يسارع الطبيب غزوان بويضاني إلى عيادته في إحدى بلدات الغوطة الشرقية للمساعدة في علاج إمرأة مريضة تعاني من الفصام الحاد، بعد أن استقدمها أبناء المنطقة إلى العيادة من على إحدى جبهات القتال، حيث كانت تهم بالدخول إلى دمشق، ظنًا أنها سترى أقرباءها وأولادها بعد أن فرقت الحرب بينهم، وتمزقت العائلة التي كانت قبل العام 2011 تحت سقف واحد، تهاوى لاحقًا وأصبح كل واحد في “ديرة”.
ليست هي الحالة الأولى من نوعها التي تعاني مثل هذا النوع من الأمراض النفسية في المنطقة، فقبل أيام ورد إلى عيادة الطبيب أنباء مفادها اختفاء شخصين مريضين نفسيًا كانا يستعدان للذهاب إلى إحدى الجبهات للمشاركة في الأعمال القتالية ضد قوات النظام السوري، لأنهما كانا يعتقدان نفسيهما “قائدان” يمكن أن يغيرا سير المعارك في تلك المنطقة.
ومذ ذهبا إلى خط الجبهة اختفيا ولم يعثر لهما على أثر، وفق ما يكشفه الطبيب البويضاني لعنب بلدي، خلال مقابلة في عيادته الوحيدة المتبقية في منطقة الغوطة الشرقية، والتي تستقبل يوميًا حوالي ست إلى سبعة مرضى نفسيين، أي ما يعادل 200 حالة شهريًا.
السقوط من السماء
إلى محافظة إدلب، والتي يعاني منها القطاع الصحي النفسي بسبب القصف وهجرة الكوادر، لا يعلم الطفل حسام طعوم المصاب بـ “متلازمة داون” ما يجري من حوله، كما يقول والده لعنب بلدي، هو “يحتاج لتدريب دائم وشخص يرافقه دومًا، وبسبب الحرب يعيش حسام وحيدًا ولا يتطور. هو لا يعرف أن الطائرة ستقصف لكن يشير إليها، وعند الطلب منه الاختباء يهروّل مع الناس، لكن لا يعلم لماذا.. فهم الطفل أخيرًا أن شيئًا ما يلقى من السماء يقتل الناس، وإن لم يركض مع الراكضين سيموت”.
يصف الطبيب البويضاني الحالة التي أصبح عليها المرضى النفسيون وذوو الإعاقات العقلية في عموم المنطاق المحررة بـ”الصعبة” فلا يوجد مستشفيات ومراكز علاج متخصصة، ويساهم ضيق الحال ونقص الأطباء في تعميق معاناة هؤلاء الأشخاص وذويهم، بعدما تضاءلت فرص الاهتمام بهم بسبب الصراع.
وقبل الثورة كانت سوريا تعاني بالأساس من نقص في عدد الكوادر الطبية النفسية، إذ تسجّل سجلات وزارة الصحة حوالي 86 طبيبًا نفسيًا فقط لحوالي 23 مليون سوري، في حين أن التقديرات العالمية تشير إلى ضرورة توفر طبيب واحد لكل 100 ألف مواطن، كذلك يعاني مجال الصحة النفسية من قلة التخصصات الطبية التي تجعل من مداواة المرضى أمرًا صعبًا للغاية.
“مجانين” سوريا خلال الثورة
إلى جانب معاناة المرضى النفسيين خلال سنوات الحرب، ارتفع أعداد “المجانين” و”المعتوهين”، الذين كانوا يحظون بالعناية في مستشفيات متخصصة ومصحات عقلية يطلق عليها باللهجة العامية بـ “العصفورية”، ورغم صعوبة حصر أعداد هؤلاء نتيجة لحركة النزوح واللجوء، واشتداد المعارك في عموم المناطق، تمكّنت المحكمة الشرعية في دمشق من تقديم رقم حول تعداد “المجانين” في سوريا منذ العام 2011، بناء على بيانات ودعاوى قضائية يقدمها ذوو “المجنون” للإشراف عليه أو لإدارة أملاكه إن وجدت.
المحكمة الشرعية في دمشق، ذكرت أن عدد معاملات حالات الجنون والعته التي تلقتها بلغ ثلاثة آلاف معاملة لغاية العام 2014، منها ما يقارب ألف معاملة بدمشق وريفها، ونحو 250 معاملة في حلب، وسجلت محافظة حمص حوالي 150 معاملة، ومحافظة درعا 100 معاملة، ودير الزور 170 معاملة وبلغ عدد معاملات المجانين بالقنيطرة 90 معاملة، والسويداء 140 معاملة، ولم تسجل إدلب سوى 50 معاملة، واللاذقية 100 معاملة، وطرطوس 80 معاملة.
تستخدم المحكمة الشرعية مصطلح الجنون والعته، لتسمية ذوي الإعاقات الذهنية والعقلية، وورد مصطلح “مجنون” في عدة مواد في قانون الأحوال الشخصية السورية رقم 59، المتعلق بحالات الزواج والطلاق والحجر. |
وقال القاضي الشرعي الأول بدمشق، محمود معراوي، إن “المحكمة الشرعية تستقبل يوميًا ما يقارب معاملة واحدة لكل مجنون أو معتوه”، مشيرًا إلى أن معدّل معاملات حالات المجانين والمعتوهين ارتفعت مقارنة بالأعوام الماضية.
هذه الأرقام تحركت خلال العامين الماضيين، وارتفعت خلال العام الماضي والحالي حتى وصل عدد المجانين إلى عشرة آلاف “مجنون” خلال سنوات الثورة، وفق صحيفة “الوطن” المقربة من النظام.
وذكرت الصحيفة في تقرير، أن رقم عشرة آلاف للمصابين بالجنون أو العته، خلال سنوات الأزمة السورية، تم الحجر عليهم، وهذا الرقم، لا يشمل الأشخاص المصابين بفقدان الذاكرة الذين يتم الحجر عليهم أيضًا، وبموجب الصحيفة فإن تأكيد الإصابة بالجنون أو العته، يكون مبررًا للحجر على الذي تثبت عليه هذه العوارض المؤكدة لغياب الأهلية بالتصرف.
وفق قانون الأحوال الشخصية السورية يعتبر “المجنون فاقد الأهلية بالكامل، أي أن جميع تصرفاته تعتبر باطلة باعتباره معدوم الإرادة”.
وبحسب القاضي الشرعي الأول فإن “أي شيء يصدر عنه لا يعتبر بالقانون وخاصة ما يتعلق بالبيع والشراء، إلى أن أي شخص يتعامل مع المجنون أو المعتوه يتحمل مسؤوليته بشكل شخصي لأن التصرفات تعتبر باطلة”.
حالات خطيرة على المجتمع
قبل العام 2011 كانت المستشفيات العامة والخاصة تتقاسم الإشراف على معالجة “المجانين”، لكن بسبب الحرب والدمار الذي خلفته المعارك خرجت الكثير من المصحات عن الخدمة، ما جعل أوضاع هؤلاء المرضى يرثى لها.
ويرى الطبيب البويضاني أنه “منذ تحرير دوما من قوات النظام، توقفت مستشفى ابن سينا للأمراض العقلية والتي تستوعب نحو 400 مريضًا، وهي المستشفى الحكومية الوحيدة التي تقع الآن على خط جبهة مشتعلة في منطقة الريحان في الغوطة الشرقية لدمشق.
وتوقفت معها مستشفى البشر الخاصة قرب حرستا، وأصبح أطباء المستشفيين يعملون في دمشق في مستشفى صغيرة أسست على عجل في منطقة الجسر الأبيض، بحسب بويضاني، مشيرًا إلى توقف مستشفى “الصفا” عن الخدمة أيضًا في منطقة المليحة بريف دمشق.
وبحسب الطبيب كانت هذه المستشفيات “تستقبل الحالات التي تشكل خطورة على نفسها وعلى الآخرين ليتم علاجها، علمًا أن أكبر عدد من المرضى النفسيين في سوريا موجود بمشفى ابن سينا جنوب دمشق، ومشفى ابن خلدون في حلب، وهما مستشفيان حكوميان مجانيان.
تتسع مستشفى ابن سينا إلى 561 سريرًا وتتسع مستشفى ابن خلدون إلى 400 سرير ويبلغ عدد كوادر المستشفيين نحو 20 طبيبًا.
غياب العلاج في مناطق المعارضة
لا يوجد أي مصح عقلي أو مستشفى نفسي في الغوطة المحاصرة، رغم الحاجة الماسة لمثل هذه المؤسسات لكونها “تشكل مشكلة للمجتمع” وفق الطبيب البويضاني، ووفق التقديرات “هناك 30 حالة على الأقل تحتاج إلى مستشفى بشكل دائم، إذ يعاني المرضى من الفصام، والأوهام ويشكون بأقرب الناس إليهم، وهذا يجعلهم يتصرفون بعنف أحيانًا، ويشكلون خطورة على المجتمع”.
ويناشد أبو عمر طعوم، والد الطفل حسام، الذي يعاني من “متلازمة دوان”، عبر عنب بلدي المعارضة السورية والقوى العسكرية بتوفير مستشفيات أو “دار صغيرة” تؤي هذه الحالات لمساعدتهم في معاناتهم، وتوفير كوادر تشرف على معالجتهم في ظل ندرة الكوادر بسبب الهجرة.
حرج “المجانين”
قد يحسد كثيرون “المجانين” على وضعهم، وخاصة في الحالة السورية، التي وبسبب تشابك فصولها وتعقدها وتشابك أطرافها محليًا ودوليًا، لم تعد تفهم مجرياتها ومآلاتها، فهؤلاء لا يهتمون بالسياسة ولا تؤهلهم إعاقتهم الذهنية لإدراك ما يجري من حولهم، وهو ما يجعلهم بمنأى عما حولهم. ولا يمكن وصف ما يمر به السوريون داخل سوريا وخارجها إلا بفصل من فصول الجنون، إذ يصفها أحد المواطنين بأنها “حفلة جنون” يشارك بها الجميع ويشربون نخبها على امتداد الأراضي السورية.
فيما يبدو من المريح لكثير من المعارضين الذين يعيشون في مناطق تسيطر عليها قوى تنتهج سلوكًا غير رغباتهم بأن يعيشو فصول رواية “العصفورية” للراوي السعودي، غازي القصيبي، إذ يأخذ بطلها البروفيسور دور “المجنون” القابع في “العصفورية” ليمرر أفكاره ومواقفه، التي لو كتبها وهو في مكان آخر لتعرض للكثير من النقد، وهو ما لم يتعرض له لأن “ليس على المجنون من حرج” في سوريا والوطن العربي.
وتعرف “العصفورية” بأنها مصطلح شعبي شائع في سوريا والبلدان العربية، يطلق على مستشفى الأمراض النفسية التي تتخصص بمعالجة المرضى النفسيين وذوي الإعاقات العقلية.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :