فاتورة الاستيراد السورية تتقلص.. والتجار يجاهرون بالتهريب
عنب بلدي – جنى العيسى
في اجتماع رسمي مع “الإدارة العامة للجمارك” في سوريا، جرى مطلع تشرين الأول الحالي، تقدم عدد من التجار العاملين في العاصمة دمشق بعدة مطالب تتعلق بتسهيل استيراد المواد، منها العدالة في سياسة ترشيد المستوردات، والعدالة في مكافحة التهريب، محذرين بلهجة بدت أقرب للتهديد، من أن التهريب سيظل مستمرًا ما دام منع الاستيراد مستمرًا أيضًا.
وخلال اللقاء، تحدث التجار عن الإشكاليات والمعوقات التي تواجههم في قضية الاستيراد، أبرزها القيود المفروضة على الاستيراد، والرسوم الجمركية والضرائب المرتفعة التي أثّرت على المنافسة في الأسواق الخارجية، بالإضافة إلى البطء في إنجاز المعاملات وعمليات التحكيم الجمركي.
الرد من قبل “الجمارك” جاء على كل إشكالية على حدة، لكل منها تبريرها، في حالة أشبه بـ”عدم الرغبة” بتغيير ما يجري أو تحسينه، إذ اختصر المدير العام لـ”الجمارك”، ماجد عمران، “اعترافه على الملأ بعدم قدرة الجمارك على ضبط الحدود”، مبررًا ذلك بـ”الظروف الأمنية”.
وحول قيم الرسوم الجمركية، قال عمران، إن الرسوم على البضائع “ليست عالية”، لكن مع الضرائب وغيرها تصبح “مرتفعة”.
انخفاض الاستيراد بنسبة 77%
منذ عام 2013، تعمل وزارة الاقتصاد في حكومة النظام السوري على سياسة “ترشيد الاستيراد” التي تطبقها على السلع “الكمالية” والسلع “غير المنتجة محليًا”، وذلك بهدف تحقيق استقرار في سعر صرف الدولار أمام الليرة السورية.
وفي شباط 2020، بدأت الوزارة بالعمل على برنامج “إحلال بدائل المستوردات” الذي يقوم على جرد المستوردات ذات الأرقام الكبيرة كل فترة، وتحديد ما يمكن تصنيعه محليًا، والاستغناء عن الاستيراد، بهدف “تخفيف فاتورة استيراد السلع التي يمكن إنتاجها محليًا، وتحقيق الاكتفاء الذاتي ببعض المواد، وذلك لتوفير القطع الأجنبي”.
وفي أكثر من مناسبة، كرر مسؤولون في وزارة الاقتصاد نفيهم احتكار استيراد المواد الأساسية من قبل بعض التجار، وهو ما لا يحدث بحسب الاجتماع الذي جمع “الجمارك” بتجار دمشق مطلع الشهر الحالي.
ونهاية حزيران الماضي، صرح وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية، محمد سامر الخليل، أن الوزارة تمكنت من خلال سياسة “ترشيد المستوردات” من خفض فاتورة الاستيراد منذ عام 2011 ولغاية 2021 بنسبة 77%، بينما انخفضت قيمة الفاتورة منذ مطلع العام الحالي وحتى نهاية أيار الماضي بنسبة 14%، قياسًا بالفترة نفسها من العام الماضي.
انخفاض قيمة فاتورة الاستيراد انعكس سلبًا على التجار من جهة، الذين باتوا يجاهرون بإدخال منتجاتهم وموادهم الأولية عن طريق “التهريب”، مطالبين بالحلول لذلك، وعلى المواطنين من جهة أخرى، وسط ارتفاع أسعار معظم المواد الاستهلاكية الأساسية، نتيجة قلة العرض وارتفاع الطلب عليها.
سياسة “غير مُجدية” في سوريا
الخبيرة بالشؤون الاقتصادية السياسية في سوريا الدكتورة سلام سعيد، قالت لعنب بلدي، إن منع الاستيراد هو سياسة تجارية تُستخدم في كثير من الدول لحماية الصناعة المحلية، لكن في سوريا تُطبق على الغذائيات والمعدات الكهربائية والمواد الاستهلاكية التي لا تُنتج بالضرورة محليًا، ما يترك آثارًا سلبية عديدة.
وأضافت سعيد أن سوريا ليست بحالة اقتصاد طبيعي، وإنما بحالة اقتصاد خارج من الحرب، ما يجعل آلية وصول المواد الأولية وإنتاج المواد أكثر صعوبة، وبأسعار غير منافسة.
وترى سعيد أنه يجب على الدولة هنا في حال كانت تريد أن تكون هذه السياسة هادفة، دعم الاقتصاد المحلي، والصناعيين المحليين، لمساعدتهم على الإنتاج بأسعار منافسة، عبر خفض أو إزالة الرسوم الجمركية على المواد الأولية أو النهائية المستوردة، وهو ما اشتكى التجار منه، إذ طالبوا خلال الاجتماع الأخير بإعادة النظر بالرسوم الجمركية المرتفعة.
وأوضحت الدكتورة في الاقتصاد أن مسألة منع الاستيراد في السياسة التجارية يرافقها عادة أسلوبان للدعم، إما رفع ضريبة الجمارك على أسعار السلع، لتصل إلى الأسواق المحلية وتستطيع المنافسة فيها لكونها ستصبح أكثر تكلفة، وإما بمنع استيراد السلع نهائيًا.
وأشارت سعيد إلى أنه في عملية منع الاستيراد بشكل نهائي لا تستفيد الدولة ماديًا، لعدم وجود مورد ضريبي، بينما في عملية رفع الرسوم الجمركية، تستفيد الدولة من الموارد الضريبية المرافقة من جهة، ومن جهة توفر السلع أو المواد الأولية.
تعزز التهريب
رغم تأكيد وزارة الاقتصاد المتكرر، بأن قراراتها لا تهدف لدعم احتكار تجار على حساب آخرين، اشتكى تجار دمشق من عدم وجود عدالة في مكافحة التهريب، إذ توجد أماكن محددة داخل سوريا يُسمح بها بيع المواد المهربة، وأخرى غير مسموح فيها بذلك أبدًا.
وأكد التجار أن ما تصنّفه الوزارة كسلع كمالية موجود في كل بيت اليوم ومطلوب، معتبرين أن سياسة “ترشيد الاستيراد” جمّدت رأس المال، بل هرّبته إلى خارج سوريا.
الدكتورة في الاقتصاد السياسي سلام سعيد، قالت إن القوانين الاقتصادية حتى قبل عام 2011 لم تكن تُتخذ بمنطق اقتصادي، وإنما غالبًا ما تكون مخططة ومصممة لإطلاق يد المراقبين وموظفي الدولة لابتزاز التجار.
وأكدت سعيد وجود مجموعة من شبكات التهريب المستفيدة والتي تملك علاقات جيدة مع موظفي الجمارك، فتمرر البضاعة التي تريدها، وتدفع تعرفة غير رسمية (رشوة) للموظفين لقاء السماح بمرور البضائع المهربة.
الباحث والمحاضر المختص بالشؤون الاقتصادية خالد تركاوي، قال لعنب بلدي، إن مسألة “ترشيد المستوردات” التي يعمل بها النظام، لا تتعلق بترشيد القطع الأجنبي أو تشجيع الإنتاج المحلي أو زيادة الصادرات المحلية أو ما إلى ذلك، إنما تتعلق بشكل رئيس بحصر هذه المستوردات بشخصيات مقربة من النظام السوري، من أجل تمويل العمليات الأمنية والعسكرية التي تخدمه.
وأضاف تركاوي أن التهريب موجود قديمًا في معظم المعابر الحدودية السورية، لكنه كان قبل عام 2011 يقتصر على مواد وكميات بسيطة، وعمليات التهريب هذه لا يمكن ضبطها.
ولم يعد اليوم وجود لما أسماه “صغار المهربين” القدامى، إذ تقدّر قيمة المواد المهربة اليوم بمئات ملايين الدولارات، وهذه القيمة في حال استثنينا تهريب المخدرات والأسلحة أيضًا، بحسب تركاوي.
يرى الباحث أن رفع الرسوم الجمركية على استيراد المواد الأولية، وغيرها من القرارات التي تتخذها الحكومة، لا يمكن قراءتها إلا في إطار واحد، وهو زيادة الموارد التي يمكن تحصيلها من المواطنين، سواء كانوا تجارًا أم مستهلكين.
وأوضح تركاوي أن الهدف من وراء هذه القرارات دائمًا ما يكون تحصيل أكبر قدر ممكن من الموارد، دون أي اهتمام بأثر القرار على التجارة أو الشعب، مع الأخذ بالحسبان تأثيره على الجيش والأمن، وهل سيصب في مصلحة تمويل العمليات العسكرية أم لا، بحسب تعبيره.
استمرار التهريب يخدم النظام
خلال الاجتماع الأخير، قال مدير عام “الجمارك”، ماجد عمران، إن الكثير من الحدود اليوم غير مضبوطة بالكامل بسبب “الظروف الأمنية”، مضيفًا أن أكثر المواد التي تدخل تهريبًا هي الأدوات الكهربائية والمواد الغذائية ومواد التجميل وغيرها.
الدكتورة سلام سعيد، اعتبرت أن الحكومة في دمشق تتعامل مع ضبط “الفوضى” بسياسة الكيل بمكيالين، لأنها لأسباب سياسية قادرة على ضبط كل شيء، في حين تعلن أنها غير قادرة على ضبط الحدود.
وأرجعت سعيد ذلك إلى سبب وحيد يتجلى بعدم رغبة الحكومة بضبط المعابر، وابتزاز التجار لإعطاء موظفي الجمارك المجال لتحصيل دخل إضافي فوق دخلهم الشهري الذي لا يكفيهم أساسًا، وهو أسلوب قديم تتبعه الحكومة.
الباحث الاقتصادي خالد تركاوي، أكد أن النظام يستفيد جدًا من استمرار عمليات التهريب، إذ ثبت سابقًا ضلوع جهات تابعة بشكل مباشر له بعمليات التهريب، أبرزها “الفرقة الرابعة” التابعة لقوات النظام.
الدفع نحو “الأسوأ”
أوضحت الخبيرة بالشؤون الاقتصادية السياسية في سوريا الدكتورة سلام سعيد، أن قضية التهريب واستيراد المواد النهائية تعتبر “مؤشرًا خطيرًا” على الاقتصاد السوري، لدلالتها على أن الصناعة المحلية تتعرض للخنق، مضيفة أنه تأكيدًا على ذلك، وفي ظل هذه الظروف الإنتاجية الصعبة، اتجه كثير من الصناعيين والمنتجين الذين كانوا يدعمون قطاع الإنتاج في سوريا إلى التجارة، لكونها أصبحت أقل تكلفة من الإنتاج، وهذا في حال عدم تمكّنهم من الهجرة والسفر أساسًا كحال كثير من الصناعيين.
وبحسب سعيد، فإن الاقتصاد السوري يتجه حاليًا من اقتصاد منتج إلى اقتصاد ريعي أكثر، وتجاري بمعنى غير مفيد، ما يشير إلى أنه في المستقبل ستكون سوريا بلدًا مستهلكًا، دون وجود أي موارد مالية للاستهلاك لديها أصلًا.
وأضافت الخبيرة أنه لإعادة توطين هذه الصناعات التي هاجرت أو عزفت عن الإنتاج، سيتطلب ذلك من الحكومة القيام بجهود أكبر لدعم الصناعة المحلية، عن طريق إلغاء الرسوم الجمركية لمعظم المواد الأولية للمنتجات الأساسية، ومنع استيراد المواد النهائية، بشرط البدء بالدعم أولًا.
وبحسب دراسة نشرها برنامج “مسارات الشرق الأوسط”، في نيسان الماضي، للباحثين جوزيف ضاهر، ونزار أحمد، وسلوان طه، حول التهريب بين سوريا والدول المجاورة لها، فإن السياسات الأكثر انتشارًا لمكافحة تصاعد أنشطة تهريب البضائع المشروعة وغير المشروعة إلى سوريا من الدول المجاورة وبالعكس، كانت تتمثّل بالدعوة إلى مزيد من الإجراءات الأمنية وتعزيز أمن الحدود، وهذا في الأساس وصفة للفشل، ما لم يقترن بسياسات تعزز التنمية الاجتماعية والاقتصادية على المستوى الوطني.
كما يجب للحد من هذه العمليات، بحسب الدراسة، توفير أشكال بديلة من العمالة وتحسين الظروف المعيشية للسكان المحليين في المناطق الفقيرة والمهملة، كما يجب التركيز على تشجيع الاستثمار في القطاعات الإنتاجية للاقتصاد في سوريا والدول المجاورة، من أجل تقليل احتياجات السكان وتقليل الاعتماد على السلع المهربة والمصدّرة.
وهذا سيخلق فرص عمل للمجتمعات المحلية، أو على الأقل يردع قطاعات واسعة منها عن المشاركة بشكل مباشر وغير مباشر في أنشطة التهريب.
واعتبرت الدراسة أن الأغلبية العظمى من الأشخاص الضالعين في أنشطة التهريب، أو في شراء البضائع والسلع المهربة، يفعلون ذلك بدافع الضرورة، ولا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، مع عدم وجود خيارات أخرى متاحة، ومع ذلك، فإن مثل هذه الحلول والتحسينات المتوقعة ممكنة فقط في سياق تدخل فيه البلاد نحو شكل من أشكال الاستقرار السياسي والاقتصادي، وهو أمر بعيد عن الواقع في سوريا، وفقًا للدراسة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :