حباء شحادة | صالح ملص
مئات صارعوا لالتقاط أنفاسهم، صراخهم شق هدأة الليل، وأبدل الرعب بسكون الصيف، احتار الطبيب سليم نمور، الذي عايش مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية، بطريقة وصفه.
بحلول آب عام 2013، كانت الغوطة الشرقية اعتادت على القصف المتواصل والحصار والجوع لسكانها، البالغ عددهم نحو 800 ألف نسمة، لكن وبعد دقائق من وقوع القذائف في ليلة 21 من آب، سرت أنباء الاختناق.
لم تكن المرة الأولى التي سمع فيها السوريون أنباء استخدام السلاح الكيماوي من قبل النظام ضد مناطق المعارضة، وكانت إجراءات التعامل معه حاضرة في ذهن مدير مشفى “الكهف”، الطبيب سليم نمور، الذي سارع مع بقية الكوادر الطبية للنجدة، حسبما قال لعنب بلدي.
فتح الوريد وإعطاء “الأنتروبين” والأوكسجين واستخدام “المنافس”، ثقافة عامة امتلكها المسعفون والأطباء الذين لم يهدؤوا وهم يحاولون لحاق المصابين، تساندهم “فزعة” السكان الذين عملوا على إنقاذ أهلهم وجيرانهم ما استطاعوا خلال ثلاثة أيام، تحولت فيها الغوطة إلى “خلية نحل” لم تعرف معنى النوم.
إلا أن ضجة الألم والموت وقبضة “السارين” الخانقة التي أحكمت على نفس من اجتهد بالإنقاذ بلا لباس واقٍ يحميه، لم تُنسِ الأطباء أخذ عينات من المصابين، من الدم والشعر والبول والملابس، وحفظها لـ”توثيق الجريمة وحفظ الحقوق”.
فما مآلات هذا التوثيق؟ وما تأثير الأدلة على مسار العدالة لضحايا هجمات الأسلحة الكيماوية في سوريا؟
أسئلة التقت عنب بلدي في هذا الملف مع شهود وناشطين وخبراء وحقوقيين في محاولة للحصول على إجابات عنها.
ذكريات لا يمحوها الزمن..
أي الأحباء علينا أن نترك للموت
محمد حميدان كان عضوًا في “تنسيقية زملكا” ومراسلًا لقناة “الآن”، في آب عام 2013، وكان شاهدًا على المجزرة وحاول توثيقها إلا أنه توجه للإغاثة والإسعاف، الذي كان أكثر ضرورة، حسبما قال لعنب بلدي.
استغرب محمد من صوت القذائف التي سقطت تلك الليلة وهو عائد إلى بيته، في الساعة 01:45، لم يكن صوت انفجار مدوٍّ، بل كان صوتًا عميقًا “مثل انفجار بالون ممتلئ بالماء”، كما وصفه.
دقائق فصلته عن الوصول إلى النقطة الطبية، حاملًا الكاميرا، ليفاجأ بأعداد المصابين الذين كانت السيارات المسعفة تتابع إيصالهم إلى المشفى، ليتلقاهم المسعفون بمحاولات إنقاذ سريعة.
ترك محمد الكاميرا من يده واتجه لتقديم المساعدة، مستفيدًا من معرفته بالإسعاف وحقن الإبر وغسل المصابين، ليشهد على دخول آلاف الإصابات ووفاة العشرات بين أيدي المسعفين، في حين كان النظام يتابع القصف بالراجمات والمدفعية على زملكا وعين ترما وجوبر، ودباباته تحاول اقتحام جوبر وزملكا وعربين.
شبّه محمد تلك الساعات بـ”يوم قيامة مصغر” مع ما شهده من مآسٍ لا تمحى، “أذكر أنني كنت أحاول تقديم الأوكسجين لامرأة خمسينية تصارع الموت، وقربها ابنتها وهي تحمل طفلها المصاب الذي يحتاج إلى الأوكجسين أيضًا، وبسبب نقص الأقنعة كانت تتألم (…) يا ترى هل تطلب مني ترك أمها لأقدم الأوكسجين لابنها؟ أو هل تترك ابنها بلا أوكسجين لأجل أمها؟ الأم توفيت حينها بين يدي”.
بعد تقديم المساعدة مدة ثلاث ساعات متواصلة، بدأ التلوث بالمواد الكيماوية يؤثر على محمد، الذي عاد إلى منزله محاولًا تمالك نفسه، قبل أن يعود مجددًا متابعًا ارتفاع أعداد القتلى والمصابين، إلى أن صار عدد القتلى في زملكا وحدها 900 ضحية موثقين بالاسم.
قدم محمد شهادته حول ما جرى لجهات حقوقية عدة، وسمع من لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة قولها بعد أيام من الهجمة، إنه “لا مجال للشك بالفاعل”، ولكن حين وصل الملف إلى مجلس الأمن تبدلت تلك الأقوال، واعتبرت اللجنة ما تملكه من أدلة غير كافٍ بعد لقطع الشك باليقين.
سرعة في التوثيق والإنكار
مئات توفوا ودُفنوا في قبور جماعية بلا شواهد، بعد أن اُلتقطت صورهم وحُفظت من قبل ناشطين وثقوا ما استطاعوا من أسماء ومعلومات عن الضحايا، في حين انشغل النظام السوري بإنكار الهجمات، وصولًا إلى لوم الضحايا برواية خطف المعارضة للرجال والأطفال من قرى اللاذقية وإحضارهم للغوطة واستخدام السلاح الكيماوي ضدهم، وهي رواية فاجأت فيها مستشارة القصر الجمهوري، بثينة شعبان، العالم، بعد أيام قليلة من الهجوم.
16 صاروخًا من نوع أرض- أرض استهدفت بلدات الغوطة الشرقية، وكان تركيزها على زملكا وكفربطنا وعربين وعين ترما، وسببت صدمة دولية، لانتهاكها “الخط الأحمر” الذي كان الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، قد أعلن عنه في 20 من آب عام 2012، مهددًا بالقول، “لقد كنا واضحين تمامًا مع نظام الأسد، ولكن للأطراف الأخرى على الأرض أيضًا، الخط الأحمر بالنسبة لنا هو ملاحظتنا لأعداد كبيرة من الأسلحة الكيماوية وهي تنقل وتستخدم. ذلك قد يغير حساباتي”.
بعد أسبوع من وقوع الهجوم، وبجهود الناشطين والحقوقيين والأطباء، دخلت لجنة تحقيق دولية إلى الغوطة، وتسلمت إحصائية الضحايا، التي بلغت عشرة آلاف إصابة ومقتل أكثر من 1530 شخصًا، حسبما قال الدكتور سليم نمور، الذي رافق المحققين وقدم لهم الأدلة.
ولكن التقصي الأممي والتهديد الأمريكي لم يؤدِّ إلى أي تحرك عسكري ضد سوريا، فبعد 18 يومًا من الدراسة والسعي للحصول على موافقة الكونجرس لإجراء الضربات، تنصل أوباما من تهديداته السابقة قائلًا، “العالم وضع خطًا أحمر حين قالت الحكومات التي تمثل 98% من سكان العالم إن استخدام الأسلحة الكيماوية محرم، وأقرت معاهدة تحرم استخدامها، حتى حين تكون الدول في حالة حرب”، وأعلن في 9 من أيلول 2013 تأجيل الغارات الجوية وتجديد التركيز على الحلول الدبلوماسية.
وبعد خمسة أيام، اتفق وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، ووزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، على إزالة وتدمير ترسانة الأسلحة الكيماوية لسوريا، مع إصدار مجلس الأمن القرار “2118”، في 27 من أيلول 2013، للإشراف على التخلص من الترسانة بأضمن وأسرع الطرق الممكنة.
وانضم النظام إلى “معاهدة الأسلحة الكيماوية”، التي تحظر استخدام وتطوير وإنتاج وتخزين ونقل الأسلحة الكيماوية، في تشرين الأول من عام 2013، معلنًا عما قال إنه مخزونه من الأسلحة الكيماوية، مقدمًا إياها لـ”المهمة المشتركة لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية والأمم المتحدة”، التي أشرفت على التخلص من الترسانة، إلى أن أعلن مدير منظمة “حظر الأسلحة الكيماوية” تنفيذ المهمة بـ”نجاح تحت ظروف معقدة وصعبة للغاية”، في 19 من آب 2014.
لم تجلب التحركات الدولية تلك الطمأنينة للضحايا والشهود، ووصف الطبيب سليم نمور مشاعر الناجين بـ”الخذلان” بعد صفقة التسليم التي كانت “عارًا” على العالم، مشيرًا إلى أن حق الضحايا “لن يموت” ولن يسكت الشهود عن الجريمة.
تقارير أممية في مسار العدالة السورية
تثبت ضلوع النظام ولا تتحرك ضده
عشرات التقارير التي أصدرتها منظمة “حظر الأسلحة الكيماوية” حول استخدام السلاح الكيماوي في سوريا لاقاها النظام وحلفاؤه بالاستنكار والنفي وتجاهل الأدلة.
تنص اتفاقية “حظر الأسلحة الكيماوية” على أن تتعهد كل دولة طرف فيها بألا تقوم باستحداث أو إنتاج الأسلحة الكيماوية أو حيازتها بطريقة أو بأخرى، أو تخزينها أو الاحتفاظ بها، أو نقل الأسلحة الكيماوية بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى أي كان، بالإضافة إلى عدم استعمالها أو القيام بأي استعدادات عسكرية لاستعمالها، أو مساعدة أو تشجيع أو حث أي كان بأي طريقة على القيام بأنشطة محظورة على الدول الأطراف بموجب الاتفاقية.
وكان من أهم مقتضيات الاتفاقية، إنشاء لجنة تفتيش في الأمانة الفنية الخاصة بالاتفاقية، وإعطاؤها القدرة على القيام بالتحقيق في ادعاءات استخدام أسلحة كيماوية. وتعتبر اللجنة مستقلة وتقنية، وإذا ما وجدت لجنة التحقيق أن دولة طرفًا بالاتفاقية قد قامت بانتهاك بنودها فلها أن تقيّد أو تعلّق حقوق الدولة الطرف وامتيازاتها بموجب الاتفاقية بناء على توصية المجلس التنفيذي، إلى أن تتخذ الإجراءات اللازمة للوفاء بالتزاماتها بموجب الاتفاقية.
ويجب في الحالات الخطيرة أن تُعرض القضية، بما في ذلك المعلومات والاستنتاجات ذات الصلة، على الجمعية العامة للأمم المتحدة وعلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
خمس لجان و93 تقريرًا
توالى تشكيل لجان التحقيق الخاصة بانتهاكات النظام السوري منذ عام 2011، كان منها خمس للتحري عن استخدام الأسلحة الكيماوية، قدمت منذ عام 2013 لمنظمة “حظر الأسلحة الكيماوية”، 71 تقريرًا متعلقًا بمتابعة تحقيقاتها، و22 تقريرًا خاصًا، وثمانية قرارات حول عملها في سوريا.
وكانت “لجنة التحقيق الدولية المستقلة حول سوريا” التي أُنشئت من قبل مجلس حقوق الإنسان، في 22 من آب عام 2011، ذكرت في البند “رقم 128” من تقريرها السابع الصادر في 2014 أنه “توفرت للجنة إمكانية الوصول إلى مخزون الأسلحة الكيماوية التابع للجيش السوري”، في إشارة إلى الهجوم الكيماوي الذي وقع في بعض مدن وبلدات ريف دمشق بتاريخ 21 من آب 2013.
وفي 27 من أيلول 2013، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار “رقم 2118” الذي ذكر في بنده الـ21 أنه سوف يفرض تدابير بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة في حال عدم امتثال النظام السوري لهذا القرار، وفي المادة الخامسة من القرار، أُلزم أطراف النزاع في سوريا بعدم استخدام الأسلحة الكيماوية، أما المادة “رقم 15” من القرار، فتضمنت ضرورة محاسبة الأفراد المسؤولين عن استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا.
في عام 2014، وبعد خلافات متعلقة بتصريح النظام السوري عن كامل ترسانته الكيماوية، أنشأت منظمة “حظر الأسلحة الكيماوية” فريق تقييم التصريح (DAT)، الذي أجرى أكثر من 20 زيارة إلى سوريا، وعقد لقاءات متعددة مع السلطات السورية، وزار مواقع سابقة لاستخدام الأسلحة الكيماوية، وأخذ عينات منها.
لم يتمكن الفريق من حل كل الثغرات والتضاربات والخلافات المتعلقة بتصريح النظام السوري، لذلك لم يؤكد بشكل تام مدى دقة التصريح، ولا مدى توافقه مع معاهدة “الأسلحة الكيماوية”، وفق تقريره الصادر في حزيران عام 2016، وما زال تفويضه صالحًا لتحديد ما إذا تم إتلاف كامل الترسانة الكيماوية السورية أم لا.
وأدان مجلس الأمن، بموجب القرار “رقم 2209” في عام 2015، استخدام أي مواد كيماوية سامة، مثل الكلور كسلاح، وأكد ضرورة محاسبة الأفراد المسؤولين، وهدد مرة أخرى بفرض تدابير بموجب الفصل السابع في حالة زيادة استخدام المواد الكيماوية كأسلحة، وصوت لمصلحة ذلك القرار 14 عضوًا في مجلس الأمن، بما في ذلك روسيا حليفة النظام السوري، وامتنعت حينها فنزويلا عن التصويت.
واستخدمت كل من روسيا والصين حق النقض (الفيتو)، في شباط عام 2017، ضد قرار يفرض عقوبات على النظام السوري بسبب استخدامه أسلحة كيماوية، وكان القرار نال موافقة تسعة أعضاء، واعترضت عليه ثلاث دول، هي روسيا والصين وبوليفيا، وامتنعت عن التصويت ثلاث دول، هي كازاخستان وإثيوبيا ومصر.
أدلة على ضلوع النظام السوري
بناء على قرار مجلس الأمن “رقم 2235″، أُنشئت آلية التحقيق المشتركة بين الأمم المتحدة ومنظمة “حظر الأسلحة الكيماوية” (JIM)، في 7 من آب عام 2015،
وفي تقريرها المقدم في 26 من تشرين الأول 2017، حمّلت النظام السوري المسؤولية حول استخدام غاز السارين في مدينة خان شيخون بريف إدلب، في 4 من نيسان 2017، إضافة إلى ثلاث هجمات بغاز الكلور حصلت ما بين عامي 2014 و2015 وثقتها بستة تقارير سابقة، ولكن مجلس الأمن، وبـ”الفيتو” الروسي، أوقف تفويضها في تشرين الثاني عام 2017، قبل أن تتمكن منظمة “حظر الأسلحة الكيماوية” من تشكيل “فريق التحقيق والتحديد” (IIT)، الذي حصل على تفويضه من قرارات مؤتمر الدول الأعضاء المعنون بـ”التعامل مع تهديد استخدام السلاح الكيماوي”، في 27 من حزيران 2018.
صدر تقرير الفريق الأول، في 8 من نيسان الماضي، وتوصل فيه إلى مسؤولية النظام السوري عن استخدام السلاح الكيماوي في بلدة اللطامنة بريف حماة الشمالي، في آذار عام 2017، ليدين مجلس الأمن استخدام السلاح الكيماوي، ويمهل النظام 90 يومًا للإعلان عن التفاصيل كافة المتعلقة بالمنشآت التي أُنتج فيها “السارين” و”الكلور”، اللذين استخدمهما في هجمات عام 2017، وإلا سيرفع الملف إلى الاجتماع السنوي للدول الأعضاء في تشرين الثاني المقبل، مع “توصيات بشأن الإجراءات التي يمكن اتخاذها في حال لم يعالج الأمر”.
بلا تحركات قانونية.. ما غاية التوثيق؟
عملت جهات حقوقية عدة على توثيق ما حصل في الغوطة الشرقية، اعتمادًا على شهود العيان والمصابين وبيانات الضحايا، ومع “القصور” الذي اعترى خبرات التوثيق الحقوقي المحلية آنذاك، اتسمت بياناتها بـ”المصداقية” التي اكتسبتها من تطابق المعلومة مع تنوع مصادرها، حسبما قال مدير “المركز السوري للإحصاء والبحوث”، طارق بلال، لعنب بلدي.
حاول الناشطون آنذاك الإجابة عن ثلاثة أسئلة: ماذا حدث؟ من الضحية؟ من المسؤول؟ ومع ضعف القدرة على التحليل المخبري لتأكيد المعطيات المتوفرة، حملت الملفات التي تمكنوا من جمعها إجابة واضحة عن هوية الضحية، وأجابت إلى حد بعيد عن سؤال “ماذا حدث”، ومهدت للإجابة عن سؤال “من المسؤول”، على حد تعبير طارق بلال.
وثّق المركز الشهادات بالعشرات، وبرأي بلال فإن تلك الوثائق لو جُمعت مع الشهادات التي وثقتها المنظمات المحلية الأخرى لكانت أساسًا قويًا لبناء ملف محاكمة، ولكن “التقدم في طريق المحاسبة منوط بتوافقات صعبة”، حسبما قال، مضيفًا أن محاسبة النظام السوري لم تجد بعد محكمة مفتوحة الأبواب ترقى لمستوى الانتهاكات الجسيمة المرتكبة.
عملية التوثيق والتحقق من الشهادات مستمرة ودائمة، حسبما قال مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، لعنب بلدي، مشيرًا إلى أن آلية التحقق والتصحيح “لا تتوقف”، لأن التوثيق عمل تراكمي يهدف للتحقيق لا للجمع فقط.
وتعتمد “الشبكة” ضمن منهجيتها دراسة المعطيات المتوفرة عن الهجمات، مثل التوقيت والموقع وحالة الطقس وحصيلة الضحايا من قتلى ومصابين ونوع السلاح المستخدم والصور ومقاطع الفيديو الملتقطة، مع دراسة مخلفات الأسلحة إن وجدت والعينات المتوفرة، والعودة إلى المصادر الأولية من أقرباء الضحايا والأطباء والمسعفين لمقاطعة المعلومات المتوفرة.
ويرى عبد الغني أن ربط المحاسبة بالتحرك القضائي هو “تصور مغلوط”، لأن محاسبة المجرم وردعه يتعدى ذلك لفرض العقوبات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وهو ما وصفه بالمحاسبة “السريعة”، مقارنة مع المحاسبة البعيدة المدى التي يمثلها المسار القضائي.
وأضاف أن مهمة ملفات التوثيق ليست محدودة بخدمة القضاء، بل لها أهداف أخرى مثل تكذيب ودحض رواية النظام وحلفائه، وضمان ألا يشوَّه التاريخ.
ومع عدم تمكن القرارات الهادفة إلى فرض العقوبات الأممية من تحقيق غايتها بعد، فإن تقارير اللجنة المشتركة وقرارات مجلس الأمن شجعت بعض الدول على استخدام قوانينها المحلية وفرض عقوبات بشكل أحادي، فعلى سبيل المثال، وضعت الولايات المتحدة الأمريكية 18 مسؤولًا تابعًا للنظام السوري، ممن لهم صلة ببرنامج الأسلحة الكيماوية في سوريا، على لائحة حظر التعامل.
زمن تحصيل العدالة طويل
في استطلاع أجرته عنب بلدي عبر صفحتها في “فيس بوك“، شكّك 78% من المصوتين، وعددهم أكثر من 700 شخص، بأن يحصل الضحايا على العدالة من الجناة، بينما تؤمن البقية بتحقق ذلك.
وعلّقت علا علي أنه “لم يحصل في تاريخ المجازر في العالم أن حصل الضحايا على حقوقهم أو عوقب الجناة”، في حين برر أحمد صلاح تصويته بـ”لا” بأن “القاضي هو الجلاد”.
ويعود هذا الموقف إلى غياب تحرك واضح ومباشر ضد النظام السوري، رغم إدانته باستخدام الكيماوي.
وكانت التقارير الأممية والمستقلة من قبل عدة منظمات بمثابة سلسلة من التحقيقات التي درست الوضع في المدن والبلدات التي استخدم النظام السوري فيها أسلحة كيماوية، ضمن الوسائل والاختصاص المشروع التي تباشر اللجان التحقيق من خلالهما.
وامتلكت “لجنة التحقيق الدولية المستقلة الخاصة بسوريا” ولاية اختصاص محددة، بحسب ما قاله مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، بسام الأحمد، لعنب بلدي، وهذه الولاية خولتها بتوثيق الأحداث التي حصلت في مدن وبلدات غوطة دمشق الشرقية، والتأكد من استخدام غازات سامة دون توجيه الاتهام بتحديد من استخدم تلك الأسلحة، لذلك تأخذ آلية جمع الأدلة لاتهام جهة معينة بهذا الشأن فترة زمنية طويلة.
وأرجع الحقوقي السوري منصور العمري أسباب طول فترة جمع الأدلة لمحاكمة الجهة المستخدمة للأسلحة الكيماوية، في حديثه لعنب بلدي، إلى “جلب الأدلة الجنائية من دولة لأخرى وربما عبر عدة دول، وهذه المرحلة تتطلب توثيقًا قانونيًا أيضًا لرحلة الأدلة”.
كما أن جمع الشهادات، التي قد تكون عديدة ومن أشخاص في دول مختلفة، تُسهم، بحسب العمري، أيضًا بإطالة فترة جمع الأدلة لتوجيه الاتهامات والتحضير لأي محاكمة بهذا الشأن.
وتتطلب التوثيقات الخاصة بالأدلة على استخدام النظام السوري الأسلحة الكيماوية لدى المنظمات الأممية والدولية والسورية عند تقديمها في أي سياق قانوني، البحث والتدقيق لوضعها كدليل قانوني تقبل به المحاكم في الدول التي ستقام فيها أي دعوى ضد النظام السوري.
وأرجع المتحدث باسم مركز “توثيق الانتهاكات الكيماوية في سوريا” (VDC)، أحمد الأحمد، في حديثه لعنب بلدي، سبب تأخر عملية التحقيق الدولية إلى العرقلة التي تعرضت لها لجانها من قبل الدول الحليفة للنظام السوري في مجلس الأمن، التي لم تكن تملك في البداية التفويض لتحديد المسؤول عن ارتكاب الهجمات الكيماوية في سوريا.
واستغرقت الجهود الدولية لإبعاد تفويض آلية التحقيق عن تصويت مجلس الأمن عامين من جهود بعض الدول الغربية، إذ اقترحت بريطانيا نقل التصويت من مجلس الأمن إلى المجلس التنفيذي داخل منظمة “حظر الأسلحة الكيماوية” مع توسيع صلاحياتها.
محاولات لمحاكمة النظام السوري
لن تبدأ أي محاكمة لمستخدمي الأسلحة الكيماوية في سوريا من رئيس النظام السوري، بشار الأسد، حسبما قال بسام الأحمد لعنب بلدي، وإنما ستكون تلك المحاكمات في حال حدوثها ضمن تراتبية الأفراد المسؤولين عن إصدار الأوامر بهذا الشأن، والتدقيق بمن اعترض من المسؤولين على هذا الفعل، والأشخاص الذين كانوا على علم بوقوع مثل هذه الاستخدامات للسلاح المحظور.
ويمكن، بحسب الأحمد، أن يصل مستوى المحاكمات إلى بشار الأسد إذا نجحت الأدلة لدى المنظمات بإثبات علاقة الأسد بشكل مباشر بقضية استخدام الأسلحة الكيماوية.
ويستغرق توفير دراسة قانونية لدى المنظمات السورية والدولية، وبحث للدول التي يمكن أن تقام فيها دعاوى بهذا الشأن، وقتًا طويلًا، وفقًا لمنصور العمري، فلكل دولة قوانينها الخاصة، واختلافات بما يتعلق بـ”الولاية القضائية العالمية” التي تعد جزءًا مهمًا في إطار الجهود الدولية الرامية لمحاسبة مجرمي الحرب في سوريا، وتوفير العدالة للضحايا.
وبعد اكتمال بناء ملف الدعوى القضائية، تدخل في مرحلة التقديم للمحكمة، ثم نظر المحكمة في ولايتها القضائية، وبعد قبولها الولاية تبدأ المحكمة النظر في الدعوى، وفق ما شرحه العمري.
وعن جهود رفع الدعاوى، قال أحمد الأحمد، إن مركز “توثيق الانتهاكات الكيماوية” يتعاون مع “المركز الأوروبي لحقوق الإنسان” و”المركز السوري للدراسات القانونية في برلين” بالتواصل مع المدعي العام الألماني والهيئات القضائية الأوروبية المتخصصة بجرائم الحرب الدولية، لرفع الدعاوى القضائية ضد النظام السوري، مشيرًا إلى أن المراكز الحقوقية بانتظار الرد الأوروبي.
ووقّع مركز “توثيق الانتهاكات الكيماوية”، حسبما قال أحمد الأحمد، مذكرة للتعاون مع “الآلية المحايدة والمستقلة” التابعة للأمم المتحدة، قبل عدة أسابيع، للعمل على بناء ملف جنائي وفقًا للمعايير الجنائية الدولية، يمكّن المدعين العامين بأي هيئة قضائية دولية من طلب الملف بشكل مباشر من الآلية لبناء القضايا ضد النظام السوري.
الشهود يتحدون رواية النظام
غياب رائحة الدم هو أول ما لفت انتباه حسن محمد، فحين دخل إلى النقطة الطبية في دوما، في 21 من آب عام 2013، كان قد سمع بحدوث المجزرة، لكن ما شاهده لم يماثل أي مشهد سابق، فالمصابون ليسوا جرحى لكنهم يتألمون.
نفذ حسن محمد مهمته كناشط إعلامي حينها، موثقًا الإصابات والقتلى ممن توافدوا إلى النقاط الطبية في مدينته من بلدات الغوطة التي تأثرت بالمجزرة الكيماوية الأكبر خلال سنوات الحرب السورية، لكن الرد الدولي الذي عجز عن محاسبة الجناة لم يرقَ لتحقيق آماله.
استخدم حسن الأدلة التي وثقتها عدسة الكاميرا الخاصة به للشهادة ضد النظام السوري، والمشاركة بالحملات الخاصة بإدانة الانتهاكات التي ارتكبها في الغوطة الشرقية.
وعامًا تلو آخر، تكاتف الناشطون السوريون لإقامة الحملات ونشر شهادات الواقعة في ذكرى مجازر الكيماوي، أحدثها حملة “لا تخنقوا الحقيقة” التي تهدف لمناهضة إنكار المجازر الكيماوية من قبل النظام السوري، حسبما قال حسن محمد لعنب بلدي.
تنطلق الحملة مع ذكرى مجزرة الكيماوي في العام الحالي، وتهدف لإظهار خطر الإنكار ونتائجه على الضحايا وعلى مسار العدالة، ومجابهة محاولات طمس الحقيقة والعبث بالأدلة التي يقوم بها النظام السوري.
ولجأ النظام السوري خلال السنوات الماضية إلى التنصل من الهجمات الكيماوية، ناسبًا إياها لفصائل المعارضة تارة ولـ”الدفاع المدني” تارة أخرى، وبعد تسويات التهجير التي قام بها في الغوطة الشرقية عام 2018، قدم في 26 من نيسان من ذلك العام، 12 مدنيًا كشهود عيان في مقر منظمة “حظر الأسلحة الكيماوية”، لدعم روايته بعدم استخدام السلاح الكيماوي في دوما، فيما اعتبرته دول غربية “مهزلة فاضحة”.
الممرضة والناشطة النسوية تهامة درويش، قالت لعنب بلدي، إن النظام السوري اتجه لـ“إرهاب” الناجين والشهود، وتخويفهم بالاعتقال المباشر لهم أو لعائلاتهم في محاولاته لإنكار المجازر الكيماوية التي ارتكبها بالغوطة.
وتحدثت عن نشاطات الحملة التي تشارك فيها بالعام الحالي، مقدمة شهاداتها في إسعاف المصابين ومحاولة إنقاذ القتلى، لـ“إيصال الحقيقة إلى العالم، وإيضاح بطش وإجرام النظام”.
لن تكون الحملة محدودة بيوم واحد، إذ تتضمن إطلاق موقع إلكتروني وقناة على “يوتيوب” لنشر المحتوى التوثيقي من شهادات الناجين ومقاطع الفيديو بلغات عدة، مع نشر أسماء ضحايا مجزرة الغوطة الشرقية، وتوزيع المناشير والأزرار التي تحمل شعار الحملة المستوحى من شعار السلاح الكيماوي.
وبرأي تهامة، فإن لم يكن أثر هذه الحملة قريبًا فإن التذكير الدائم يفيد بـ“فضح النظام وحلفائه، وتخليد ذكرى الشهداء، مع المطالبة بمحاكمة عادلة للجناة حتى محاسبة كل من أجرم بحق الشعب السوري”.