الاستعادة على أرض الواقع. |
نصائح للأشخاص الذين صودرت أملاكهم
النصيحة الأساسية التي يقدمها الحقوقي محمد العبد الله للأشخاص الذين صودرت أملاكهم على خلفية أسباب تتعلق برأيهم السياسي، هي توثيق “الآلية القانونية” التي استخدمها النظام في عمليات المصادرة.
ففي بعض الحالات تم إلقاء الحجز الاحتياطي على الممتلكات من قبل وزارة المالية، وفي أخرى تمت المصادرة من قبل النظام عبر حكم محكمة غيابي بحق الأشخاص.
أما الخطوة التالية فتتمثل بتتبّع ما حصل لهذه الممتلكات، هل بيعت بمزاد عام وحصل النظام على أموال نقدية بقيمتها؟ أم وهبها لميليشيات أو قطع عسكرية أو كمكافآت للضباط؟
وبيّن العبد الله أنه في حين يمكن إيقاف الآلية أو عكسها في الاحتمال الثاني، فإنه لا يمكن إخلاء شخص يشغل عقارًا اشتراه بمزاد علني بحسن نية دون أن يعرف أنه مُصادر من صاحبه، لأنه دفع ثمنه وأصبح من ممتلكاته الخاصة.
ويرى العبد الله أنه وفي ظل غياب دولة القانون داخل البلاد، فلا يوجد آلية حقيقية للتظلّم سوى استئناف مثل هذه الأحكام، وهو الأمر الذي قد يعطي نوعًا من الشرعية على الإجراء، إذ إن القرار سياسي في أساسه كما هو معلوم، وليس قرارًا قانونيًا.
إعادة الحقوق إلى أصحابها
يعتبر العبد الله أن أملاك المهجرين والنازحين السوريين، والأشخاص الذين سُلبت عقاراتهم أو تم استملاكها ضمن القانون رقم “10”، أو غيره من القوانين الهادفة لـ”إعادة الإعمار”، كلها يجب أن تعود إلى أصحابها ضمن برنامج وطني متكامل لإعادة الممتلكات، يُخصّص بموجبه بند للأشخاص الذين تم الانتقام منهم لأسباب سياسية، ومعاقبتهم بشكل شخصي عبر مصادرة ممتلكاتهم أو حجزها أو تجميدها أو بيعها.
“فإما أن نكون أمام برنامج وطني يعيد جميع الحقوق إلى أصحابها، وإما لن يكون هناك إعادة للحقوق بشكل فردي”، وفق العبد الله.
ولفت إلى بعض الحالات التي يمكن أن يستأنف أصحابها ويتمكنوا من الحصول على نوع من التعويض بحال حدوث تغيير سياسي في سوريا، لكنه استدرك بالقول، إن الخيار الأسلم هو إنشاء برنامج وطني شامل لاستعادة الممتلكات، يتم توثيق جميع حالات الاستيلاء فيه.
تضمين إعادة الأملاك بخطط اللجنة الدستورية والعملية السياسية
وأكد مدير مركز “العدالة والمساءلة” على ضرورة أن يكون الضغط الأساسي من قبل منظمات المجتمع المدني حاليًا على مسار المفاوضات الدولية للحل السياسي، بما في ذلك منظمة الأمم المتحدة، والمبعوث الأممي، غير بيدرسون، لتضمين اتفاق السلام في سوريا بندًا واضحًا عن استعادة الممتلكات، لافتًا إلى تسليم منظمات سورية المبعوث الخاص السابق، ستيفان دي مستورا، على هامش محادثات “جنيف 3” عام 2016، وثيقة مشتركة تضم النقاط الخمس الأساسية التي ترغب بالتركيز عليها، وكان من بينها استرداد الملكيات العقارية من خلال برنامج وطني يشمل جميع الفئات المتضررة.
–