حباء شحادة | علي درويش | تيم الحاج
من مدينته بصر الحرير شمال شرقي محافظة درعا، اتجه نواف الحريري نحو السويداء، في آذار الماضي، رغم تردد أنباء عن حالات الخطف والقتل بين المحافظتين، معتبرًا أن سنوات عمره الـ74 تحميه من الأذى، دون الانتباه إلى تعقيد الأحداث والأجندات المتشابكة في الجنوب السوري، التي كان فيها الخطف وسيلة ونتيجة.
اختُطف نواف في طريقه، واستمرت الوساطات والإدانات والمفاوضات نحو شهر، وبعد خطف أربعة أشخاص في المقابل، أنهى الشيخ رحلته إلى المحافظة المجاورة، وقد دفع أهله فديته خمسة ملايين ليرة سورية.
منذ السنوات الأولى للثورة، ومع انتشار الفوضى الأمنية، ظهرت أنباء حوادث الخطف والقتل بين المحافظتين، واتجهت أصابع الاتهام منذ البدء إلى الفصائل “المتطرفة”، وإلى القوات الموالية للنظام السوري.
ومع تحول الحراك السلمي إلى مسلح، نشأت العديد من المجموعات المسلحة التي امتهنت عمليات الخطف والابتزاز للحصول على الأموال، إضافة إلى عمليات تصفية لأشخاص، إما لدوافع شخصية أو بتمويل من النظام، الذي روّج لمسؤولية فصائل المعارضة في محافظة درعا عن عمليات الخطف والاغتيال التي تطال أبناء السويداء.
تبحث عنب بلدي في هذا الملف دوافع ومسببات الخطف بين محافظتي درعا والسويداء، ودور الأطراف الخارجية فيه، مع البحث في دور الزعامات والمبادرات الأهلية في الوصول إلى الحل.
خطف بدوافع أمنية واقتصادية..
هل يقود إلى “قطيعة” بين السويداء ودرعا؟
أشعلت محافظة درعا في الجنوب السوري أولى مظاهرات الحراك السلمي المطالب بالإصلاح عام 2011، والتي رد عليها النظام السوري بحشد القوات والدبابات، واستخدام الذخائر الحية والحصار، لإطفاء ثورة ما لبثت أن انتشرت في أنحاء سوريا.
استخدم النظام جميع الوسائل لإيقاف الاحتجاجات، بما في ذلك التذرع بحماية الأقليات لتبرير قوة الصد، والمطالبة بالولاء والحشد لمواجهة “المندسين”، ممن ثاروا على حكمه، وكانت محافظة السويداء، ذات الأغلبية الدرزية، من أولى مراكز اهتمامه، ولكنه لم ينجح بجذبها وتطويعها كما أراد.
بالتوازي مع العمليات العسكرية، كانت عملية الخطف تنشط وتتزايد بين درعا والسويداء، ولم تتراجع الظاهرة بعد سيطرة قوات النظام على المحافظة بدعم روسي في تموز عام 2018، بموجب اتفاق “تسوية” أجبر مقاتلي المعارضة على المغادرة إلى الشمال السوري، بل زادت وتيرتها بشكل كبير خلال العامين الماضيين، وغالبًا ما تطلب فدية مالية تصل في بعض الأحيان إلى 20 مليون ليرة سورية، بينما يكون الرد أحيانًا بالخطف المضاد للتفاوض على المخطوفين.
خطف بهدف الخطف
سجل “مكتب توثيق الشهداء في درعا” 15 حالة خطف بين محافظتي درعا والسويداء خلال شهري آذار ونيسان الماضيين، حسب إحصائية حصلت عليها عنب بلدي من المكتب، وبلغت حصيلة الخطف المتبادل بين المحافظتين منذ بداية العام الحالي 27 حالة، و54 حالة منذ أيار 2019.
وطالت عمليات الخطف بين المحافظتين أشخاصًا من مختلف الفئات الاجتماعية (من ضباط، وأطباء، وتجار، ومزارعين…)، وشهد تشرين الثاني عام 2019 زيادة في التوتر عقب اختطاف الطبيب الجراح محمد الحريري، من أبناء درعا، في مكان عمله بمشفى بلدة المغير في محافظة السويداء، تبعه مقتل الطبيب اسكندر أبو زيدان، بعد دخوله من معبر نصيب بريف درعا، قادمًا من المملكة العربية السعودية، ليتم اختطافه من قبل مجهولين.
وفي 27 من تشرين الثاني 2019، اختُطف أيضًا العقيد في صفوف النظام ظافر طرودي المخول، في أثناء خروجه من قرية صما الهنيدات غربي السويداء، إلى مكان خدمته في محافظة درعا، وهو من أبناء مدينة شهبا في السويداء، إذ اختفى على طريق قرية المليحة الشرقية بريف درعا في ظروف غامضة.
وصدرت عدة بيانات ومبادرات من وجهاء الطرفين للسيطرة على عمليات الخطف، لكنها لم تنجح وسُجلت ثلاث عمليات خطف متبادلة بين المحافظتين عقب إصدار بيان مشترك بين وجهاء المحافظتين، في 4 من نيسان الماضي، أكدوا فيه على تعزيز روابط العلاقات بين منطقتي سهل حوران وجبل العرب، ونص البيان على ضرورة إنهاء ملف المخطوفين، وتشكيل لجنة مشتركة لمتابعة شؤون المخطوفين، والبحث في ملابسات الاقتتال الذي حصل قرب بلدة القريا بريف السويداء، في 28 من آذار الماضي.
دوافع اقتصادية
مثلت “مهنة” الخطف متنفسًا لأهالي المحافظتين، اللتين تعانيان من نقص الخدمات وتدني مستوى المعيشة، الذي قاد لاحتجاجات شعبية مطلع العام الحالي.
وفقدت المنطقة الجنوبية مصادر دخلها نتيجة الحرب، حسبما قال الباحث والصحفي مازن عزي لعنب بلدي، وهو من أبناء محافظة السويداء، وترافق ذلك مع تدهور قيمة العملة المحلية، ونشوء اقتصاد يعتمد على تجارة المخدرات والأسلحة إلى حد ما، وعلى الخطف إلى حد كبير.
إذ لا تحتاج عمليات الخطف إلى رأس المال، ولكنها تتطلب معرفة بالوسط الأهلي، واستهداف أهداف خارجية بالمعنى الطائفي أو أشخاص يُعرفون بالغنى لتتم “المبازرة” عليهم.
وسيلة لتعزيز السيطرة
الدافع الاقتصادي لم يكن المتهم الأول في حالات الخطف في الجنوب السوري، حسبما أشار المحامي سليمان القرفان، نقيب المحامين بدرعا خلال سيطرة فصائل المعارضة، في حديثه لعنب بلدي، قائلًا إن قوات النظام السوري تحاول بسط سيطرتها على محافظتي درعا والسويداء، عبر زيادة وتيرة عمليات الخطف بينهما، التي زادت حالة الفلتان الأمني، وأدت إلى حالة احتقان كبيرة بين أبناء المحافظتين.
وأضاف أنه وإن كانت بعض عمليات الخطف لا تخلو من مساعي جمع المال، إلا أنها في أغلبية العمليات التي تمت بحق مواطنين من أبناء المحافظتين، كانت الجهة المنفذة من الجهات المرتبطة بالأمن والميليشيات الطائفية، فمن “يقوم بعمليات الخطف هم أزلام النظام والمرتبطين به وبميليشياته”.
والنظام يسعى لزيادة الحقن الطائفي بين المحافظتين لإظهار أنه الوحيد القادر على إدارة البلاد، ويقدم نفسه للمجتمع الدولي على أن سوريا من دونه ستكون “مرتعًا للإرهاب والتطرف”، بحسب القرفان.
كما يسعى “من خلال التجييش الطائفي لاستمالة أبناء كل محافظة على حدة، وإقناعهم بالالتحاق بصفوفه، وإظهار نفسه أنه القادر على حمايتهم”، إذ سعت الأجهزة الأمنية في الجنوب السوري لخلط الأوراق من جديد من خلال عمليات الاغتيال والخطف، وإظهار أن المحافظات السورية ستعمها الفوضى إذا لم يبسط جيش النظام سيطرته على كامل المناطق.
الباحث مازن عزي، أشار في بحثه المنشور في معهد الجامعة الأوروبية بعنوان “كيف يمكن احتواء التوتر بين درعا والسويداء“، إلى أن النظام لا يبدو قادرًا بوضعه الحالي سوى على إثارة الفوضى واستثمارها، “لإبقاء المجتمعات المحلية مشغولة بصراعاتها الجانبية، بدل مواجهة مسببات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة”.
مخطط لاستمرار التوتر
يرى الصحفي ماهر شرف الدين، من أبناء محافظة السويداء، أن عصابات الخطف تُدار بأشكال عديدة من قبل الأجهزة الأمنية، وقال لعنب بلدي، إن النظام استخدم عصابات الخطف في درعا خلال السنوات الأولى من الحراك لـ”تشويه صورة الثورة”، وبعد هدوء جبهة القتال تركزت عصابات الخطف في السويداء، مشيرًا إلى أن ثمة “مشروعًا كبيرًا وخطيرًا يُعدّ للجنوب السوري، ونحن في مرحلة التمهيد له، وهذه المرحلة التمهيدية تقتضي تدمير العلاقات التاريخية الممتدَّة لقرون بين جبل حوران وسهله”.
وقال القيادي السابق في “الجيش الحر” أدهم الكراد، في حديث لعنب بلدي، إن من يشترك بعمليات الخطف هم عدد من أصحاب الجنح والجنايات السابقة الذين أطلقهم النظام من سجونه بحجة “الإفراج عن معتقلي الرأي”.
في حين امتدت أيادي “حزب الله” وإيران لـ “إثارة البلبلة” بين المحافظتين، من خلال حرق المحاصيل ونشر الفتن في الصفحات الإعلامية، وإثارة النعرات الطائفية، والاغتيالات والعبوات الناسفة والخطف والسرقات الممنهجة، على حد تعبير الكراد.
ومع تدخّل روسيا لحل الخلافات بين الطرفين، فإنها لم تحظَ بأثر مباشر على عمليات الخطف، “لأن الموضوع سياسي وليس إجراميًا”، حسبما قال الكراد.
وذكر الباحث والصحفي مازن عزي في بحثه، أن الوفود الأخيرة التي أرسلها “مركز المصالحة” الروسي للقاء وجهاء من السويداء ودرعا، “لم تكن مؤلفة من ضباط برتب عالية كما جرت العادة من قبل، ويعكس ذلك انشغال الروس بالوضع في إدلب والشرق السوري، وكذلك عدم رغبتهم في هذه المرحلة باحتواء الموضوع بشكل نهائي، وترك أبواب مواربة يمكن للتصعيد بين السويداء ودرعا أن يتجدد من خلالها، عبر التنصل من نتائج الاجتماعات الأخيرة وعدم تنفيذها”.
فصائل درعا والسويداء بين طرفي الأزمة
هل تتحمل المسؤولية؟
رغم الاشتباكات المسلحة التي وقعت بها الفصائل المحلية في درعا والسويداء، ووقوع عمليات الخطف في مناطق تقع تحت سيطرتها، نفى الباحث في مركز “جسور للدراسات” فراس فحام، احتمال مسؤولية تلك الفصائل عن تلك العمليات، مرجحًا وقوف الأفرع الأمنية للنظام السوري خلفها، ومشيرًا إلى خوف الفصائل المحلية في السويداء من اندلاع قتال عشائري بينها وبين فصائل درعا، لذا تتجنب استخدام القوة.
ويُقصد بالفصائل المحلية في درعا، الفصائل التي كانت عاملة ضمن صفوف المعارضة، وخضعت لـ”تسوية” في عام 2018، ورفضت الخروج إلى إدلب، أما فصائل السويداء فهي الفصائل المحلية التي تلعب دورًا أمنيًا ولها قيادات محلية مرتبطة بزعامات المنطقة.
وصف القيادي السابق في “الجيش الحر” أدهم الكراد، دور الفصائل بـ”دور الطبيب”، “مع محاولتها ترميم الشرخ المجتمعي” بسبب أعمال الخطف، من خلال “تبريد ردود الفعل، وضبط السلاح، ومنع الاقتتال والثأر، والتواصل مع الجهات المحسوبة على العباءة الثورية لاستيعاب ردود الفعل”.
وشغل الكراد منصب قائد “كتيبة الهندسة والصواريخ”، وكان أحد قادة غرفة عمليات “البنيان المرصوص” في الجبهة الجنوبية، في أثناء سيطرة فصائل المعارضة على المنطقة قبل تموز 2018، ثم شارك كعضو في لجنة “التسوية” مع الروس.
لكن حركة “رجال الكرامة” (أبرز الفصائل المحلية في محافظة السويداء) حمّلت “الفيلق الخامس”، المدعوم من روسيا، مسؤولية الإشكال الذي حصل في قرية القريا بريف السويداء الغربي، في 28 من آذار الماضي، والذي راح ضحيته 15 شخصًا بين قتيل وجريح، وأضافت الحركة أن “المسؤولية المباشرة عن المجزرة التي ارتكبها الفيلق التابع لروسيا، تتحملها القوات الروسية في سوريا، ويقع على عاتقها محاسبة المرتكبين”.
وشُكّل “الفيلق الخامس” في أواخر عام 2016 بأوامر روسية، وتعتبره موسكو ذراعًا تواجه بها الميليشيات الإيرانية، ويكون رديفًا لقوات النظام، يقوده في الجنوب أحمد العودة، ويعمل على ضم جميع الفصائل المسلحة التي كانت في صفوف المعارضة في المنطقة تحت مظلته.
أما حركة “رجال الكرامة” فهي أحد أكبر الفصائل المحلية في السويداء، وتنتشر بأغلبية مناطقها، حسبما ذكر الباحث فراس فحام في بحث “السيطرة في محافظة السويداء الواقع والمستقبل المحتمل“، وتُعتبر من الفصائل الحيادية التي شُكّلت لحماية الشبان الممتنعين عن الخدمة الإلزامية من اعتقالهم من قبل الأجهزة الأمنية، ولحماية مدن وبلدات السويداء من التنظيمات “المتطرفة”، وخاصة تنظيم “الدولة الإسلامية”.
شُكّلت عام 2012 على يد وحيد فهد البلعوس، الذي قُتل عام 2015، ومرجعيتها الدينية الشيخ راكان الأطرش، والشيخ يحيى الحجار.
ومع توجيه أصابع الاتهام للنظام السوري في مقتل مؤسسها، الذي قال قبل أسابيع من مقتله “كرامتنا أغلى من بشار الأسد”، فإن قادة الحركة لاحقًا أكدوا مرارًا أنهم ليسوا ضد “الجيش السوري”.
أحمد العودة.. رجل روسيا المدلّل في الجنوب السوري
على الرغم من أنه بدأ مسيرته مقاتلًا معارضًا للنظام السوري، وخسر ثلاثة من إخوته في سيبل ذلك عام 2014، فإن المطاف انتهى بأحمد العودة في أحضان روسيا أكبر حلفاء النظام.
اشتهر العودة الحاصل على شهادة في الأدب الإنجليزي، خلال السنوات الماضية من الثورة السورية، بتبديل جلده عدة مرات، وانقلابه على كل من وقف معه ودعمه، وكرست تقلباته وجود رغبة جامحة عند الرجل في بقائه تحت الأضواء عبر امتلاكه نفوذًا وقيادة، حتى وإن تبدلت أهدافه طوعًا لرغبة من يدعمه.
وأبرز تلك التقلبات عندما انقلب على “جبهة النصرة” وحركة “المثنى الإسلامية” بعد مشاركتهم في إخراج قوات النظام من مسقط رأسه مدينة بصرى الشام، في آذار 2015، حين كان العودة قائد فصيل “شباب السنة” يقاتل حينها جنبًا إلى جنب معهم، لكنه ما لبث أن انقلب على “النصرة” و”المثنى” وطردهما من المدينة.
استطاع العودة بعد ذلك تنظيم المرافق العامة والخدمات في المدينة، وأسس جهاز شرطة وحتى شرطة مرور، وذلك بدعم من “غرفة الموك” ومن الإمارات عبر صلة القرابة التي تجمعه بخالد المحاميد، نائب رئيس “هيئة التفاوض السورية” السابق المقيم في الإمارات.
“غرفة الموك”
هي غرفة عسكرية خارجية، ومقر قيادة وتنسيق وإصدار أوامر، كانت تديرها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا والأردن وبعض دول الخليج، شُكّلت في عام 2013 وطُوّرت عام 2014، وضمت فصائل عدة من “الجيش الحر” في درعا والقنيطرة وريف دمشق وريف حلب الشمالي. |
في عام 2016، حدث انقلاب داخل فصيل العودة، وتمت السيطرة حينها على مستودعات الذخيرة والسلاح الثقيل، وهرب العودة إلى خارج بصرى، ولكن بدعم من فصائل “الجبهة الجنوبية” استطاع اقتحام بصرى مجددًا وإعادة السيطرة على فصيله ومدينته.
لم يدم الاستقرار طويلًا مع العودة، ففي عام 2017 حدثت منازعات بين أكبر فصيلين بالمنطقة الشرقية لدرعا، وهما فصيل “شباب السنة” وفصيل “اليرموك” الذي كان ينافسه بقيادة بشار الزعبي، وسقط قتلى من الطرفين.
وبعد سيطرة النظام على منطقة اللجاة وبصر الحرير، منتصف عام 2018، جرت مفاوضات برعاية الجانب الروسي في مدينة بصرى الشام، في الوقت الذي كان النظام مستمرًا باجتياح معظم قرى المنطقة الشرقية باستثناء بصرى الشام مركز ثقل العودة.
وبعد وصول النظام إلى بصرى، جرت اتفاقيات “التسوية” التي كان عرّابها أحمد العودة، داخل المدينة، حيث قضت الاتفاقيات بقبول سيطرة النظام على المنطقة الجنوبية من سوريا.
سلّم العودة خلالها السلاح الثقيل، وانضم إلى “الفيلق الخامس” التابع بشكل مباشر للروس، الذين كافؤوه بتسليمه قيادة الفيلق في المنطقة الجنوبية.
وكعربون شكر منه، أرسل العودة مقاتلين إلى الشمال السوري، لمساندة النظام في حملته ضد فصائل المعارضة السورية، الأمر الذي أسعد الروس، وجعلهم يمنحونه ثقة زائدة.
العودة يحُيي “التسويات”
مطلع آذار الماضي، هاجمت قوات النظام مدينة الصنمين، واستخدمت الدبابات والمدفعية للمرة الأولى منذ اتفاق “التسوية” في المنطقة الجنوبية في تموز 2018، واشتبكت مع مقاتلين رفضوا تلك “التسوية” وفضلوا البقاء في درعا.
واستطاعت قوات النظام فرض حصار عليهم في الأحياء الغربية من المدينة، إلى أن تدخل “الفيلق الخامس” بقيادة العودة، ففض النزاع وفرض هدنة، انتهت بترحيل المقاتلين نحو الشمال السوري، و”تسوية” أوضاع الراغبين بالبقاء بشرط تسليم السلاح.
لم يقتصر حينها دور الفيلق على الوساطة، بل سحب، في 18 من آذار الماضي، جثث قوات النظام بعد تعرض حاجز لها لهجوم عند منطقة مساكن جلين، وتزامن ذلك مع إشرافه على فرض “تسوية” في بلدة ناحتة، انتهت بتسليم عشرين قطعة سلاح مقابل خروج معتقلين لدى النظام، و”تسوية” أوضاع شباب من البلدة.
العودة والسويداء.. مقاتل ومسالم
بدأت قصة قتال العودة مع فصائل من السويداء، في 28 من آذار الماضي، كرد فعل على خطف شابين من مدينته بصرى يعملان في تجارة الأبقار، خُطفا في بلدة القريا بريف السويداء.
حاول حينها شباب من بصرى التسلل إلى قرية القريا، لخطف شباب منها للتفاوض على إطلاق المخطوفين من بصرى.
وفي أثناء محاولة التسلل، اشتبك عناصر من الفصائل المحلية مع المتسللين وقُتل أحدهم، لتبدأ بعدها فصائل من السويداء بتمشيط المنطقة، حتى وقع اشتباك بينها وبين فصيل أحمد العودة بالقرب من بصرى، سقط على إثره قتلى من فصائل السويداء وصلت حصيلتهم إلى 16 مقاتلًا.
وعقب ذلك، تدخلت شخصيات من السويداء ودرعا لاحتواء التوتر بين الطرفين، في حين أشار مراسل عنب بلدي في درعا إلى تدخل روسيا التي أرسلت وفدًا من “مركز المصالحة” إلى بصرى الشام، وتمكنت من حل الإشكال الحاصل.
ليس القتال فقط ما يجمع العودة بأهالي السويداء، إذ إن الرجل لعب، مطلع أيار الحالي، دورًا مهمًا في تأمين عودة أهالي قرية خربا التابعة للسويداء، وهم من الديانة المسيحية، إلى قريتهم، بعد تهجيرهم منها منذ عام 2014.
وكانت تسكن المدينة عشائر بدو يتبعون سابقًا للعودة، واستطاع التأثير عليهم وإخراجهم منها.
الدور الحاضر الغائب للزعامات
هل يحلّ أزمة درعا- السويداء؟
برز قادة الفصائل العسكرية في كلتا المحافظتين بأدوار اجتماعية جديدة، ولكنهم لم يستطيعوا التخلي عن الزعامات التقليدية، حسب رأي الباحث مازن عزي، الذي قال لعنب بلدي، إن طبيعة المجتمع العشائري في المنطقة يفرض بقاء الروابط التقليدية.
وكشف الصراع الأخير بين المحافظتين الحاجة للزعامة التقليدية، التي أصدرت بيانات متعددة لإدانة عمليات الخطف بين المحافظتين، مع ما تمثله من وجوه معروفة ذات مصداقية على عكس الوجوه المستجدة، التي يمثل أبرزها أحمد العودة في درعا، في حين لا وجود لحضور بارز مماثل في السويداء، حسب رأي عزي.
واتجه أحمد العودة إلى القيادات التقليدية للتوسّط في حل قضية القريا، واجتمع وجهاء من المحافظتين وأصدروا بيان “حسن الجوار”، في 4 من نيسان الماضي، ونص على أن “الفتنة لا تخدم أحدًا، وستكون آثارها المظلمة على الطرفين لفترة طويلة”، ووصفوا من يقومون بأعمال الخطف بـ”العصابات المارقة” التي لا تمثل السهل ولا الجبل.
وعكس جمهور عنب بلدي المشاركون في استطلاع نشرته عبر “فيس بوك”، حول قدرة مشايخ ووجهاء ومثقفي درعا والسويداء على إيقاف حالات الخطف بين المحافظتين، قلة ثقتهم بالزعامات التقليدية، مع اعتقاد 78% من المستخدمين الذي وصل عددهم إلى 400، أن الزعامات التقليدية لن تتمكن من إيقاف حالات الخطف، مقابل تصويت 22% لمصلحة تأكيد قدرتها على ذلك.
ويعتقد عضو لجنة المفاوضات المركزية في درعا، وأحد القائمين على بيان “حسن الجوار”، المحامي عدنان المسالمة، أن مشايخ وقادة فصائل درعا لديهم القدرة والإمكانيات لردع الخاطفين، حسبما قال لعنب بلدي.
وذلك من خلال حرمان عصابات الخطف من “البيئة الآمنة”، ومحاربتها بالقوة إن اقتضى الأمر، وعن طريق توعية المجتمع بخطر مثل تلك الأفعال على السلم الأهلي وأمان المنطقة، الذي يُعبث به من قبل بعض الأجهزة الأمنية والميليشيات الإيرانية و”حزب الله”، عن طريق افتعال الفتن.
واتفق الوجهاء من المحافظتين على تشكيل لجان مشتركة لحل قضايا الخطف والتوتر بين المحافظتين منذ عام 2011، وأعلن الوجهاء في درعا، في 19 من نيسان الماضي، عن جهوزيتهم لتشكيل اللجنة المشتركة، حسبما قال الدكتور موسى الزعبي، أحد القائمين على بيان “حسن الجوار”، لعنب بلدي.
وأضاف الزعبي أن اللجان لم تُشكّل بعد في السويداء، وهو ما يعرقل قضية الحل، مع إشارته إلى أنه علم عن طريق مصادر عن وجود خلافات وانقسام داخل الجبل (السويداء) بين عدة جهات، وأن هناك طرفًا ثالثًا يلعب في الخفاء ويوتر الأمور ولا يريد لهذه اللجان أن تجتمع.
ولفتت المصادر حسبما قال الزعبي، إلى أن بعض الشخصيات المحسوبة على المعارضة تطالب بفتح ملف القريا بمفرده، وحل مشكلته بعيدًا عن بحث ملف المخطوفين كاملًا.
واعتبر الزعبي أنه في حال بقيت اللجان معطلة، ولم يعلن وجهاء الجبل عن جهوزيتهم لتشكيل اللجان، سيبقى الخطف والخطف المضاد هو الحل الأمثل للأهالي غير الفديات إذا لم يتم إنصاف الجميع والاقتصاص من الخاطفين.
من جانبه، وصف الصحفي ماهر شرف الدين تأخر وجهاء ومشايخ السويداء بتشكيل اللجان بالكلام “غير الدقيق”، مشيرًا إلى صدور بيانات متعددة لإدانة أعمال الخطف وبذل الجهود لإقامة الاجتماعات، إلا أن المشكلة تكمن في “الفعالية”، لأن “العصابات الأمنية التي ضربت بعرض الحائط كل التقاليد والأعراف الأخلاقية في منطقتنا لا ترتدع ببيان واستنكار وشجب”.
ويرى الباحث والصحفي مازن عزي في بحثه “كيف يمكن احتواء التوتر بين درعا والسويداء”، أن تشكيل اللجان للتحقيق والمصالحة لمنع تدهور الأزمة الحالية سيحول دون اندلاع اقتتال بخلفية مناطقية وطائفية بين المحافظتين.
وفي حال تلقت تلك اللجان الدعم والتمكين، ستتمكن من التوسّط لتحرير المخطوفين وتعويضهم، معنويًا وماديًا، وستمنع الاستثمار الطائفي للصراع، وستشجع الأهالي على رفض سلوك العصابات في الطرفين، وباعتقاد عزي فإن تلك اللجان قد تتمكن مستقبلًا من دعم السلم الأهلي، وتنشيط التعاون والتكامل الاقتصادي والتجاري بين السهل والجبل.