ترميم حمامات إدلب.. استثمار في الذاكرة والعوائد معنوية
عنب بلدي – لجين مراد
في طقوس مزجت بين مواويل ورقصات الماضي وتفاصيل الحاضر، عاد أهالي إدلب بمختلف أعمارهم للاجتماع في الحمامات الأثرية، محاولين تجاوز الأثر الذي تركته الحرب على البشر والحجر.
بعد أن غيّبها الإهمال الحكومي، وتركتها الحرب عُرضة للاندثار، توجه بعض أهالي إدلب للاستثمار في الحمامات الأثرية، وأعادوا ترميمها وفتح أبوابها، ما منح أهالي المدينة فرصة استعادة شيء من ذكرياتهم، وإبراز جزء من حضارتهم التي تحمل الكثير من حكايات الآباء والأجداد.
ورغم أن عودة الحمامات الأثرية أعادت إحياء طقوس اجتماعية مفقودة، أثار الاستثمار بمواقع أثرية مخاوف عديدة من أن تسهم عمليات الترميم بطمس وتغيير معالم الحمامات وطابعها الأثري، خصوصًا بعد أن كانت هدفًا للقصف الذي دمّر جزءًا كبيرًا منها.
إحياء التراث
تعدّ الحمامات الأثرية جزءًا من الهوية التاريخية لمدينة إدلب، إذ بُنيت قرب الخانات لتستقبل أهالي المدينة وزوارها، وفق ما قاله الباحث والمؤرخ المنحدر من مدينة إدلب فايز قوصرة.
وتشتهر مدينة إدلب بصناعة الصابون، ما أعطى حماماتها الأثرية قيمة إضافية، وجعلها مقصدًا للتجار والمسافرين.
كما ارتبطت الحمامات بالعديد من الطقوس الشعبية، بينها استقبال الحجاج والأعراس ومختلف المناسبات السعيدة، بحسب ما قاله قوصرة.
“عم ننسى حالنا وهمومنا ونتذكر تراثنا القديم”، هذا ما قاله الخمسيني بسام العجمي، مهجر من مدينة معرة النعمان، لعنب بلدي، خلال وجوده في حمام “الروضة” مرتديًا الزي التقليدي.
“نحن المهجرين المقيمين بالخيام، وجدنا في هذه الحمامات فرصة لنجتمع مع أحبتنا، ونعيش طقوس الفرح التي افتقدناها”، تابع بسام متغنيًا بجمال طقوس الحمامات الأثرية التي حافظت على مكانتها في قلوب أهالي إدلب، وفق تعبيره.
ويرى بسام أن ترميم الحمامات مبادرة من الأشخاص الذين يقدّرون تراث إدلب، وفرصة ليرى الجيل الجديد حضارة آبائه وأجداده.
وخلال زيارته إلى حمام “الطاهرية” قال الرجل السبعيني لطفي دخان، لعنب بلدي، إن عودة الحمامات أعادت إحياء التراث والعادات والتقاليد القديمة.
“عندما كنا أطفالًا كان الأهل يصطحبوننا إلى الحمامات بشكل دوري، واليوم نحن نعيد ما فعلوه قبل عشرات السنين، لتكون هذه الحمامات فرصة للقاء الأحبة والمرح”، تابع لطفي.
“تشتهر إدلب بحماماتها الشعبية، ويعود بعضها إلى العهد الروماني، بينما يعود بعضها الآخر إلى مرحلة الحكم العثماني، ويبلغ عددها نحو عشرة حمامات منتشرة في أماكن مختلفة من إدلب وريفها، ومعظمها مهمل وخارج الخدمة من قبل عام 2011”.
ترميم أم تغيير معالم؟
مدير الآثار والمتاحف في مدينة إدلب، أيمن نابو، قال لعنب بلدي، إن الشرط الأول للاستثمار في المواقع الأثرية، حتى وإن كانت ملكية خاصة مثل الحمامات الأثرية، هو الحفاظ على وظيفة المبنى.
وأوضح نابو أنه يجب على المستثمرين إعادة ترميم الحمامات لتخدم الأهالي بما يتطابق مع هدف بنائها قبل مئات السنين.
ورغم محاولة مديرية الآثار الحفاظ على معالم الحمامات من خلال مراقبة عمليات الترميم، جرت بعض التجاوزات من قبل المستثمرين، وفق ما قاله نابو، مبررًا ذلك بالدمار الكبير الذي تعرضت له الحمامات.
واضطرت المديرية لإيقاف عمليات الترميم في حمام “الطاهرية” عدة مرات، بسبب تجاوزات بمعايير ترميم المباني، بحسب ما قاله نابو، معربًا عن مخاوف من تعرّض المباني الأثرية للهدم والاندثار، خصوصًا المباني التي تعد ملكيات خاصة مثل الحمامات، إذ يمكن لأصحابها هدمها بأي وقت.
هذا ما يجعل حمايتها بحاجة إلى رعاية وقوانين خاصة، وفق ما قاله نابو، لافتًا إلى عدم وجود قوانين بهذا الخصوص في الوقت الراهن.
من جهته، قال الباحث والمؤرخ فايز قوصرة، إن معظم الحمامات المرممة لم يطرأ تغيير على جوهرها وتوزيعها الفني المأخوذ من الحمام التركي، كما أن عمليات الترميم لم تستخدم التقنيات الحديثة، وذلك للحفاظ على الحمامات.
بينما تعرّض حمام “الطاهرية” لعمليات تجميل للبناء الخارجي، لترميم الدمار الكبير الذي طاله خلال السنوات الماضية، وفق ما قاله قوصرة، معتبرًا أن هذه العمليات “مقبولة علميًا”، باعتبارها لم تغير واجهة الحمام بالكامل، وحافظت على موقعه وقيمته التراثية.
دوافع الاستثمار
في حين يعتمد الدخل المادي للمواقع الأثرية بالدرجة الأولى على السياحة، يجعل الواقع الأمني والمعيشي في إدلب فرصة الربح من الاستثمار في الأماكن الأثرية محدودة جدًا، ما يطرح تساؤلات حول دوافع الاستثمار في الحمامات التي يتطلب ترميمها تكاليف كبيرة يتحمّلها المستثمرون وحدهم.
“في طريقي إلى عملي كنت أمر يوميًا من أمام الحمام، وينتابني شعور بالأسى تجاه تراثنا المهجور”، بهذه الكلمات برر حيدر غرير توجهه للاستثمار في حمام “الطاهرية” الذي افتُتح مؤخرًا.
وأضاف حيدر لعنب بلدي، “محبتي لآثار هذه المدينة وتراثها، ورغبتي بأن يعرف الجيل الجديد والأجيال القادمة مكانة تراثنا، جعلتني أتغاضى عن قلة الربح المادي من هذا الاستثمار”.
وتعد الحمامات الأثرية “حالة اجتماعية” ومتنفسًا لأهالي المدينة والنازحين الذين يفتقدون الحياة الاجتماعية الطبيعية، ويفتقرون إلى الشعور بالفرح، وفق ما قاله حيدر.
وبلغت تكلفة ترميم حمام “الطاهرية” نحو 50 ألف دولار أمريكي، بسبب الدمار الكبير الذي تعرض له جرّاء القصف، بينما كان حيدر يتوقع ألا تتجاوز تكلفة الترميم 20 ألف دولار.
ولا تختلف دوافع حيدر غرير للاستثمار بحمام “الطاهرية” عن دوافع زياد دهنين الذي استثمر في حمام “الروضة” وأعاد افتتاحه ليحافظ على تراث مدينته، بحسب ما قاله لعنب بلدي.
“وفرت الحمامات الأثرية اليوم فرصة للنازحين الذين يقيمون في بيوت أو خيام لا تتوفر فيها المياه الساخنة للاستحمام بظروف افتقدوها خلال السنوات الماضية”، تابع زياد، معتبرًا الحاجة لوجود الحمامات الأثرية اليوم أكبر من أي وقت سابق.
كما أن افتتاح الحمامات يسهم بإعادة الطقوس الاجتماعية، ويجمع الأقارب والجيران الذين حرمتهم الحرب من لقاءاتهم المعتادة، بحسب ما يراه زياد.
عقبات الاستثمار
في ظل استمرار احتمالية تعرض الآثار في إدلب للتعديات والإتلاف والانتهاكات التي تعرضت لها في وقت سابق، والعناية الخاصة التي يتطلبها ترميم المواقع الأثرية، يواجه المستثمرون في الحمامات العديد من العقبات.
وتعد المخاوف من تعرض هذه الحمامات للقصف مجددًا أحد أبرز التحديات بالنسبة للمستثمرين، وفق ما قاله المستثمران اللذان تحدثت إليهما عنب بلدي.
وقال حيدر غرير، إنه واجه مشكلة بالحصول على موافقة من قبل مديرية الآثار في إدلب، بسبب مخاوف المديرية من تغيير معالم الحمامات خلال عمليات الترميم.
وأضاف حيدر أن العثور على اليد العاملة القادرة على ترميم مكان أثري لم يكن أمرًا سهلًا، إذ يتطلّب ترميمها دون تغيير معالمها خبرات معيّنة.
ويرى المستثمر بحمام “الروضة” زياد دهنين، أن العقبة الكبرى بالنسبة له كانت الحفاظ على قيمة الحمام وهيكله الذي صمد لمئات السنين، خصوصًا بعد أن فقد أجزاء كبيرة منه جراء القصف.
القانون وحماية الحمامات الأثرية
المحامي السوري حسام سرحان قال لعنب بلدي، إن الحمامات الأثرية تُسجَّل لمصلحة مديرية الآثار، وهي أملاك دولة، بحسب القانون السوري، وغالبًا ما تكون مسجلة ضمن قائمة المواقع الأثرية المتعلقة بالتراث العالمي، وهذا ما يمنحها الحماية، ويوفر الدعم المالي اللازم للحفاظ عليها وإعادة ترميمها.
وأضاف سرحان أن الحمامات الأثرية في إدلب لم تحظَ باهتمام من قبل الحكومة السورية، وهناك ما يقع ضمن الأملاك الخاصة.
وفي حال وجود ما يثبت ملكية الحمامات الخاصة، يمكن للمالكين استثمارها بالطريقة التي يرونها مناسبة، وإجراء التعديلات والتغييرات وفق رؤيتهم، بحسب ما قاله المحامي.
بينما يعتبر إجراء أي تغيير أو تعديل على الآثار المسجلة على أنها أملاك دولة مخالفًا للقانون، وتترتب عليه عقوبة بالسجن قد تصل إلى 15 عامًا، وفق ما قاله سرحان.
تنص المادة “4” من قانون الآثار على أن جميع الآثار الثابتة والمنقولة والمناطق الأثرية الموجودة في الجمهورية العربية السورية من أملاك الدولة العامة، ويُستثنى من ذلك:
1. الآثار الثابتة التي يثبت أصحابها ملكيتهم لها أو تصرفهم بها بوثائق رسمية.
2. الآثار المنقولة التي سُجلت من قبل مالكيها لدى السلطات الأثرية.
3. الآثار المنقولة التي لا ترى السلطات الأثرية ضرورة لتسجيلها.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :