الشاعر فرج بيرقدار: لا توجد لغة تكافئ العواءات المقلوبة لضربات الكهرباء في سجون الأسد

camera iconالشاعر السوري والسجين السياسي السابق فرج بيرقدار (عنب بلدي)

tag icon ع ع ع

حوار: أسامة آغي

“لا متخيل في هذه العذابات التي تتفوق على المحتمل والممكن البشري، هذه العذابات، وهي مفردات يستخدمها الجلاد لإغراق الواقع بكذب يريده أن يكون الحقيقة، حقيقته الوهمية، بأنه مطلق لا يزول، وأن هؤلاء البشر المحتجين مجرد رعاع، يستحقون كل عذاب”.

وسط هذه اللغة المفخخة بالألم والوجع، التقت عنب بلدي بالشاعر فرج بيرقدار، أحد السجناء السياسيين في سوريا لسنوات طوال، للحديث عن أدب السجون وتجربة الاعتقال الطويلة وأثرها على المعتقلين والمثقفين.

الواقع تخييل فادح

يعرف أدب السجون كواحد من أهم الآداب الإنسانية التي نتجت عن تجارب الاعتقال في البلاد التي تعاني من الديكتاتورية ومنع العمل السياسي.

وخرجت عشرات الروايات التي كتبها معتقلون سياسيون سوريون، وثّقوا من خلالها قصصًا إنسانية حول تجربتهم والأشخاص الذين كانوا في الزنازين، وأساليب الاعتقال والتعذيب، والآلام التي عانوا منها لسنوات طويلة.

“حين يكون الواقع ليس واقعًا، بل حين يبلغ الواقع ما يصعب أن يبلغه الخيال، فإن إعادة إنتاج الواقع إبداعيًا وأدبيًا، هي عملية تخييل فادح، إلا أنه ذو مصداقية”، هذا ما قاله الشاعر السوري فرج بيرقدار، الذي قضى في معتقلات “تدمر” و”صيدنايا” أكثر من 14 عامًا، لعنب بلدي، حول أدب السجون وتجربته في هذا المجال.

وأوضح بيرقدار العلاقة بين خيال المؤلف والواقع الذي عاشه، “قد تستدعي بعض الوقائع أحيانًا نوعًا من الرتوش والمبالغات والبهارات اللغوية، لتساعد في الوصول إلى كبد الحقيقة”، معتبرًا أن الأخيرة تتسامى حتى على الخيال أو التخييل.

ويرى بيرقدار أن ما يجري في المعتقلات تعجز اللغة عن مقاربته، “في مثل هذه الحال، تصبح اللغة هي المرتجى، والمعوّل عليه، وغالبًا ما تسقط اللغة في مثل هذه الامتحانات”، إذ ما من لغة قادرة على أن تكون مكافئة لدرجة الألم الناجم عن عمليات التعذيب، “كالشبح والفسخ وبساط الريح والكرسي النازي”، ولا حتى مكافئة لـ”العواءات المقلوبة الناجمة عن ضربات الكهرباء”.

ويتعرض المعتقلون السوريون في سجون النظام السوري إلى أساليب متنوعة من التعذيب والضرب والإهانات الجسدية والنفسية.

وسبق لـ”الشبكة السورية لحقوق الإنسان” أن وثقت، في عام 2019، 72 أسلوبًا للتعذيب في معتقلات النظام السوري، منها 39 أسلوبًا يتعلق بالتعذيب الجسدي، مشيرة إلى أن ما يقارب 1.2 مليون سوري تقريبًا تعرضوا لتجربة الاعتقال.

ووفقًا للشبكة نفسها، اعتقلت قوات النظام السوري منذ آذار 2011 (عام انطلاق المظاهرات التي نادت برحيل رئيس النظام، بشار الأسد) 130 ألفًا و175 شخصًا.

المعتقلات هي اللامعقول والبهيمية

أصدر فرج بيرقدار، في عام 2011، كتابه “خيانات اللغة والصمت” عن دار “الجديد”، الذي وثّق من خلاله تجربة اعتقاله لـ14 عامًا.

وقال بيرقدار لعنب بلدي حول ما إذا كانت الحياة في المعتقل وما يجري فيه، يمكن أن يطلق عليها تسمية حياة اللامعقول، جسديًا وروحيًا وعقليًا، إن الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو تحدث في كتابه “المراقبة والمعاقبة” عن السجون في أوروبا.

“لو أتيح له أن يرصد بعض سجون الأسد، لتحدث عن المراقبة والمعاقبة والتشفي والانتقام المتعدد الدوافع سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، وتحدث عن العبث واللامعقول والبهيمية الحكيمة لآل الأسد”، بحسب رأيه.

ويعتقد الشاعر فرج بيرقدار الذي أصدر عددًا من المجموعات الشعرية (هرّب بعضها على ورق السجائر من زنزانته)، أن “المراقبة والمعاقبة تحصيل حاصل في جميع السجون، ولكن للسجون في أوروبا المعاصرة وظائف إضافية، تتعلق بتأهيل السجين لمرحلة ما بعد الإفراج عنه”، معتبرًا أن في مثل هذه الحالة يوفر السجين مبلغًا من المال، مما جناه من أعماله وأشغاله خلال فترة السجن، أو كأن يخرج وهو يتقن مهنة تعلمها. 

ويرى بيرقدار أن هذه الأمور موجودة حتى في السجون المدنية أو القضائية في البلدان الاستبدادية كسوريا، وإن بصورة شكلية وممسوخة، لكنه يستبعد أن يكون فوكو “قد عرف الفوارق بين السجون والمعتقلات”.

ويعد ميشيل فوكو واحدًا من أشهر الفلاسفة الفرنسيين في القرن الـ20، وله عشرات المؤلفات التي تحدثت عن الإنسان والحضارة الغربية، وتولى عدة مناصب ثقافية خارج فرنسا، وأسس فريق “الإخبار بحال السجون”.

وأضاف بيرقدار، “في سوريا مثلًا، المعتقلون هم سجناء من دون أحكام قضائية، أو بأحكام لا يعرفون متى تنتهي، والأخطر أن الجهات التي اعتقلتهم لا تحيلهم إلى القضاء العادي، بل إلى محاكم استثنائية، سواء كانت عسكرية أو متخصصة بالإرهاب أو بأمن الدولة”.

وهو الأمر نفسه الذي عانى منه بيرقدار، الذي اعتقل بين عامي 1987 و2001.

ووصف بيرقدار لعنب بلدي تجربته في المعتقل، بأن السجن يملك قراءات ووجوهًا متعددة، “أستطيع أن أضيف الآن، أن السجن، أعني المعتقل، هو ألا تعرف متى سيفرج عنك، حتى لو انتهى حكمك في حال كنت محكومًا من إحدى المحاكم الاستثنائية، وهو ألا تكون لك أي حقوق مما نصّت عليه القرارات والمواثيق الدولية، بما فيها الموقعة من قبل النظام”.

وتابع بيرقدار، الذي يقيم حاليًا في السويد، والحائز على خمس جوائز عالمية، “في المعتقل تخضع لتعذيب هدفه التصفية الجسدية، ثم كتابة رقمه على لصاقة، توضع على جبينه مع صورة توثيقية، أو أرشيفية، كتلك الصور الـ55 ألفًا التي هرّبها معه قيصر عندما قرر انشقاقه عن الأسد”.

وأشار بيرقدار، المولود في مدينة حمص وسط سوريا عام 1951، إلى أن السجون والمعتقلات في نظام الأسد هي أمور معقدة أصلًا، وظهر ذلك من خلال زيارته أحد السجون في السويد، حيث التقى بالسجناء والإدارة ولجنة رعاية السجناء، واستطاع الكتابة عن السجن “بمنتهى البساطة والوضوح”، بحسب وصفه.

تحريض العقل والروح

أما ما يتعلق بتفاصيل الحياة المعيشية اليومية في السجن والمعتقل، باعتبارها حياة تغرق في الأشياء الصغيرة، يقول الشاعر فرج بيرقدار، والذي أصدر عدة مجموعات شعرية “نعم، عالم المعتقلات والسجون هو في أحد وجوهه، عالم التفاصيل الصغيرة والتفاهة والثرثرة والعبث واللامعنى”، ويشبهه بعالم نساء الأوساط الشرقية، المحرومات من أهم حقوقهن، فلا يتاح لهنّ سوى الثرثرة والقيل والقال والنميمة، وما شابه”.

وبرأي بيرقدار، “حتى تخرج المرأة من هذه الربقة، تحتاج إلى كثير من الإرادة والوعي والتحدي والتضحية”.

وأضاف، “وهذا ما يحتاجه السجين أيضًا، حتى لا يبقى في ربقة الأشياء الصغيرة والتافهة والمكررة” معتبرًا أن المعتقلين السياسيين مهيئون في الأصل للخروج على السائد، فإنهم بصورة عامة قادرون على النجاة”.

وميّز بيرقدار بين مرحلتين من الاعتقال، مرحلة ما قبل الثورة السورية في آذار عام 2011، “حيث كان للتعذيب سقف، وللعدد المسموح بموتهم تحت التعذيب سقف”. 

أما مرحلة الثورة، أكمل بيرقدار، “فلم تعد السجون سجونًا ولا المعتقلات معتقلات، لقد قرر الأسد أن يحرق البلد تحت نظر العالم وسمعه، وفي كثير من الحالات بمساعدة مباشرة من بعض هذا العالم، إن لم نقل كله”.

لم أكن حراً لأفكّر

وحول أثر المعتقل على المعتقلين في تغيير مفاهيمهم وقناعاتهم السياسية أو الفكرية، يقول الشاعر فرج بيرقدار وهو من الناشطين السابقين من أجل الحريات في سوريا، “لكي تغيّر بصورة منطقية وعقلانية ينبغي أولاً أن تفكّر، ولكي تفكّر ينبغي أن تكون حرًا، وأنا لم أكن حرًا لأفكر ثم أغير”.

“قبل اعتقالي كنت أعيد النظر بفهمي لبعض الأفكار والمقولات والتعريفات، من مثل الوطنية والديمقراطية والمسألة القومية”، ولكنه كما يقول، “ضربت صفحًا عن مثل هذه الأمور، التي يمكن أن تتأثر إعادة النظر فيها تحت وطأة الاعتقال، فتذهب في أحد اتجاهين، أعني المزيد من التشدد والراديكالية، ورد الفعل، أو المزيد من المرونة في القراءات والمواقف السياسية”.

ويعترف بيرقدار أنه تخطّى في إعادة النظر الخيارات السياسية، التي يمكن أن تتأثر بضغوط الواقع المباشر، إلى خيارات يمكن التعاطي معها في كلّ زمان ومكان، كالثقافة والتراث عمومًا، والأدب والشعر على وجه الخصوص”.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة