بين السهل والجبل.. علاقات لا يفسدها الاقتتال
درعا- حليم محمد/ السويداء- ريان الأطرش
“بوجه ضاحك ومستبشر قال لي هلا فيك خيي، السويداء بيتك ومطرحك”، كانت تلك الكلمات كفيلة بتهدئة الشاب الدرعاوي الذي منعته الثلوج من العودة إلى دياره خلال ليلة شتوية.
بدا محمد المصطفى غريبًا، نهاية السبعينيات، وهو يقف مرتجفًا في شوارع السويداء ويبدو على وجهه القلق، كان قد أتى من محافظته المجاورة للتسجيل في الثانوية، ولم يحسب حساب الثلوج المفاجئة، ليقترب منه “أبو فادي” ويسأله عما حصل معه.
استقبل “أبو فادي” محمد في بيته لأربعة أيام، قدم له خلالها “مناسف” أهل السويداء، التي “دُهش” بها محمد لأنها كانت مشابهة لـ”المناسف” الدرعاوية، كما يستذكر الرجل الستيني، الذي قال لعنب بلدي ضاحكًا إنه لم يكن يعلم كثيرًا عن جيرانه في الجبل خلال صباه.
ابتسامة الذكريات اُستبدلت بها نظرة الغضب إلى الواقع الحالي من الاقتتال والاتهامات والخطف والسلب، الذي منع محمد من زيارة أصدقائه كما اعتاد، “منذ متى ونحن نقتل بعضنا بعضًا”، قال الشيخ الحوراني بحسرة لعنب بلدي.
علاقات بانتظار التهدئة
لحق جايد بوالده وهو يراقب الأحمال المتمايلة على ظهر الحمار الذي يجره، والذي علّق عليه من جهة سلة البيض ومن أخرى علّق الجبن، والمسير لا يستغرق أكثر من نصف ساعة إلى بيت التاجر الدرعاوي، إذ عادا من عنده بعد زيارة أصحاب والده محملين باحتياجات الأسرة من أسواق السهل الحوراني.
“برأيي الشخصي، وبناء على قصة رحلتي مع والدي، فمهما حدث بين المحافظتين من مشاكل ونزاعات لن يصح إلا الصحيح في نهاية الأمر وهو التهدئة، لأن ذكريات الحياة المشتركة لا تزال في ذاكرتنا وأعماقنا”، قال الشاب الثلاثيني جايد عزام لعنب بلدي.
توقفت التجارة بين سكان السهل والجبل إثر العمليات العسكرية سابقًا، ثم حوادث الخطف لاحقًا، بعد استعادة النظام سيطرته على درعا منتصف عام 2018.
يذكر محمد المصطفى زمنًا ليس ببعيد حين كان المشترون من السويداء يقصدون أسواق “الهال” في مدينة درعا وطفس ونوى لشراء الخضار والفاكهة، وكان أهل درعا يقصدون الجبل لشراء التفاح والعنب والدبس، مشيرًا إلى أن الطرفين الآن يتجهان إلى دمشق خوفًا من زيارة بعضهم بعضًا.
رغم المخاوف الأمنية فإن القتال الحاصل بين المحافظتين “ليس اقتتالًا بين أهالي جبل وسهل حوران”، حسب رأي عضو الأمانة العامة في “هيئة العمل الوطني في السويداء” مؤيد فياض، “ما حصل هو نتاج التدخلات العسكرية لدول خارجية تحرك تشكيلاتها العسكرية كيفما تريد”.
سنوات سبقت شهور الاقتتال
لم تفصل الحدود الإدارية بين المحافظتين أهالي المنطقة عن بعضهم، عاداتهم واحدة، وتجارتهم متصلة، وعلاقاتهم متشابكة، إلا أن السنوات الأخيرة جعلت الحدود أعمق مما كانت عليه، حين فقد الناس الأمان عند اقترابهم منها وتعرضهم للخطف من طرف أو آخر.
طوال السنوات الماضية وقفت الأجهزة الأمنية في السويداء صامتة عن ممارسات عصابات الخطف التي ازداد نشاطها في المحافظة، ولم تحرك ساكنًا.
لم تخضع السويداء لسيطرة النظام كما أراد، محافظة على قوات أهلية سعت لحماية أهلها من أطراف النزاع وإبعادها عنه، لكن انتشار السلاح جعل من تشكل العصابات أمرًا مألوفًا.
خلال حالات خطف متعددة كشفت هويات الخاطفين الذين مارسوا نشاطهم داخل المحافظة وخارجها، وكان لدرعا النصيب الأكبر من عملهم، خضع بعضهم للوساطة الأهلية للإفراج عن المخطوفين وآخرون رفضوا، لكن توجهاتهم كانت “واضحة”.
قال “أبو سامر”، أحد الوسطاء للإفراج عن مختطفين في شهبا، إن أفراد عصابات الخطف يحملون هويات أمنية، والسلاح الذي امتلكوه كان بتسليم من الفرع الأمني الذي قاسمهم أرباح الخطف والسرقات.
وحتى حين قاتلت تلك العصابات قوات الأمن، كانت لذلك أسباب مبررة، ففي ريف السويداء الغربي وفي بلدة عريقة اصطدمت العصابات مع الأمن “بسبب الخلاف على اقتسام الأرباح”، حسبما قال مصدر مقرب من أفرادها لعنب بلدي.
وأشار المصدر، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، إن الخلاف مع قوات الأمن قاد إلى تصفية بعض عناصر العصابة ومحاصرة البلدة حتى تصالح الطرفان في مبنى قيادة حزب “البعث” في السويداء، وجُددت الرخصة للعصابة لمتابعة الخطف والقتل.
قوبلت حالات الخطف بين درعا والسويداء، التي طالبت بمبالغ باهظة، بحالات خطف مضادة، قبل أن تتحول لاقتتال صريح بين الطرفين في بلدة القريا، نهاية آذار الماضي، انتهى بسيطرة قوات “اللواء الثامن” التابع لـ”الفيلق الخامس” المدعوم روسيًا على مناطق منها، تحولت إلى مسرح لمعارك متتابعة آخرها كان نهاية أيلول الماضي.
صراع الحلفاء في الجنوب
اندلاع القتال الأخير، الذي أوقع 16 قتيلًا وأكثر من 65 جريحًا في السويداء على يد قوات “الدفاع الوطني”، دفع قائد فصيل “اللواء الثامن”، أحمد العودة، للتحذير من “أيادٍ سوداء” دخلت لتعكر صفو الجارتين، مشيرًا إلى إيران التي تدعم الميليشيات الرديفة للنظام السوري.
برأي الكاتب السوري المنحدر من درعا غسان المفلح، فإن ما يجري بين السويداء وجارتها هو محاولات لإدامة تشويه الوضع السوري “أمريكيًا ودوليًا، نتيجة لرؤية أمريكا لإدارة الأزمة في سوريا من جهة، ولتشابكات الملف السوري مع ملفات أخرى مثل الملف اللبناني والإيراني وغيرهما”.
وقال المفلح لعنب بلدي، إن تلك الاقتتالات تهدف إلى ترك المنطقة تحت سيطرة عسكرية مباشرة من قبل القوى الدولية عبر ميليشيات محلية، أي من قبل روسيا عبر “الفيلق الخامس”، وإيران عبر “الدفاع الوطني”، لتبقى المنطقة في حالة “اللا حرب واللا سلم تمامًا كجبهة الجولان”.
في حين يرى القيادي السابق في “الجيش الحر” أدهم الكراد أن اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في سوريا هو دافع النظام للترويج إلى “تشتت” المعارضة وإغراق المنطقة في القتال.
نعلم لكن ما باليد حيلة
لم ينخدع أهالي السهل والجبل بما يجري من اقتتال، حسب رأي الكاتب غسان المفلح، إذ إن الميليشيات المحلية معروفة الارتباط والأهداف، لكن الناس “لا حول لهم ولا قوة”.
إيقاف المناوشات بين الطرفين ليس قرارًا من أهالي المنطقة، فما دامت إيران و”حزب الله” وروسيا والنظام السوري يريدون استمرارها فهي باقية، “بالمقابل هذا لا يعفي أحمد العودة من المسؤولية في احتلاله مواقع مع أراضي القريا التي يجب أن تعاد لأصحابها فورًا”، كما قال المفلح، مشيرًا إلى رمزية البلدة التي كانت مسقط رأس سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية الكبرى عام 1925، ومضافته.
وبرأي الكراد فإن الظروف التي مرت على المنطقة الجنوبية خلال الأعوام التسعة الماضية كانت “أصعب وأقسى” من هذه الظروف، إلا أن “مفاتيح الخير” من الطرفين توسطوا مرارًا لإطفاء نار الفتنة كلما اشتعلت، وأشار إلى أن جهودًا “جبارة” تجري اليوم أيضًا على الأرض للمصالحة بين الطرفين.
ينتظر محمد المصطفى مصالحة درعا والسويداء، وهو يقلّب في صوره القديمة بالأبيض والأسود، مستذكرًا الماضي حين كان شابًا يقضي أيامه في جبل العرب، لم يكن “الشماغ” و”الشروال” الدرعاوي مصاحبًا له على الدوام كما هو اليوم، لكن محبته لجيرانه بقيت كما هي، وهو بانتظار عودة السلم ليعود لزيارتهم وتناول “منسف” أهل السويداء مع أصدقائه من جديد.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :