tag icon ع ع ع

 عبادة كوجان / جودي عرش

لا يبدو أن تغييرًا ديموغرافيًا طرأ على مدينة حمص، من حيث نسب الطوائف الموجودة في المدينة، بعد مضي ما يقارب خمس سنوات على اندلاع الثورة ضد النظام السوري، وما تبعها من عمليات عسكرية أفضت إلى تهجير نصف سكان ثالث أكبر المدن السورية.

لكن سعيًا حكوميًا لتنفيذ مشاريع إعمار المناطق المدمرة، بدأت ترتسم ملامحه انطلاقًا من حي باباعمرو، وقال عنه ناشطون وخبراء إنه سيفضي إلى استيطان وافدين من طوائف “غير سنية” في حمص، ما يسهم بتغيير خارطتها الطائفية مع مرور الوقت.

النزوح الأول عقب المجزرة

منطقة باب السباع، والتي تتضمن أحياء عشيرة والنازحين وكرم الزيتون، ومنطقتي المريجة والعدوية، كانت مسرحًا لأول عملية نزوح في مدينة حمص، عقب مجزرة كرم الزيتون (آذار 2012)، والتي راح ضحيتها عشرات النساء والأطفال، قتلوا ذبحًا على أيدي مسلحين من الطائفة العلوية، يقول عنهم ناشطو المدينة إنهم باتوا ضمن مجموعات الدفاع الوطني التي تشكلت قبل نحو عامين.

وروى جلال التلاوي، الناشط الحمصي وأحد شهود العيان على المجزرة، بعض التفاصيل المؤلمة، على حد وصفه، في ذلك اليوم، “لم يتمكن الجيش الحر من من تدارك وقوع المجزرة آنذاك، لشدة القصف على الحي من عدة محاور، وقلة الذخيرة والأسلحة في أيدي الثوار. لكنه ساعد بإخلاء منطقة باب السباع وما حولها من السكان، آلاف منهم نزحوا إلى بقية أحياء حمص، كان لحي الوعر النصيب الأكبر”.

بعد سيطرته على منطقة باب السباع بالكامل، ساهم النظام بتسهيل سرقة منازلها من قبل الميليشيات الطائفية، وبيع الأثاث المنهوب في أسواق أعدت خصيصًا له، عرفت فيما بعد بـ “أسواق السنة”.

واعتبر التلاوي أن ممارسات النظام السوري والميليشيات الطائفية في باب السباع جاءت لكونه أول الأحياء الثائرة في المدينة، وشكل حاضنة قوية للجيش الحر في مواجهة قوات الأسد، واقتصر العمل المسلح في حمص، تلك الآونة، على حماية الأحياء ومظاهراتها المناهضة للنظام.

12631316_927908413931661_7507032850116616027_n

“تغريبة” طالت نصف سكان المدينة

مأساة باب السباع كانت فاتحة “التغريبة الحمصية” كما أسماها ناشطوها، فطال النزوح نصف سكان المدينة على مراحل عدة، أكثرها إيلامًا لمناهضي النظام السوري كان الخروج الأخير لمن تبقى من مقاتلي وعوائل حمص القديمة نحو الريف الشمالي في أيار 2014.

خرج أنور أبو الوليد، وهو ناشط إعلامي من مدينة حمص، برفقة مئتي عائلة وألفي مقاتل نحو الريف الشمالي، بتسوية أممية كانت إيران عرابًا لها، وتحدث عن بدايات النزوح من المدينة، “تهجرت معظم أحياء حمص بالتزامن مع اقتحام قوات النظام لها، باباعمرو وكرم الزيتون وعشيرة وجب الجندلي وباب السباع والمريجة ودير بعلبة والبياضة، جميع سكانها نزحوا عنها بين شباط وتموز 2012، تزامنًا مع خضوعٍ باقي أحياء المعارضة للحصار”.

شهدت الأحياء المحاصرة قبل الخروج الأخير، دمارًا أتى على معظم مبانيها وبناها التحتية، ولم تعد صالحة للسكن، بالإضافة إلى منع معظم سكانها من العودة إليها، وتابع أبو الوليد “دمر النظام 20 حيًا وهجر معظم سكانها، ومايزال حتى يومنا هذا يمنع العودة إليها، في صورة تجسد بوضوح طائفية النظام”.

الخالدية مثال على التدمير والتهجير

يربو عدد سكان الخالدية على 150 ألف نسمة، فيما لو احتسبنا أحياء وادي السايح وكرم شمشم والحميدية ضمن الحي الكبير. كان ذلك قبل خمسة أعوام، قبل أن تتغير الصورة كليًا، وتصبح منطقة الخالدية (الأقدم في حمص) أكوامًا من الدمار، وسط نزوح معظم سكانها نحو دول الجوار والمحافظات القريبة.

وأوضح الناشط الإعلامي ثائر الخالدية، أحد الخارجين من الحصار، والذي شغل سابقًا مدير المكتب الإعلامي في الحي، أن الخالدية أضحت مدمرة بالكامل ولا تصلح للسكن، وقال “البنية التحتية (صرف صحي، كهرباء، مياه) مدمرة ومعطلة، ولا يسمح بدخول وخروج أحد إلى الحي”، باستثناء حي الحميدية ذي الغالبية المسيحية، حيث شهد عودة لبعض سكانه وأعمال ترميم أعقبت توقف المعارك.

90% من أهالي الخالدية هم خارج سوريا اليوم، و10% منهم في مناطق اللجوء داخل وخارج المدينة، كما أفاد رضوان الهندي، الناشط الإعلامي الذي غادر مسقط رأسه، وادي السايح، مكرهًا نحو الوعر، آخر أحياء المعارضة في المدينة، وتابع “وادي السايح والخالدية وجورة الشياح خاوية على عروشها وغير قابلة للسكن، بينما القصور والقرابيص عاد إليها عدد قليل من العوائل، لكنها تعتبر أيضًا خالية”.

عشرات العوائل من أهالي الخالدية نزحوا باتجاه القلمون، ولا سيما مدينتي دير عطية والنبك، وآخرون توزعوا في أحياء المدينة التي لم تشهد نزاعات مسلحة، أما القسم الكبير فتجدهم اليوم في تركيا والأردن ولبنان ومصر، بحسب ناشطي الحي.

في الثالث من تموز 2013، شب حريق مجهول المصدر في مبنى السجل العقاري لمدينة حمص، والذي يقع في مركز المدينة، قرب ساحة الساعة الجديدة. احترق المبنى بشكل تدريجي، طابقًا وراء طابق، ليأتي على جميع محتوياته من أوراق وسجلات، الأمر الذي أثار مخاوف سكان المدينة من “طمس” الأدلة القانونية على أملاك المواطنين فيها.

عودة الأهالي تصطدم بالتوطين

قبل أن نعرّج على قضية باباعمرو، وإعادة الإعمار فيه، لابد من الإشارة إلى أن أحياءً مثل باب السباع وباب الدريب شهدت إعادة توطين لعوائل من الطائفة العلوية في الريف الحمصي، كانوا قد غادروا قراهم وبلداتهم في ظل مواجهات شهدتها، لا سيما في المنطقة الشرقية، حيث تندلع اشتباكات بين قوات الأسد وتنظيم “الدولة”، بحسب ثائر الخالدية.

باب الدريب، أحد الأحياء العشرين التي شهدت نزوحًا في حمص، وروى ثائر ما جرى مع عائلة جده لدى محاولتهم العودة إلى منزلهم في الحي، بعد أن غادروه إثر اشتداد القصف والمعارك، حيث “وجدوا عائلة علوية استقرت في المنزل ورفضت الخروج وإخلاءه تحت أي ظرف. معظم العلويين متطوعون في الجيش والأمن والدفاع الوطني.. أنت كسنّي لا تستطيع أن تقدم شكوى أبدًا”.

حي القصور، ذو الكثافة السكانية سابقًا، ودُمّر قسم كبير منه، قد يشهد عودة عدد من أبنائه، كما ألمح محافظ حمص، طلال البرازي، في اجتماع مع فعاليات المدينة، تشرين الثاني 2015، وقال إن “بعض الأحياء سوف تفتتح تحت حراسة مشددة ودوريات أمنية جوالة لمنع السرقات”.

لكن عددًا من الأحياء مازالت موصدة في وجه سكانها، على غرار أحياء باباعمرو وجورة العرايس، إلى جانب حي باب السباع الذي يقطنه اليوم بعض من ذوي قتلى النظام، ويمنع إخراجهم دون تأمين بديل، الأمر الذي يشكل عائقًا إضافيًا يجعل عودة أهله مستحيلة في الوقت الراهن.

باباعمرو.. إعمار أم استيطان؟

مشروع إعادة الإعمار في باباعمرو، بدا من خلال صور نشرها موقع محافظة حمص، حضاريًا ويوفر رفاهية افتقدها أهالي المحافظة خلال الأعوام الخمسة الماضية، إلا أنه يخفي نوايا “مبيّتة” من النظام السوري لانتزاعه من أهله وتوطين “الغرباء” بدلًا عنهم، بحسب الخبراء الثلاثة الذين تحدثت إليهم عنب بلدي بخصوص هذه المسألة.

واعتبر المهندس عماد غليون، عضو لجنة الموازنة في مجلس الشعب، والمنشق عن النظام عام 2012، أن مشروع باباعمرو هو تنظيم عمراني جديد يسعى لتغيير البنية الديموغرافية في حمص، متهمًا النظام السوري بمحاولة فرض سيطرته على المدينة من خلال تغيير النسيج السكاني فيها، وتابع “هو مشروع قديم سعى إليه المحافظ السابق، محمد إياد غزال، تحت مسمى (حلم حمص)، والذي اصطدم برفض الشارع الحمصي، قبيل اندلاع الثورة”.

لا يوجد أي احتمال لعودة اللاجئين في ظل استمرار بقاء النظام وقواه الأمنية، كما يعتقد غليون، مستندًا بذلك إلى وجود معظمهم في دول الجوار وأوروبا، وتابع “المعارك متوقفة الآن في حمص المدينة، ومع ذلك لا يسمح النظام بإعادة السكان. حمص القديمة خاوية، وغربي حمص من باباعمرو إلى القصير ممنوع عودة السكان إليها”، مؤكدًا أن “النظام يسارع الخطى لإصدار قوانين وتشريعات يهدف من خلالها لتثبيت وضعه مستقبلًا، والحفاظ على مصالح مؤيديه”.

خالد زغيب، المحامي والحقوقي من باباعمرو، وافق رؤية غليون في مشروع إعادة الإعمار، وقال عنه إنه “إجراء باطل، يهدف إلى تغيير المنطقة ديموغرافيًا، حتى وإن عاد إليها سكانها”، ولفت إلى وجود “إشكاليات كبيرة بالنسبة للعقارات السكنية في الحي، فمعظمهما مازالت باسم المالكين القدامى، وهناك تنازع من قبل الورثة عليها.. يعني أن نسبة العقارات المملوكة للأشخاص قليلة جدًا”.

ونوه زغيب إلى أن السجلات العقارية مؤتمتة (مسجلة إلكترونيًا)، فحتى لو احترقت الأوراق، هناك نسخة على الحواسيب، لكن “لا أخفي أن حرقها سيسهل على النظام امتلاك المنازل والأراضي بحجة حرق السجل”.

وتابع “بعد إتمام مشروع الإعمار سيطلب من أهالي باباعمرو العودة إلى الحي، لكن فعليًا ونظرًا لهجرة معظمهم خارج البلد، فلن يعود إلا عدد قليل، وعندها ستصدر قرارات استملاك عبر لوحات إعلانية تتيح لباقي الطوائف التملك بسهولة في الحي”.

مجلس محافظة حمص التابع لوزارة الإدارة المحلية في الحكومة السورية المؤقتة، بدأ قبل نحو شهر بمشروع توثيق السجلات المدنية في المدينة وريفها، معتمدًا على قواعد بيانات وإحصائيات موجودة سابقًا، لكن بطريقة متفرقة وغير منتظمة، كما أوضح ناصر سعد الدين، عضو مجلس المحافظة.

وأشار إلى أن الخطوة بدأت فعلًا في مدينة الرستن (شمال حمص)، حيث يعمل المجلس المحلي على تجميع ما نظم سابقًا من بيانات على شكل مشروع سيطلق قريبًا، وتابع “في الحقيقة عملية التوثيق مازالت في مراحلها الأولى، وبعد الانتهاء منها سنباشر بالأمور القانونية بالتعاون مع الجهات المختصة، لنثبت لكل شخص ملكيته وحقوقه. الهدف النهائي من مشروعنا لكامل محافظة حمص هو تثبيت القيود العقارية مع قيد النفوس”.

سعد الدين حذر أيضًا من مشروع إعمار باباعمرو، واعتبر أنه “طالما أن عنوان سكن صاحب العقار غير معروف أو أنه غادر خارج البلاد، ربما سيستثمر النظام هذا الأمر ويحجز على العقار بحجة  مخالفات أو تراكمات سابقة، ونظرًا لعدم وجود صاحبه وجهل عنوانه، قد يلجؤون إلى الحجز عليه أو بيعه في مزاد علني”.

ورأى عضو مجلس المحافظة أن التغيير الديموغرافي في محافظة حمص ليس وليد الثورة، بل هو مشروع مبيّت منذ سنوات طويلة، وقال “باباعمرو وجوبر وكفرعايا يعتبرها النظام الطائفي امتدادًا لحيز جغرافي تقطنه الطائفة العلوية كحي عكرمة، وربما يلجؤون إلى أحياء أخرى لتفريغها كحي كرم الشامي على اعتبار أنه متاخم لعكرمة”.

أقر مجلس مدينة حمص، آب 2015، المخطط التنظيمي النهائي لمشروع إعادة إعمار أحياء باباعمرو وجوبر والسلطانية. وقال محافظ حمص، طلال البرازي، إن المشروع يضمن حقوق المالكين والشاغلين، سواء بالسكن البديل أو التعويض.

ووفقًا للبرازي فإن المخطط سيقام على مساحة 217 هكتارًا ويضم 465 مقسمًا سكنيًا، إضافةً لمباني الخدمات “المشافي والمدارس والمباني الاستثمارية والتجارية والترفيهية.

12670463_927908407264995_8635988332785172371_n

 حمص تفقد نصف سكانها خلال أربعة أعوام

استنادًا لما أشار إليه الرواة، فإن مسلسل التهجير بدأ فعليًا في الأشهر الأولى لعام 2012، أي قبل نحو أربعة أعوام، وخلال هذه المدة فقدت حمص نصف سكانها بشكل تقريبي، وأفرغت أحياء ذات كثافة سكانية بأكملها، وأبرزها الخالدية، القصور، باباعمرو، باب السباع.

وتعتبر محافظة حمص ثالث أكبر المحافظات السورية بعد حلب ودمشق، وبلغ عدد سكان المحافظة في مطلع عام 2011 نحو مليونين ومئتي ألف نسمة، بحسب إحصائية حصلت عليها عنب بلدي من مصدر في دائرة الإحصاء. عدد سكان المدينة وحدها بلغ نحو مليونًا ومئتي ألف نسمة، قبل اندلاع الثورة ضد نظام الأسد، أيضًا بحسب إحصائيات غير رسمية.

وأعدت عنب بلدي إحصائية لعدد سكان المدينة بشكل تقريبي، مطلع العام 2016 الجاري، بناءً على معلومات حصلت عليها من مجالس أحياء المدينة، وتوضح أن عدد سكان حمص قد تقلص إلى النصف تقريبًا، كما تظهر الإحصائية التوزع الطائفي للسكان في أحيائها.

ووفقًا لنسب الطوائف الحالية، فلا يوجد تغيير ديموغرافي حقيقي في حمص جراء التهجير، فالمسلمون السنة حافظوا على غالبيتهم الساحقة في المدينة الوسطى بـ 75% من المجموع العام، مقابل أبناء الطائفة العلوية الذين اقتصر وجودهم على 15% من السكان، والنسبة الأقل 10% هي لأبناء الطائفة الشيعية (الوافدين من الريف)، إلى جانب المسيحيين من أبناء المدينة.

يسعى المجلس المحلي في حي الوعر، الخارج عن سيطرة النظام، إلى عدم الانجرار وراء هدنة تفضي إلى خروج أبنائه وفق تسويات مشابهة لما حدث في حمص القديمة، وشددت لجنة الحي المفاوضة مع ممثلي النظام على ألا تحمل بنود الهدنة، المتفق عليها قبل نحو شهرين، أي إجراءات من شأنها إخلاء الحي وتفريغه، سعيًا منها للحفاظ على ما تبقّى من هوية حمص التي أدخلتها إيران في حساباتها، كما يرى ناشطوها.

اقرأ أيضًا عن طلال البرازي:

مقالات متعلقة