حسام المحمود | جنى العيسى
بعد مرور أكثر من شهر على انعقاد الجولة الـ20 والأخيرة من مباحثات الاجتماع الدولي بصيغة “أستانة”، لا يزال المسار الذي يُفترض أن يتابع لقاءاته على أرض مختلفة بمستقبل مجهول، بعد تصريحات روسية أعقبت الاجتماع الأخير، مفادها أن الاجتماع المقبل سيعقد في النصف الثاني من العام الحالي، بمكان يحدد لاحقًا.
الاجتماع الذي يعقد لقاءاته بحضور قادة ثلاث دول، منها اثنتان حليفتان للنظام السوري سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا (روسيا وإيران)، وأخرى اتجهت منذ نهاية 2022 لفتح باب التقارب السياسي معه (تركيا)، وممثلين عن النظام السوري والمعارضة ومراقبين، توقف بإعلان صادر عن نائب وزير خارجية كازاخستان (البلد المضيف للمباحثات)، كانات توميش، أن الاجتماع الذي جرى هو الأخير في بلاده، مبررًا ذلك بأن الوضع في سوريا “يتغير جذريًا”، ومن سمات هذا التغير، وفق رأيه، “سعي الدول العربية لإعادة العلاقات مع دمشق، وعودة الأخيرة إلى جامعة الدول العربية”.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف مع باحثين ومحللين ومتخصصين، ظروف توقيف المسار الذي بدا رئيسًا مع تعطيل المسارات السياسية الأخرى للملف السوري، وجدواه، ومدى احتمالية تحول المسار السياسي إلى “رباعية”.
ماذا جرى في “أستانة”؟
في 20 من حزيران الماضي، انطلقت الجولة الـ20 من “أستانة”، باجتماع ضم نواب وزراء خارجية تركيا وإيران وروسيا، ووفدًا للنظام السوري، وآخر للمعارضة السورية.
كما شارك في الاجتماع المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، غير بيدرسون، وممثلون عن الدول المراقبة، ومنهم دول جوار سوريا (العراق ولبنان والأردن).
ويعتبر هذا اللقاء السياسي الأول من نوعه بعد الانتخابات الرئاسية التركية التي أجهضت آمال رئيس النظام السوري، بشار الأسد، الذي ربط أي تطور في العلاقة بين دمشق وأنقرة بالانتخابات التركية، وفق تصريحات أدلى بها في آذار الماضي، خلال مقابلة مع قناة “روسيا اليوم”.
وفي نهاية اجتماع “أستانة”، صدر عن خارجية كازاخستان بيان حول ما نوقش في الاجتماع السياسي الذي انعقد على مدار يومين، دون أن يقدم اختراقًا أو إضافة ملموسة أبعد من كونه الاجتماع الأخير.
وتضمن البيان تشديدًا على دور عملية “أستانة” بحل مستدام في سوريا، والالتزام بسيادة سوريا واستقلالها ووحدتها وسلامتها الإقليمية.
جرت الإشارة أيضًا إلى الطبيعة البناءة لمشاورات نواب وزراء خارجية تركيا وروسيا وإيران والنظام السوري (الرباعية)، التي جرى خلالها إعداد خارطة طريق لاستعادة العلاقات بين دمشق وأنقرة، بالتنسيق مع وزارات الدفاع للأطراف الأربعة، عملًا بما جرى التوصل إليه في لقاء وزراء الخارجية في 10 من أيار، ولقاء وزراء الدفاع في 25 من نيسان.
وتناول البيان تأكيدًا على النهوض بالعملية السياسية على أساس حسن النية وحسن الجوار، ومكافحة الإرهاب، وتهيئة الظروف المناسبة للعودة الآمنة والطوعية للسوريين بمشاركة مفوضية اللاجئين.
أبدى ممثلو الوفود عزمًا على العمل معًا لمكافحة الإرهاب، ومعارضة الخطط الانفصالية التي تهدف لتقويض سياسة سوريا وسلامتها الإقليمية، وتهدد الأمن القومي لدول الجوار، مع إدانة أنشطة “الجماعات الإرهابية” التي تعمل في أماكن مختلفة من سوريا.
كما جرى النظر بتفصيل إلى وضع منطقة “خفض التصعيد” في إدلب، والاتفاق على بذل مزيد من الجهود لضمان التطبيع المستدام للوضع، بالإضافة إلى التشديد على الحاجة إلى حفظ الهدوء “على الأرض”، عبر تنفيذ كامل لجميع اتفاقيات إدلب الحالية.
وبالنسبة لشمال شرقي سوريا، فإن الأمن والاستقرار الدائمين في هذه المنطقة لا يمكن تحقيقهما إلا بالحفاظ على سيادة سوريا وسلامتها الإقليمية، مع رفض محاولات خلق حقائق جديدة على الأرض.
المشاركون أدانوا الاستهدافات الإسرائيلية في سوريا، وأكدوا أن الحل في سوريا ليس عسكريًا، بل عبر النهوض بالعملية السياسية وفقًا لقرار مجلس الأمن “2254”.
البيان شدد على الدور المهم للجنة الدستورية السورية، ودعا إلى عقد الدورة التاسعة في وقت مبكر للجنة الصياغة التابعة للجنة.
أشار المجتمعون إلى الوضع الإنساني في سوريا، وعواقب الزلزال، والتركيز على أهمية الاستمرار في تقديم وزيادة حجم المساعدة الإنسانية في كل أنحاء سوريا، بالإضافة إلى تسهيل عودة اللاجئين والنازحين داخليًا إلى مناطقهم، وفق البيان.
كما أكدوا عزمهم مواصلة عملية الإفراج المتبادل عن المحتجزين والمختطفين في إطار الفريق العامل المعني بهذه العملية وتفصيلاتها.
توقيت حساس.. “المبادرة” مقابل “أستانة”؟
الإعلان عن توقف المسار في كازاخستان عند هذه النقطة جاء متزامنًا مع تحركات عربية، ومساعي بعض الدول لتبوء كرسي “الباحث عن حل” في سوريا، وهو ما أنتج مواقف جديدة أخذت بعض مسؤولي دول جوار سوريا ودول محورية إلى دمشق، ليتبع ذلك إعادة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية، ومشاركته في قمة “جدة” التي انعقدت في 19 من أيار الماضي.
إلى جانب ذلك، قدم الأردن “مبادرة” بطرح أكثر وضوحًا وصراحة بعد زلزال 6 من شباط، والحديث عن “اتفاق” عربي على ضرورة عدم بقاء الوضع على ما هو عليه في سوريا.
وفي 25 من حزيران الماضي، نشرت مجلة “المجلة” نصًا مفصلًا لـ”المبادرة الأردنية” التي يدعمها العرب، وتناول النص كثيرًا من الملفات العالقة والقضايا التي لا يبدو حلها قريب المنال، مع تقسيم الموضوعات والملفات على ثلاثة مسارات زمنية، بما يحول “المبادرة” إلى خارطة طريق، بصرف النظر عن واقعية وقابلية الطرح الذي تحمله للتطبيق على أرض الواقع، طالما أن لكل ملف أو قضية قيمة معيّنة لدى العرب، وقيمة مضادة أو حساسية من نوع معاكس لدى النظام.
هذه التحركات واللقاءات وحالة التنشيط السياسي، التي تعتبر زيارة وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، إلى دمشق، في 3 من تموز الماضي، إحدى نتائجها، فتحت الباب أمام تساؤلات عن إمكانية أن تحل هذه المسارات أو التحركات السياسية محل بعضها، على اعتبار أن “المبادرة” خطفت الأضواء خلال الأشهر القليلة الماضية، وتحديدًا قبل انعقاد “أستانة 20”.
الباحث في العلاقات الدولية بلال السلايمة، أوضح لعنب بلدي أن “المبادرة الأردنية” لا يمكن أن تكون الحل الوحيد للملف السوري، ولن تحل محل مسار “أستانة”، على اعتبار أن اللاعبين في هذه “المبادرة” مختلفون عن لاعبي “أستانة”.
كما أن مدى قدرة “المبادرة الأردنية” على التأثير في الملف السوري، واختلاف أهدافها وأولوياتها، يقلّص إمكانية أن تكون بديلًا أو بوابة وحيدة للحل في سوريا، وفق السلايمة.
“المبادرة الأردنية أو أي مبادرة سياسية مرتبطة بالأطراف المشكّلة لهذه المبادرة وقدرتهم على التأثير والفعل السياسي، فالمبادرة الأردنية لا تزال محصورة بالدول العربية، وقدرة هذه الدول على التحرك في الملف السوري محدودة”، أضاف الباحث، مشيرًا إلى وجود جيوش لعدة دول مؤثرة على الأرض في سوريا، والدول العربية مجتمعة ليست لديها قدرة على التأثير ميدانيًا بقدر أي من هؤلاء اللاعبين على الأرض، وفق رأيه.
من جانبه، اعتبر الخبير الاستراتيجي الأردني عامر السبايلة، أن مسار “أستانة” لم يكن أصلًا مبشرًا بالحل للملف السوري، فالمسار لا يمثّل المجتمع الدولي وليس قريبًا من أروقته، لكنه إحدى المناورات التي كانت في لحظة معيّنة يمكن أن تشكّل أرضية معيّنة للانتقال إلى “جنيف”، ضمن تفاهمات أمريكية- روسية بعيدة كليًا في المرحلة الحالية، ما حوّل المسار إلى حديث بين الدول المجتمعة لا يغيّر الواقع في سوريا.
السبايلة أوضح لعنب بلدي أن التحول باتجاه الدول العربية والبحث عن ترتيب علاقات مع العرب، يمكن أن يؤدي إلى المرحلة الثانية التي يسعى فيها النظام إلى دفع العرب نحو إيجاد حل دولي.
كما لفت إلى أن مسار “أستانة” بلا أي قيمة اليوم، والامتحان الحقيقي للنظام يتجلى بكيفية بناء الثقة مع الدول العربية، لتتولى الأخيرة مهمة البحث عن حل مقبول على المستوى الدولي.
ما أهمية “أستانة”؟
الدكتور حسام الحافظ، رئيس المكتب القانوني في “اللجنة العليا للمفاوضات” لعامي 2016 و2017، وعضو وفد مفاوضات المعارضة السورية لعام 2014، أشار إلى وجود ارتباط بين إعلان اختتام مسار “أستانة”، وهي رغبة روسية بالدرجة الأولى، والتطبيع العربي.
وبحسب الحافظ، فإن مجمل الوقائع تقول إن مسار “أستانة” صُمم بالأصل لمحاولة فرض مسار سياسي الى جانب العسكري، أو بعبارة أخرى كان محاولة لإيجاد بديل للمسار السياسي تكون كلمة “الضامنين” سياسيًا هي العليا، بالإضافة إلى الدور العسكري للمسار الذي انتهت فعاليته بشكل مبكر لوجود رغبة مشتركة بين الدول المنخرطة به، ووجود حرص دولي أيضًا على تجميد ساحة الصراع العسكرية، وهو ما صب بالنتيجة في مصلحة النظام، الذي استعاد مناطق واسعة، منهيًا أي أمل بربط التفاوض السياسي بالمسار العسكري.
وكما هو معروف، فالمسار السياسي بلا قوة على الأرض تخلق نفوذًا داخل أروقة التفاوض، يفرغ المفاوضات من مضمونها، وهو أمر أنهى التوازن والنديّة بين النظام والمعارضة، لكن الحسنة الوحيدة للمسار هي تقليص أعداد القتلى والمصابين التي كانت حصيلة مروعة وبشكل يومي جراء عمليات النظام العسكرية، بدعم روسي.
ومما يميز هذا المسار نظريًا، وفق الحافظ، هو وجود المعارضة فيه، لكن وفد المعارضة لم يكن يفاوض، ولم يكن له وجود فاعل في الجولات الـ20 من عمر المسار، فكان دوره المحدود يرسمه الضامنون، وتركيا كانت تسعى لتأكيد حضور المعارضة عبر الوفد التركي، لا عبر الوفد السوري المعارض ذاته.
كما أن المسار الرباعي “تركيا وروسيا وإيران والنظام” (مسار للتقارب بين تركيا والنظام)، الذي وضع ديناميكية جديدة للقضية السورية، أنهى وجود فائدة حتى لـ”الدول الضامنة” من مسار “أستانة”، بالإضافة إلى التطبيع العربي، فلم تعد هناك ضرورة لمسارات جانبية، كما أن المسارات السياسية غالبًا ما تحل محل بعضها، على اعتبار أنها تتشكل بدافع الضرورة، وتنتهي قيمتها بانتهاء الدور المطلوب منها.
“الرباعية” بديل عن “أستانة”؟
في مقال رأي صادر في 24 من تموز الماضي، يستبعد الباحث السياسي السوري حسن النيفي، أن يغير مكان انعقاد لقاءات “أستانة” ونقلها إلى بلد آخر من نتائج المسار، على اعتبار أن لقاءات “الرباعية” باتت “امتدادًا حقيقيًا” للمسار، بفارق وحيد ربما، وهو الاستغناء المحتمل عن وفود المعارضة السورية في اللقاءات المقبلة، بعد حضورها في “أستانة”.
وكانت دراسة نشرها مركز “عمران للدراسات”، في 27 من حزيران الماضي، تحدثت حول إنهاء مسار “أستانة” وتحويله إلى عنوان جديد يستبعد المعارضة، وهو ما يعني التخلي عن دورها وإيكاله للدول الداعمة أو بعضها، دون مساعٍ حقيقية من المعارضة تعيدها إلى دائرة الحضور.
كما أشارت الدراسة إلى اجتماع “هيئة التفاوض”، في حزيران الماضي، بجنيف لا في الرياض (مقرها الأساسي)، ما يعني أن السعودية بعد توجهها الجديد وقيادتها لمبادرة “التطبيع” مع النظام، أدارت ظهرها لـ”الهيئة”.
اعتبرت الدراسة أن مسار “أستانة” وصل إلى نهايته، بعدما أنجز عددًا من الأهداف التي أُطلق لتحقيقها، لكنه لم يشكّل ضامنًا موثوقًا لـ”التسويات” التي أعقبت اتفاقات “خفض التصعيد”، ولم يقرب الحل السياسي، كما أن اختتام المسار أو انتقال مكانه، ورغبة موسكو باستبدال “الرباعية” به، ومساعي موسكو لنقل مقر مفاوضات اللجنة الدستورية إلى خارج جنيف، عوامل تشكّل بداية مرحلة جديدة في السياسة الروسية تجاه الملف السوري، مدفوعة بسباق مع “المبادرة الأردنية” التي لا تتوافق مع مصالح روسيا وإيران، وربما تصب بمصلحة تركيا في حال تحققت.
وكانت الغاية الرئيسة من مسار “أستانة”، وفق تشارلز ثيبوت، الدبلوماسي الفرنسي، والزميل في معهد “الشرق الأوسط لسياسة الشرق الأدنى“، تتجلى في ربط مختلف الجبهات العسكرية للحرب تحت مظلة أوسع، في محاولة لحماية هدف موسكو السياسي الشامل، وهو إبقاء بشار الأسد في السلطة.
ولادة “أستانة”.. مصالح الضامنين المحرك الرئيس
يعتبر مسار “أستانة” الذي انطلق مطلع عام 2017، من العوامل التي أثرت على تغيّر مناطق الانتشار والسيطرة في سوريا خلال السنوات الست الماضية.
ووفق ورقة تحليلية للباحث المتخصص في العلاقات الدولية علي حسين باكير، وجدت تركيا نفسها في النصف الثاني من 2016 في مواجهة روسيا وإيران تزامنًا مع اشتداد الحملات العسكرية على مناطق المعارضة، وفي وقت تحول فيه موقف الإدارة الأمريكية، وغاب فيه الدور العربي بالمشهد السوري.
وسط هذه المعطيات، توجهت أنقرة صوب موسكو، لبناء اتفاق “وقف إطلاق نار” يحمي من تبقى من المدنيين العزل حينها، وينقذ ما تبقى من “معارضة مسلحة”، ويتيح لأنقرة البقاء في “رقعة الشطرنج السورية”.
بدورها، تلقفت روسيا المبادرة فورًا لأنها كانت تبحث هي الأخرى عن وسيلة تتيح لها تقليل الاعتماد على آلتها العسكرية، وتحويل “انتصاراتها العسكرية” إلى مكاسب سياسية.
الاتفاق على وقف إطلاق النار بين تركيا وروسيا جرى بوصف الأولى راعية وداعمة للمعارضة المسلحة، وبوصف الثانية راعية وداعمة للنظام، المعادلة التي تجاهلت بشكل تام ومتعمد اللاعب الأقوى على الساحة السورية حينها وهي إيران، التي حاولت بدورها تعطيل الاتفاق التركي- الروسي، الأمر الذي دفع الطرفين لإشراكها في المعادلة، وحينها تقرر إنشاء منصة “أستانة” أو مسار “أستانة”، لتنطلق الجولة الأولى منه في كانون الثاني 2017.
تمثلت الأهداف الأساسية من المسار حينها، بتثبيت وقف إطلاق النار، وتحقيق تقدم في العملية السياسية باتجاه الحل السياسي المنشود بين المعارضة والنظام، وسط وجود دوافع خاصة لدى كل دولة من الدول الثلاث حينها، وفق الباحث.
كانت أنقرة تسعى إلى وقف نزيفها في الأزمة السورية، والحد من خسائرها، والحيلولة دون انهيار ما تبقى من المعارضة السورية، والتموضع لمواجهة الأولويات والمخاطر الجديدة، على رأسها مشروع ميليشيات حزب “الاتحاد الديمقراطي” الذي يهدف لاقتطاع الشمال السوري، برأي علي حسين باكير.
بينما كانت تسعى روسيا إلى تعزيز سيطرة النظام وبسط نفوذها في سوريا من خلال إبراز التقدم العسكري الذي حققته وتحويله إلى منجز سياسي، وهو ما كان يتطلب بالضرورة تواصلًا فعالًا مع تركيا بصفتها اللاعب القادر على التأثير في المعارضة السورية، ولكونها بمنزلة مفتاح إطلاق المسار السياسي.
في هذا السياق، كانت لإيران حسابات أخرى، إذ كانت تخشى تهميشها وإبعادها عن الاتفاقات السياسية بين الطرفين، كما كانت تريد المحافظة على نفوذها ومنع تقدم الآخرين على حسابها، وتعزيز موقعها في سوريا، استعدادًا لأي اشتباك محتمل مع إسرائيل وأمريكا في مرحلة ما بعد القضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية”.
20 جولة متشابهة
رغم أن معظم نتائج الجولات الـ20 لمسار “أستانة” كانت متشابهة إلى حد بعيد، فإن المشهد العسكري على الأرض اختلف كليًا بعد الجولة الرابعة منه، التي أفضت إلى إنشاء أربع مناطق “تخفيف توتر” أو ما يسمى “خفض تصعيد”، هي الغوطة الشرقية وإدلب والجنوب السوري وريف حمص الشمالي، كانت تعتبر المناطق الأبرز لسيطرة المعارضة حينها.
اقرأ أيضًا: حكاية أستانة.. “هندسة” روسية جمدت المعارضة وأطلقت يد الأسد
ورغم تعرضه لخروقات عديدة، تمكن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ونظيره التركي، رجب طيب أردوغان، في 5 من آذار 2020، من توقيع اتفاق “موسكو” الذي نص على ما يلي:
1ـ وقف إطلاق النار ابتداء من الساعة 00:01 بالتوقيت المحلي في 6 من اَذار 2020 (22:01 بتوقيف غرينيتش) على طول خط المواجهة بين النظام والمعارضة.
2ـ إقامة ممر أمني على بعد ستة كيلومترات شمالي وستة كيلومترات جنوبي الطريق الدولي السريع الرئيس في إدلب (4M)، وهو الطريق الذي يربط المدن التي يسيطر عليها النظام السوري في حلب واللاذقية.
3ـ نشر دوريات روسية- تركية مشتركة على طول طريق “4M” ابتداء من 15 من آذار من العام نفسه.
سبق هذا اتفاق آخر وقعته روسيا وتركيا ضمن اتفاقية “أستانة” عام 2017، لـ”خفض التصعيد”، تبعته اتفاقية “سوتشي” في أيلول 2018، ونصت على وقف إطلاق النار في محيط إدلب، لكن هذه الاتفاقيات تُنتهك بشكل متكرر.
عبد الوهاب عاصي، الباحث السياسي والعسكري في مركز “جسور للدراسات”، قال في حديث إلى عنب بلدي، إن مسار “أستانة” نجح فعليًا في إرساء تهدئة طويلة الأمد، وبناء نظام لوقف إطلاق النار، وهو ما تعثّرت به سابقًا جميع التفاهمات الدولية السابقة.
وأكد عاصي، في حديث لعنب بلدي، أن هذه التهدئة لم تنجح إلا بعد توقيع اتفاق “موسكو”، أي بعد أكثر من محاولة لتعزيز نظام وقف إطلاق النار بتفاهمات ثنائية بين تركيا وروسيا دون إيران، ثم إلحاق هذه التفاهمات بمذكرة “خفض التصعيد” التي تعد من المخرجات الرئيسة للمسار.
منذ مطلع 2023، شهد اتفاق وقف إطلاق النار تراجعًا وتآكلًا تدريجيًا في أهميته وربما فاعليته مستقبلًا، بسبب زيادة الخروقات وحالات التصعيد العسكري في المنطقة، ولاعتماد تركيا على نفسها أكثر في عمليات مكافحة الإرهاب إثر استمرار رفض روسيا وإيران والولايات المتحدة شن عملية عسكرية جديدة ضد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).
وقد يتضارب مسار تطبيع العلاقات بين النظام وتركيا، الذي ترعاه روسيا وإيران مع نظام وقف إطلاق النار الخاص بمسار “أستانة” من ناحية مكافحة الإرهاب ومن ناحية علاقة تركيا بالمعارضة السورية المسلحة. عبد الوهاب عاصي – باحث في الشأن السياسي والعسكري |
يحيى العريضي، الأكاديمي السوري والمتحدث السابق باسم وفد المعارضة إلى “أستانة”، قال لعنب بلدي، إن الراعي التركي والفصائل العسكرية تصوروا في هذا المسار أنهم يحمون المدنيين من “استمرار منظومة الأسد وميليشيات إيران والروس” من استهداف مناطق المدنيين، ولكن هذه الجهات قضمت تلك المناطق، وفق رأيه.
بينما أراد الروس من خلال هذا المسار، التشويش على المسار السياسي في جنيف تحت رعاية الأمم المتحدة، وشنوا حملات عليه مغزاها أنه “بلا جدوى”، بهدف اعتبار مسار “أستانة” هو الفاعل.
ما بعد الـ20.. تغيير مكان أم نسف مسار؟
تشير عديد من التحليلات إلى أن إعلان كازاخستان اختتام جولات مسار “أستانة” يصب في مصلحة روسيا، لناحية نقل مكان عقد المسار، دون أن يجري الإعلان عن المكان الجديد حتى تاريخ إعداد هذا الملف.
وعقب الإعلان الذي أتى مفاجئًا، قال المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، إن الاجتماع المقبل سيعقد في النصف الثاني من العام الحالي، بمكان يحدد لاحقًا، معتبرًا أن المسار “أثبت فاعليته”.
وفق تقرير صادر عن مركز “جسور للدراسات”، في 22 من حزيران الماضي، يبدو أن الإعلان عن جولة جديدة بصيغة “أستانة” جاء استجابة لموقف تركيا التي لم تقبل بإنهاء المسار، لكن بسبب عدم تحديد المكان، يبقى احتمال عدم انعقاد جولة جديدة في مكان آخر خلال النصف الثاني من العام الحالي قائمًا، في ظل إصرار روسيا وإيران والنظام على جعل الأولوية للاجتماعات “الرباعية” وحل القضايا الخلافية مع تركيا عبرها، إضافة إلى التركيز على مسار التطبيع العربي والعلاقات الثنائية مع الدول العربية.
واعتبر التقرير أن الإعلان عن انتهاء مسار “أستانة” رغم احتمال استمرار صيغته لاحقًا ولو بشكل مختلف، يبدو كمحاولة من النظام وحلفائه لتفريغ المباحثات من مضمونها والضغط على تركيا لمعالجة القضايا التي كان المسار يتضمنها من خلال الاجتماعات الرباعية، وتشمل قضايا الإرهاب وخروج القوات الأجنبية وعودة اللاجئين وغيرها، إضافة إلى الرغبة الواضحة في استبعاد المعارضة السورية من المشهد العسكري والأمني بالتوازي مع جهود النظام وحلفائه لاختزال دورها في المشهد السياسي بمجرد طرف في عملية مصالحة وطنية بعيدًا عن القرار الأممي “2254”، الأمر الذي من شأنه أن يفسّر نسبيًا موقف تركيا التي يبدو أنها لا تزال تتمسك بالمسار كأداة مساهمة في الحفاظ على وجود المعارضة رغم مساعي النظام لتقويض نفوذها عسكريًا.
الباحث عبد الوهاب عاصي، اعتبر أن الإعلان عن جولة مقبلة دون تحديد مكانها وزمانها، قد يثقل إمكانية استئناف المفاوضات، لا سيما في حال إصرار روسيا أو إيران على اختيار مكان لا ترغب به تركيا أو لا ترحب الدولة المقترحة بالاستضافة.
كل ذلك قد يؤثر على التزام أطراف النزاع بنظام وقف إطلاق النار، وعملها على اختبار إمكانية خرقه، ما يُعزز فرص تآكله تدريجيًا، وفق رأي عاصي.
ويعتقد الباحث أنه كلما قلّ التزام الأطراف بوقف إطلاق النار سيؤثر ذلك على فرص استئناف العملية السياسية، إذ لطالما ربط المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، غير بيدرسون، تحقيق التقدم في عملية بناء الثقة بين أطراف النزاع، التي يركّز شخصيًا عليها، بما يسميه الجمود الاستراتيجي أي حالة التهدئة الطويلة الأمد الناجمة عن التعاون بين ضامني “أستانة”.
فيما يرى الأكاديمي يحيى العريضي، أن غياب المسار أفضل من استمراره، لأسباب تتعلق بعدم الخداع أكثر.
غياب المسار أفضل من استمراره، إذ قد ينهي بغيابه تحقيق أهدافه السلبية بأذى القضية السورية، فالقضية لن تجمد أكثر بغيابه، فقط سيتوقف خداع النظام وروسيا بأن النظام منخرط بعملية تفاوض، بينما لا يريد أي تفاوض، ولا يزال في حال “الأسد أو لا أحد”.
يحيى العريضي – أكاديمي سوري |
ماذا استفاد “الضامنون” من “أستانة”؟
استطاعت تركيا تنفيذ عمليات عسكرية داخل الأراضي السورية، ونشرت قوات لها في نقاط عسكرية، محققة بذلك جملة من الأهداف، كالسيطرة على مساحة من الأراضي لضمان عودة اللاجئين، وقطع الطريق أمام حزب “الاتحاد الديمقراطي” بإقامة كيان له في الشمال، ووضع موطئ قدم عسكري لها يخولها تعزيز موقعها التفاوضي في الملف السوري.
بينما عززت روسيا من نفوذها داخل المؤسسات والأجهزة التابعة للنظام السوري، ونجحت في زيادة نفوذها على الأسد على حساب الجانب الإيراني، وحصلت العديد من الامتيازات السياسية والاقتصادية في سوريا.
فيما لم يتِح مسار “أستانة” لإيران زيادة نفوذها بالشكل الذي أتاحه لروسيا وتركيا، لعدة أسباب تتعلق بالتقاطعات السابقة الروسية- الإسرائيلية، والروسية- الأمريكية، والأمريكية- الإسرائيلية، المتعلقة جميعها بالحد من النفوذ الإيراني في سوريا.
علي حسين باكير- باحث متخصص في العلاقات الدولية
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :