جنى العيسى | حسن إبراهيم | محمد فنصة
مرور 12 عامًا على اندلاع الثورة السورية، رافقه تغير جذري طال كل تفاصيل الحياة في البلاد، على اختلاف مناطق السيطرة، وبمرور الوقت وازدياد المعاناة، ينخفض سقف آمال السوريين نسبيًا في الحل.
وأمام تردي الواقع المعيشي إلى درجة مأساوية في مناطق سيطرة النظام، بمنطق الأرقام الأممية، وفي ظل مشكلات لا تنقطع في شمال غربي سوريا، إلى جانب حالة عدم استقرار في الشمال الشرقي، انشغل الناس بتفاصيل احتياجاتهم اليومية ومحاولة التعامل مع سيل من الكوارث، لا يبدأ بتفشي الأمراض، ولا ينتهي بالزلزال.
رد الفعل الدولي الضعيف، الذي لا يستجيب للمطالب والطموحات، أثر على السوريين المنتشرين في جميع أنحاء العالم، لاجئين في الخارج، ونازحين في الداخل، أو حتى رهائن للقبضة الأمنية في مناطق تخضع لسيطرة حكومة النظام.
هل بدا السوريون أكثر واقعية بعد مضي 12 عامًا، مع احتفالهم في مناطق مختلفة بالذكرى الـ12 للثورة السورية؟
يسيطر الجمود على الملف السوري، فهناك حالة استعصاء تشوبها خروقات في النشاط العسكري للمعارضة منذ عام 2020، تقابله عمليات قصف ممنهجة لقوات النظام وروسيا تطال الشمال السوري، ولم تعد العملية السياسية ملكًا للسوريين، بعد تأطيرها بتفاهمات دولية إقليمية راعت مصالحها، واستخدمت سوريا مكانًا لصراعاتها البينية، أو طموحاتها التوسعية.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف، مع مسؤولين وخبراء، أسباب عدم التوافق على الحل في سوريا بين الأطراف المؤثرة سواء كانت محلية أو إقليمية أو دولية، مع الإشارة إلى مسؤولية كل طرف عن هذا الجمود، كما تحاول استشراف المستقبل القريب للملف السوري في ظل المعطيات الحالية.
عسكريًا وسياسيًا.. الجمود سيد الموقف
فتيل المعركة خامد
ثبّت اتفاق “موسكو” أو اتفاق “وقف إطلاق النار” خريطة سيطرة القوى العسكرية في سوريا، منذ توقيعه في 5 من آذار 2020، بين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ونظيره التركي، رجب طيب أردوغان، وكانت “تسويات” 2018 حيّدت الجنوب، وسمحت للنظام باستعادة السيطرة، مع احتكاكات تظهر ضعف النظام رغم سيطرته العسكرية.
اتفاق لم يوقف قصف النظام وروسيا شبه اليومي على مناطق سيطرة المعارضة شمال غربي سوريا، قوبل بدوره من قبل المعارضة بردود فعل “خجولة”، كقنص عناصر أو استهداف أماكن تمركز لقوات النظام في مناطق ضمن مرمى فصائل المعارضة، يضاف إليها عمليات “انغماسية” ارتفعت وتيرتها مؤخرًا، ووصل عددها إلى 20 عملية خلال الستة أشهر الماضية.
لم تنفذ فصائل المعارضة أي عمل عسكري يغيّر خريطة السيطرة بعد الاتفاق، سواء “هيئة تحرير الشام” التي تسيطر على إدلب وأجزاء من ريف حلب الغربي، أو “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا الذي يسيطر على ريفي حلب الشمالي والشرقي ومدينتي رأس العين وتل أبيض شمال شرقي سوريا، رغم امتلاكهما عشرات الآلاف من المقاتلين وإجرائهما عشرات دورات التدريب، وإطلاق حملات الانتساب العسكرية لصفوف الفصائل.
“إغارات وضبط الداخل”.. “المعارك ولّت”
كرر القائد العام لـ”تحرير الشام”، “أبو محمد الجولاني”، الحديث خلال ظهوره عن أن المعركة في المنظور القريب والبعيد ذهبت في مصلحة الثورة، وأن للمعركة تكاليف، و”تحرير الشام” مستعدة لها، وأن “الكلمة لصاحب القوة على الأرض”.
تواصلت عنب بلدي مع المكتب الإعلامي لـ”تحرير الشام”، وطرحت أسئلة حول وجود رؤية لتغيير خريطة السيطرة العسكرية في المنطقة، والخطة الزمنية المتوقعة لذلك، ومدى امتلاك “الهيئة” القدرة والأدوات لفتح الجبهات أو تنفيذ عمل عسكري، والعقبات أمام ذلك، ورؤيتها المستقبلية لواقع العمل العسكري في المنطقة، لكنها لم تتلقَّ ردًا حتى لحظة نشر هذا التقرير.
رئيس وحدة المعلومات في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، الباحث نوار شعبان، قال، إن فصائل المعارضة شمال غربي سوريا ليست لديها الرغبة بشن هجمات برية قد تنتج عنها عمليات قصف واسعة الجغرافيا، بالإضافة إلى أنها أصبحت مدركة لتفاصيل الاتفاق العام الذي يحدث بين الدول.
وقال نوار شعبان، وهو خبير في الشؤون العسكرية، في حديثه لعنب بلدي، إن مرحلة التغيرات بسبب عمل عسكري ولّت، وفي حال شهدت المنطقة تغيرات ستكون محدودة ضمن اتفاقات دولية، وإن الفصائل باتت على يقين أن أقصى ما يمكن أن تقوم به من عمل عسكري هو نفس ما ينفذه النظام وحلفاؤه من عمليات استهداف و”إغارات”، لكن الفرق أن النظام وميليشياته يستهدفون المواقع المدنية، في حين أن قوات المعارضة تهاجم ثكنات ونقاطًا عسكرية.
ويرى شعبان أن الفصائل تركّز في العام الحالي على ضبط الداخل، والحد من عمليات التهريب من مناطق سيطرة النظام، وملاحقة خلايا تنظيم “الدولة الإسلامية”، واستهداف خلايا النظام التي تقوم بالتفجيرات في المنطقة، وتوحيد الشكل الأمني في مناطق سيطرة “الجيش الوطني”.
ويرى شعبان أن “التشكيلات العسكرية التي تثبت الوضع الأمني الداخلي وتؤمّن تحركات المدنيين وعمل المنظمات هي التي أصبحت ذات فاعلية أساسية كبرى، ومن الممكن أن يكون لها دور معيّن في مرحلة الاتفاقات الدولية”.
هذه العمليات، وفق شعبان، هي التي يمكن لقوات المعارضة أن تعمل في إطارها وأن تطورها، لافتًا إلى أن ضبط المنطقة أمنيًا وتجاوزها آثار كارثة الزلزال الذي ضرب المنطقة في شباط الماضي، يثبت واقع سيطرة القوى المحلية.
“التشكيلات العسكرية التي تثبت الوضع الأمني الداخلي وتؤمّن تحركات المدنيين وعمل المنظمات هي التي أصبحت ذات فاعلية أساسية كبرى، ومن الممكن أن يكون لها دور معيّن في مرحلة الاتفاقات الدولية”.
نوار شعبان رئيس وحدة المعلومات في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” |
مسار سياسي في مرحلة “موت سريري”.. من المسؤول؟
جانب عسكري متوقف لقوى الثورة والمعارضة في الشمال السوري، يقابله جانب سياسي معطل بالكامل، إذ لم تجرِ أي اجتماعات في إطار العملية الوحيدة التي ترعاها الأمم المتحدة، وهي اللجنة الدستورية السورية، منذ أكثر من تسعة أشهر، وسط تراشق التهم والمسؤوليات عن تمييعها وتجميدها، وعدم قدرة المعارضة الرسمية السورية على تقديم أي حلول جديدة لضمان مضي المسار قدمًا.
عضو “هيئة التفاوض السورية” إبراهيم الجباوي، اعتبر في حديث لعنب بلدي أن النظام السوري هو من يتحمل مسؤولية تعطيل المسار السياسي عامة ومسار اللجنة الدستورية خاصة، وذلك بدعم وتوجيه “علني وفاضح” من قبل حلفائه في طهران وموسكو.
وقال الجباوي، إن تراخي المجتمع الدولي، لا سيما الدول الفاعلة في القضية السورية، وعدم الجدية بإيجاد حل شامل وعادل، هو عامل رئيس تقع عليه مسؤولية كبرى في تعطيل العملية السياسية.
وأوضح الجباوي أنه خلال السنوات السابقة، وتحديدًا منذ اتفاق الدول على اعتبار القرار “2254” المرجعية الوحيدة للحل السياسي في سوريا، لم يضغط المجتمع الدولي بشكل حقيقي وكافٍ لتطبيق هذا القرار، وإنما اكتفى بالتصريحات بينما النظام السوري وحلفاؤه كانوا يعطلون أي خطوات جدية.
“اعتماد النظام ورهانه على الحل العسكري وتحول المجتمع الدولي إلى مجرد متفرج أو مراقب لما يحدث ولما يحل بالسوريين، وتقاعسه عن الاهتمام بقضية شعب ينشد الحرية والكرامة، جعل المأساة تكبر وتتفاقم”.
د. إبراهيم الجباوي عضو “هيئة التفاوض السورية” |
من جهته، يرى الرئيس السابق لـ”الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة”، خالد خوجة، أن المسار السياسي في الأصل يحتاج إلى قوة عسكرية وشعبية ضاغطة على الأرض، لإجبار الأطراف على التفاوض.
ويعتقد خوجة في حديث لعنب بلدي، أن المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري أصبحت أضعف الأطراف الموجودة، لذلك لا يمكن أن يكون للمعارضة السورية، من “لجنة دستورية” أو “ائتلاف” أو فصائل، وزن على الطاولة إلا إذا كان لديها ثقل وسيطرة فعلية على الأرض، وهذا غير موجود.
وتطال “هيئة التفاوض” انتقادات واتهامات بالعجز والفشل، وعدم تقديم أي حلول سياسية، تتخللها مطالب بإفساح المجال لأشخاص آخرين يمتلكون أدوات سياسية مغايرة لأدواتهم ربما يحملون حلًا أو جزءًا من الحل.
الجباوي قال، إن “هيئة التفاوض” منذ تأسيسها تواصلت مع جميع الدول ونسقت مع المبعوث الدولي، وحضرت اللقاءات التي دُعيت إليها أو التي طلبت عقدها، ولكن النظام هو من كان ولا يزال يعطل أي جهد باتجاه الحل، مضيفًا أن “هيئة التفاوض” لم تقبل أي تنازل عن أي حق أو هدف من أهداف الشعب السوري وثورته.
الرئيس السابق لـ”الائتلاف”، خالد خوجة، يرى أن فكرة “هيئة التفاوض” بشكل منفصل تعني هيئة منفصلة عن الأرض، وهي بالأساس فكرة غير سليمة وغير مجدية، ويعتقد أن تبديل “هيئة التفاوض” بهيئة أخرى دون أن تكون منبثقة عن قوى فاعلة على الأرض فعليًا، لن يكون لها أي جدوى، ومن العبث فعل ذلك.
وذكر خوجة أنه ربما قبل 2016، لو انبثقت عن الفصائل التي كان لها ثقل وسيطرة على الأرض بمختلف مسمياتها هيئة سياسية، كان يمكن أن تتغير الأمور في أي مسار سياسي، وكان ذلك مرهونًا بدعم دول الجوار أو الولايات المتحدة الأمريكية.
إقليميًا.. المصالح تحكم
بعد 12 عامًا من الثورة السورية، تقف دول إقليمية على طرفي نقيض بالنسبة لعلاقتها مع النظام السوري، نتج عن هذا التضارب جمود سياسي، لم يسعف السوريين بالتوصل إلى حل ينهي معاناتهم.
قطر لم تغير من موقفها الداعم للثورة، وتظهر في تصريحات خارجيتها الأحدث تمسكها بالحل السياسي الذي تتفق عليه جميع الأطراف.
دعمت قطر المسار السياسي بدءًا من تأسيس “الائتلاف الوطني السوري” على أراضيها عام 2012، وهي الدولة الوحيدة التي تستضيف سفيرًا لـ”الائتلاف”، مقابل قطع علاقاتها الرسمية مع النظام.
السعودية أيضًا كانت من الداعمين للثورة السورية، واستضافت عدة اجتماعات للمعارضة، أُسست عبرها “الهيئة العليا للمفاوضات” عام 2015، وأعلنت مرارًا رفضها بقاء رئيس النظام السوري، بشار الأسد، في السلطة، قبل أن تترك هذا المطلب في الأعوام الأخيرة، وتتحدث مؤخرًا عن “ضرورة إنجاز حوار مع النظام”.
على الجانب الآخر، شهد الموقف الإماراتي من الثورة منعرجًا سياسيًا، بعد أن كانت ملتزمة بالقرار الخليجي عام 2012، بإغلاق سفارتها وقطع العلاقات، لتعود وتفتتحها عام 2018، مبررة خطوتها بأن الدور العربي في سوريا أصبح “أكثر ضرورة تجاه التوغل الإقليمي الإيراني والتركي”.
وتقود حاليًا الإمارات جهود التطبيع مع النظام، وإعادته إلى الجامعة العربية من جهة، وتشارك في مباحثات تسوية العلاقات بين أنقرة ودمشق من جهة أخرى.
وبحسب تقرير لصحيفة “الشرق الأوسط”، في 8 من كانون الثاني الماضي، سعت الإمارات ليكون لها دور في رعاية التطبيع السوري- التركي، عبر مسؤول حكومي ينضم للمحادثات أو عبر استضافتها للقاءات.
ويُقدّم الانفتاح التركي على النظام السوري، عبر خطاب سياسي راغب بالتقارب، واجتماعات بين مسؤولين كبار على مستوى الوزراء بين الطرفين بدفع روسي، صورة عن التحوّلات التي شهدتها سوريا، وأثرت على مسارات الثورة على مدار 12 عامًا، ما تسبب بعدم تحقيق أي من أهدافها الرئيسة، وخصوصًا لجهة التحوّل السياسي في الحكم، والإطاحة بالنظام.
ورعت تركيا المعارضة السورية السياسية، ودعمت الفصائل العسكرية، وسعت عبر مسار “سوتشي” لحل الوضع السوري مع روسيا وإيران، قبل أن تتقارب مطالبها “للقضاء على التهديدات الأمنية على حدودها، وحل أزمة اللاجئين السوريين في بلادها”، كهدف من تسوية علاقاتها مع النظام، وفق تصريحات مسؤوليها.
إيران.. هدف التقارب وسبب الفشل
كان هدف إبعاد النظام عن إيران هو الذريعة التي بررت بها الدول العربية مساعيها لإعادة العلاقات معه، بدفع روسي وتكرار للرفض الأمريكي لهذه التوجهات، لكن المؤشرات التي حملتها الأسابيع الأولى من عام 2022، عكست مراهنة النظام على إيران، وتجسدت هذه المؤشرات بمزيد من الاتفاقيات واللقاءات الرسمية بين الطرفين، بحسب تقرير لمركز “الحوار السوري”، صدر مطلع العام الحالي.
الدكتور في العلاقات الدولية خالد العزي، يرى في حديث لعنب بلدي أن روسيا وأمريكا عبر تدخلهما العسكري، استطاعتا إبعاد الحاضنة العربية عن احتواء القضية السورية، في حين تثبت عودة السعودية إلى الحوار ومن قبلها الإمارات أن الدول العربية أخطأت بترك الساحة السورية للنفوذ الإيراني.
ويرى العزي أن الدول العربية المؤثرة بقيادة الإمارات ومن ورائها السعودية، تحاول وقف التمدد الإيراني في سوريا، حتى لو كان ذلك من بوابة النظام، لذا عرضت عليه شروطًا تهيئ لفك ارتباطه مع إيران، بينما تندفع أنقرة للمفاوضات مع دمشق لأسباب تخص أمنها القومي، وتحت ضغوط داخلية تخص إعادة اللاجئين السوريين.
ولدى السعودية شروط لتسوية العلاقات مع النظام بالعودة إلى مقتضيات اتفاقية “جنيف”، وإجراء مصالحات مع المعارضة، وبناء دستور جديد، وإعادة اللاجئين، مقابل إعادة الأعمار في سوريا، وفق العزي.
وفسّر العزي زيارات الأسد إلى سلطنة عمان والإمارات، بارتباطها بوساطات عربية وتقديم شروط لرعاية المرحلة الانتقالية، بعيدًا عن التعويم أو تقديم الدعم له، لكن إيران لا تزال تفشل هذه الخطط.
ويعتقد العزي أن الحالة “الضعيفة” الحالية لإيران، قد تدفعها لتغيير دورها السياسي في المنطقة بعد الاتفاق السعودي- الإيراني الأحدث، الذي قد يتضمن تسويات لعدة مناطق في سوريا والعراق واليمن، في حين لم تنجح الخطط العربية سابقًا في إبعاد الأسد عن إيران المؤثرة جدًا في قرارات النظام.
واتفقت السعودية وإيران على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين خلال الشهرين المقبلين، على أن يجري افتتاح السفارات ضمن الفترة ذاتها.
وتتخوف البلدان العربية، وخصوصًا الخليجية، من الدور الإيراني بتغيير ديموغرافي في سوريا، وهو ما تسبب في لجوء ونزوح نحو 12 مليون سوري من جهة، واستجلاب “إثنيات شيعية” من إيران والعراق وأفغانستان ولبنان من جهة أخرى، بحسب العزي.
وتعمل الدول الإقليمية والعربية على تسريع محاولة الانخراط في القضية السورية، استغلالًا لـ”الفراغ الدولي” الذي تركته أمريكا في سوريا، وبالمثل بالنسبة لروسيا المشغولة بحربها في أوكرانيا، بحسب الأكاديمي في العلاقات الدولية.
وعززت إيران وجودها العسكري بعدة مناطق في سوريا، بعد انسحاب جزئي للقوات الروسية، التي تركّز جهودها على الحرب مع أوكرانيا، وهي أيضًا تحظى بأولوية القضايا بالنسبة لإدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن.
وأسهمت إيران بدعم النظام عسكريًا واقتصاديًا منذ بداية الثورة، عبر ميليشيات تابعة لها من العراق ولبنان مثل “حزب الله”، كما كان لـ”فيلق القدس” و”الحرس الثوري” الإيراني وجود بارز في المنطقة، وامتد الوجود الإيراني على مدار السنوات في معظم المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، ما عدا منطقة الساحل التي كان لروسيا الوجود الطاغي فيها.
رهن تأثير روسي- أمريكي
عند الحديث عن أي مؤشرات أو تصريحات توحي بتقارب أو تغيير موقف من النظام السوري بالنسبة للدول الإقليمية المؤثرة، تتجه الأنظار نحو الموقف الأمريكي الذي سيصدر عنها، لما له من تأثير في إيقاف هذه المساعي من جهة سياسية، أو من جهة اقتصادية عبر رادع عقوباتها المفروضة على من يتعامل مع النظام.
الأكاديمي في العلاقات الدولية، والباحث في المركز “العربي للأبحاث ودراسة السياسات” أحمد قاسم حسين، قال لعنب بلدي، إن القضية السورية عرفت خلال العقد الماضية تحولات رئيسة، ارتبطت أولًا بتوجهات السياسة الخارجية الأمريكية في ظل الإدارات المتعاقبة.
وكانت مقاربة إدارة الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، “أمنية يشوبها كثير من التردد”، وهو ما عبّر عنه صراحة في مذكراته، وفق حسين، الذي يرى أنه فسح المجال أمام أدوار أكبر للقوى الإقليمية للتدخل في سوريا، ولكن “التناقض بينها عقّد المشهد السياسي والعسكري فيها.
وعملت روسيا بعد تدخلها العسكري في سوريا على إعادة تأهيل النظام، وخصوصًا بعد سيطرة الأخير العسكرية على مدن حلب ودرعا وريف دمشق وحمص، وهو ما نجحت بتحقيقه مع الإمارات وتتوسط لأجله مع تركيا.
القوى الإقليمية في المنطقة العربية غير قادرة على إحداث “خرق كبير” في جدار القضية السورية، وذلك لأن الفاعل الرئيس هو الولايات المتحدة الأمريكية، وأي تغيير في توجهاتها الخارجية أو محددات تعاملها مع النظام هو الذي سيحدث نوعًا من التغيير.
أحمد قاسم حسين أكاديمي وباحث في المركز “العربي للأبحاث ودراسة السياسات” |
وتبنى مسارات التعامل مع النظام بشكل يتجاوز كل القرارات الدولية ومسارات التفاوض في “جنيف” و”سوتشي” و”أستانة”، بناء على احتياجات أمنية وسياسية للدول الإقليمية، وفق الأكاديمي في العلاقات الدولية، الذي يرى أن إعادة العلاقة مع النظام لم تسهم في حل الأزمة الاقتصادية التي تعصف بمناطق نفوذه، ولم تحدث أي تغيير فيما يتعلق بإيجاد حل سياسي.
الرئيس السابق لـ”الائتلاف الوطني”، خالد خوجة، قال لعنب بلدي، إن المعادلة الإقليمية تغيرت في تركيا بعد 2016، إذ كانت تركيا في مواجهة النظام وروسيا بشكل غير مباشر، لكن بعد إسقاط الطائرة الروسية عام 2015، انقلبت الأمور وأصبحت تركيا أقرب إلى الموقف الروسي في موضوع الحل السياسي، حيث ضغطت على المعارضة السورية للانخراط مسار “أستانة”، الذي كانت تركيا تعارضه سابقًا.
ومع استمرار حالة الاستعصاء السياسي التي عزّزها تضارب مصالح الفاعلين الدوليين والإقليميين، وضعف تأثير الفاعلين المحليين، وانكماش هوامش تأثيرهم، ظهرت مبادرة إقليمية توصف بأنها انسحاب من دائرة تغيير النظام ومحاسبة رؤوسه، إلى دائرة تعديل سلوكه وإيجاد مقاربات إنسانية وأمنية للمشهد تحقق مصالح الفاعلين المنخرطين والمتأثرين بالصراع في سوريا، وفق تقرير مركز “الحوار السوري”.
الأطراف الدولية داعم لا أكثر
لم يتغير موقف الأطراف الدولية من الثورة السورية على مر السنوات، رغم تراجع الملف السوري على سلم أولويات الدول الداعمة خلال السنوات الأخيرة.
ووسط غياب الأدوات المحلية لتغيير واقع الجمود في سوريا، وتضارب مصالح الدول الإقليمية، تثار التساؤلات حول موقف الدول الكبرى المؤثرة بالملف، وأدواتها للتغيير، ورؤيتها لمستقبل الملف في ظل المعطيات الحالية.
الأكثر تعقيدًا على الكوكب
في الإحاطة الأخيرة للمبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسون، في 28 من شباط الماضي، وصف الملف السوري بأنه واحد من أكثر المشاهد السياسية تعقيدًا على هذا الكوكب.
وأضاف بيدرسون أن التعقيد يأتي من وجود إقليم مقسم إلى عدة مناطق سيطرة، حكومة تخضع لعقوبات من مانحين رئيسين، سلطات أمر واقع في مكان آخر، أكثر من جماعة إرهابية مدرجة، خمسة جيوش أجنبية، نزوح جماعي، انتهاكات، تجاوزات ممنهجة لحقوق الإنسان، مؤسسات متدهورة أو فاسدة أو غائبة، بنى تحتية مدمرة، اقتصاد منهار، اتجار بالمخدرات، فقر مدقع، واحتياجات متزايدة.
واعتبر بيدرسون أن الوضع في سوريا غير مستدام، وغير مقبول على الإطلاق، وأن الشعب السوري وحده من يدفع الثمن.
ويرى بيدرسون أن الوصول إلى حل في سوريا، يتطلب التواصل مع أصحاب المصلحة، وجميع اللاعبين العرب الرئيسين، ولاعبي “أستانة”، والولايات المتحدة الأمريكية، وجميع اللاعبين الأوروبيين.
“لا يجب أن أستخدم مصطلح الإحباط، أعتقد أننا جميعًا نشعر بألم عميق من حقيقة أن العملية السياسية لم تحقق شيئًا للشعب السوري، إنها مستمرة منذ 12 عامًا، ولم نشهد استعدادًا سياسيًا من قبل الأطراف للمضي قدمًا، كما كان هناك نقص في التعاون الدولي لجعل ذلك ممكنًا”.
غير بيدرسون مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا |
أمريكا: الجمود سببه النظام
للحديث حول الأطراف المسؤولة عن الجمود في سوريا، ودور الاتحاد الأوروبي في هذا السياق، تواصلت عنب بلدي مع المكتب الصحفي للقائم بأعمال بعثة الاتحاد الأوروبي إلى سوريا، دان ستوينيسكو، إلا أنه اعتذر عن عدم الرد على التساؤلات، بسبب “عدم إمكانية إجراء مقابلات صحفية”.
مسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية، قال عبر مراسلة إلكترونية مع عنب بلدي، إن بلاده كانت متسقة في رسالتها مع جميع الأطراف بأنه لا يمكن أن يكون هناك حل عسكري للصراع.
ويظل الحل السياسي بقيادة سورية، ويمثل إرادة جميع السوريين كما هو موضح في قرار مجلس الأمن الدولي رقم “2254”، وهو الحل الوحيد للصراع القابل للتطبيق ، بحسب المسؤول.
واعتبر المسؤول أن الولايات المتحدة الأمريكية تواصل حث جميع الأطراف على الانخراط بشكل كامل في هذه العملية، ودعم جهود مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا، لكن من الواضح أن المشكلة تقع بشكل كبير على عاتق النظام.
وحول الانتقادات المتكررة للدول الكبرى، بشأن تراجع الملف السوري على سلم أولوياتها، قال المسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية، إن النظام السوري لا يزال يشكّل العقبة الرئيسة أمام تحقيق تقدم نحو حل سياسي للصراع وأمام اللجنة الدستورية.
يجب على النظام تمكين مندوبيه من التفاوض بحسن نية من أجل الشعب السوري على النحو المبيّن في قرار مجلس الأمن رقم “2254”.
مسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية |
مسؤولية الجميع
لا تتقاطع أولويات الدول الكبرى المؤثرة في الملف السوري (أمريكا، الاتحاد الأوروبي، روسيا، إيران، تركيا، وغيرها) مع قضية السوريين، ما يجعل جمود الملف السوري “غير مزعج لها”، وإن كان بعضها غير راضٍ عنه وفق أدبياتها السياسية، بحسب ما يرى الدكتور في الدراسات السياسية والاقتصادية سلام كواكبي.
وقال كواكبي في حديث إلى عنب بلدي، إن الاتحاد الأوروبي مشغول بأوكرانيا، وأمريكا لديها الصين، وروسيا لديها كل الغرب، وإيران لديها استقرار النظام وتحييد العناصر المهددة لاستمرار نظام “الملالي”، وتركيا لديها الانتخابات.
وحول الأدوات التي تملكها هذه الدول لتغيير الواقع، يرى كواكبي أن الدول الأوروبية وأمريكا تملك أوراقًا مؤثرة جدًا، منها المتعلقة بإعادة الإعمار التي يطالب بها المجتمع الدولي عبر الأمم المتحدة.
يتحمل مسؤولية جمود الملف السوري عدة أطراف، منها النظام السوري الذي يتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية حين أفشل مفاوضات “جنيف 1” عام 2012، والمعارضة السورية الرثة الهزيلة المشتتة، بالإضافة إلى الأطراف الدولية والمحلية، إلى جانب الدول الداعمة للنظام التي “تبازر” وتستغل الملف لمصلحتها.
د. سلام كواكبي أستاذ الدراسات السياسية والاقتصادية |
لا حل قريب
المسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية، يرى أن إنهاء “الصراع” في سوريا يتطلب من روسيا أن تلعب دورًا بنّاء أكثر، إذ لطالما كانت أمريكا منفتحة على الحوار مع موسكو بشأن سوريا، بحسب قوله.
كما يجب على النظام تغيير سلوكه، حتى تكون هناك نهاية مستدامة للنزاع في سوريا، بحسب قول المسؤول.
بدوره، يرى المبعوث الأممي، غير بيدرسون، أنه لا يمكن لأي جهة فاعلة أو مجموعة جهات فاعلة أن تحل هذا النزاع بمفردها، موضحًا أنه يجب أن تكون هناك عملية سياسية حقيقية بقيادة وملكية سورية تيسّرها الأمم المتحدة، يرافقها جهد دولي منسق لدعم ذلك، حيث يجب أن يعمل جميع الفاعلين الرئيسين في جهد متماسك.
لا حل للملف السوري على المدى القريب أو المتوسط، بحسب ما يعتقد الدكتور سلام كواكبي، معربًا عن تشاؤمه في هذا السياق، مبررًا ذلك بأنه لا يزعج أحدًا، فلا أحد من الأطراف يستعجل الوصول إلى مستقبل إيجابي للملف السوري.
ويبقى الملف بانتظار حل تُحفظ فيه مصالح الدول المؤثرة في سوريا (تركيا، روسيا، إيران)، ولا يخرج الغرب فيه متسخ الوجه تمامًا، ويكون على حساب الشعب السوري، لكن على الأقل ستتوقف المقتلة، مع إمكانية حدوث عملية بناء وعي قد تستمر لعقود، ليخرج عنها جيل مقبل قادر على عملية التغيير السلمية بعيدًا عن الوقوع في الفخ الدولي والإقليمي الذي استغل الملف واستعمله لمصلحته، بحسب قول كواكبي.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :