“محاكم ثورية” تكبح حرية التعبير في فضاء التواصل السوري
عنب بلدي – صالح ملص
“إذا كان كل البشر يمتلكون رأيًا واحدًا، وكان هناك شخص واحد فقط يمتلك رأيًا مخالفًا، فإن إسكات هذا الشخص الوحيد لا يختلف عن قيام هذا الشخص الوحيد بإسكات كل بني البشر إذا توفرت له القوة”.
هذه العبارة للفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل، تنادي بحق الفرد بحرية التعبير عن رأيه، بشرط عدم “إلحاق الضرر” معنويًا أو ماديًا بالفرد الآخر، وهو ما هدفت إليه الثورة السورية في بداياتها عام 2011، الأمر الذي لا يُطبق هذه الأيام في مواقع التواصل الاجتماعي ضمن النطاق السوري، إذ ضلت حرية التعبير عن الرأي في العالم الافتراضي، بسبب ما يتعرض له سوريون من خطاب كراهية أو تحريض أو ذم وقدح، كلما رغب أحدهم بقول رأي لا يتلاءم مع سوريين آخرين، أو لا يخدم توجهاتهم.
خلال الأسابيع الأخيرة، انتشرت بعض حملات التحريض بتخوين أحد المراكز الحقوقية السورية، المحسوبة على المعارضة، لكونه أدرج في تقرير له حالة اعتقال “صحفي سوري” موال للنظام السوري من قبل قوات النظام نفسه، للتأكيد على أن أعمال الترهيب التي تقوم بها قوات النظام تشمل وتستهدف جميع العاملين في المجال الإعلامي بالمناطق الخاضعة لسيطرته، حتى أكثر المقربين من الحكومة ومؤسساتها، الذين يعملون بإذن وموافقة وإشراف الحكومة نفسها وأجهزتها الأمنية.
ورفض ناشطون سوريون هذا الاستخدام وانتقدوا توصيف وسام الطير بالصحفي، إذ شارك بأعمال عسكرية ووثق مشاركته بالصور، وسجل فيديوهات مصورة تتشفى بالمدنيين المحاصرين من قبل النظام السوري.
بعد ذلك، انتشرت حملات في مواقع التواصل تتعدى المواقف الصريحة بالانتقاد والرفض، إلى اتهام المركز الحقوقي بـ”الخيانة والعمالة”.
وبحادثة مماثلة، لا تفصلها فترة زمنية طويلة عن الحادثة الأولى، تحولت انتقادات موجهة لـ”الدفاع المدني السوري” العامل في مناطق المعارضة من قبل مئات المتابعين عبر “فيس بوك“، إلى هجوم مباشر عنوانه تخوين المؤسسة وكوادرها، بسبب إبداء استعداده للمساعدة في إخماد الحرائق التي شهدتها جبال مناطق تخضع لسيطرة النظام غربي سوريا.
ولا تناقش هذه المادة حق الجمهور بالتعبير عن آرائهم وانتقاد الأخطاء وتصويبها، بهدف التفاعل الإيجابي وتقويم أداء هذه المؤسسات، بل تقابل مختصين لتحليل أسباب خطاب الكراهية في مواقع التواصل والتهم المعلبة الجاهزة تجاه مؤسسات عاملة في المجال المدني السوري التي تشوه صورة كوادرها.
يعتمد بعض السوريين في وسائل التواصل على خطاب الكراهية في مواجهة أي خطاب انتقادي، وللتعبير عن آراء لا تتوافق بالضرورة مع رأي سوريين آخرين، بحسب ما قاله مدير برنامج “مرصد خطاب الكراهية في الإعلام السوري” التابع لـ”المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”، يحيى فارس، لعنب بلدي، كما يلعب النزاع المسلح في بلد ما بزيادة قمع حرية الرأي حتى بين الأفراد أنفسهم دون تدخل السلطة في ذلك.
و”يصعب تحديد تعريف شامل لمفهوم خطاب الكراهية، ما يثير إشكالية وجدلًا في هذا الشأن”، وفق فارس، لكن من السهل الاتفاق على أن خطاب الكراهية هو أي نوع من المحتوى الكتابي أو المرئي أو المصوّر، الذي “يحمل هجومًا من نوع ما على مجموعة من الأفراد لكونها تعبر عن رأي يتعارض مع ما تظنه مجموعة أخرى”، ويتخذ من يمارس خطاب الكراهية هذا التعارض في الآراء، كتبرير للتخوين أو التحريض أو الشتم والإساءة، وفق ما يعتقده فارس.
وحرية الرأي والتعبير تنطبق على الأفكار من أي نوع، بما فيها تلك التي قد تعتبر مسيئة جدًا، وفق تقرير لمنظمة العفو الدولية، وفي حين يوفر القانون الدولي الحماية لحرية التعبير، ثمة حالات يجوز فيها تقييد هذه الحرية بشكل مشروع بموجب القانون نفسه، من قبيل الحالات التي تُنتهك فيها حقوق الآخرين، أو تدعو إلى الكراهية وتحرض على التمييز أو العنف.
خطاب الكراهية.. نقطة التقاء بين الواقع ومواقع التواصل
أفرز النظام السوري خلال حكمه لسوريا، وخاصة في السنوات التسع الأخيرة، جملة من الاهتزازات على مستوى البنى الاجتماعية والثقافية للمجتمع السوري، وفق ما ذكره الباحث الاجتماعي السوري في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”، طلال مصطفى، في حديثه إلى عنب بلدي، ما أفرز بالتالي العديد من التصدعات في أنماط وروابط الفئات الاجتماعية السورية كافة.
وتَقصد النظام السوري، وفق مصطفى، في مرحلتي الأسد الأب والابن، تحطيم مؤسسات التنشئة الاجتماعية كافة وتدجينها إلى درجة الهشاشة، ما أفقدها أساليب التنشئة السليمة، فعجزت عن مواكبة المتطلبات السيكولوجية والاجتماعية لجيل معنّف من قبل مرجعياته الثقافية، والسياسية، والأيديولوجية، وحتى الدينية، لمدة 50 عامًا.
هذا التحطيم الاجتماعي “جعل المجتمع عاجزًا عن إعادة تعريف ذاته في ظل التحولات المعاصرة في الهوية الجماعية للسوريين عبر فضاء اجتماعي عنيف وغير آمن”، بحسب ما ذكره مصطفى، ما نتج عنه بروز ثقافة الكراهية في الأوساط السورية كافة، وخاصة الثقافية والسياسية في الواقع السوري الذي انتقل إلى الفضاء الافتراضي.
وأسهم النزاع المسلح في سوريا بظهور ثقافة عدوانية جديدة ضد قيم التعايش والتسامح، “أنتجت خطابًا مشحونًا سياسيًا وأيديولوجيًا بثقافة الكراهية”، وفق رأي مصطفى.
و”ثقافة الكراهية السورية من منظور سوسيولوجي هو تشكل اجتماعي غير سوي، ومنحرف قيميًا، قائم على الخوف من الآخر”، وفق مصطفى.
وتظهر تلك الثقافة التي عاشها بعض السوريين في واقعهم، كمنتوج ثقافي لنظام استبدادي عبر مواقع التواصل أيضًا، ويستثمرها النظام اليوم كما استثمرها سابقًا، وفق مصطفى، من أجل صناعة كراهية تسود فئات المجتمع السوري كافة، ليكون قائمًا على هويات ثقافية متصارعة وكارهة لبعضها في الأبعاد الجغرافية السورية المختلفة التوجهات الثقافية والنفوذ السياسي، ما يشجع على إيجاد مناخ من الأحكام المسبقة التي تتحول إلى تشجيع على ارتكاب جرائم الكراهية في مواقع التواصل.
حالة مرضية لا يشفيها “الانفتاح الثقافي”
توجد في مواقع التواصل، خاصة في منشورات “فيس بوك” لدى بعض السوريين، أنماط سلوكية تتسم بالكراهية والإقصائية العدائية العلنية للآخرين، وفق مصطفى، وصلت إلى حد الدعوة العلنية لارتكاب جرائم الإبادة الجماعية لبعض المجموعات.
والحالة غير الطبيعية، برأي مصطفى، أن تظهر ثقافة الكراهية لدى بعض المعارضين السوريين، خاصة الذين تعرفوا إلى تجارب الآخرين في السلوك السياسي والاجتماعي خارج سوريا، ولا سيما في المجتمعات الأوروبية الديمقراطية.
وطرح مصطفى تساؤلًا: “أليست تسع سنوات خارج سوريا والعيش في تلك المجتمعات الديمقراطية كافية لإحداث تعديلات في ثقافة التعامل مع الآخر المختلف معه سياسيًا، ثقافيًا؟”.
سبب خطاب الكراهية في سلوكيات بعض السوريين عبر مواقع التواصل، برأي مصطفى، هو “الصور النمطية التي يحملها الفرد عن الآخرين، وتتجسد في الابتعاد عن العقلانية من خلال الأحكام المتعجلة أو المسبقة أو التعميم المفرط”، دون البحث عن المعلومات الحقيقية قبل إبداء الرأي في المواضيع التي ينشغل فيها سوريون عبر مواقع التواصل.
ويأتي الابتعاد عن العقلانية، وفق مصطفى، بسبب التفكير في إطار القوالب النمطية، ورفض تعديل الآراء.
وأضاف مصطفى إلى جملة تلك الجوانب، الجانب الوجداني الذي يتمثل في مشاعر الكراهية التي يحملها الفرد ذو الذهنية التي تتسم بالكراهية للآخر، والابتعاد عن معيار المشاعر الإنسانية الذي ينتقل من اللامبالاة تجاهها إلى العداوة النشطة.
بالإضافة إلى الجانب السلوكي الذي يتمثل في المسافة الاجتماعية التي يضعها الشخص صاحب خطاب الكراهية بينه وبين الآخرين، وفق ما شرحه مصطفى.
و”التعصب الثقافي عامل تفكيكي في عمليات التفاعل الاجتماعي”، وفق مصطفى، ويشوّه العلاقات بين الأفراد ضمن المجتمع الواحد، ويقف حاجزًا ضد كل ما هو جديد، على الصعيد الثقافي والمعرفي بكل عام، ويعزل أصحابه عن الجماعات والفئات الأخرى في المجتمع ذاته ويبعده عنهم.
وشخّص مصطفى خطاب الكراهية في مواقع التواصل على أنه حالة مرضية تدفع إلى الميل لممارسة العنف تجاه الآخر، لهذا “تنظر إليه كثير من الدراسات باعتباره مرضًا اجتماعيًا سياسيًا”، وفق مصطفى.
عوامل شجعت ثقافة الكراهية
أهم العوامل التي تقف وراء بروز ثقافة الكراهية لدى بعض السوريين في منشوراتهم وتعليقاتهم عبر “فيس بوك”، وفق ما أوضحه مصطفى، والتي يظهر بعضها فوق السطح، ويبقى بعضها الآخر تحته، هي ادعاء بعضهم امتلاك المعرفة المطلقة بكل القضايا الحياتية، وأنهم الوحيدون الذين يملكونها، هذا يدفعهم إلى النزوع إلى إقصاء كل من يخالفهم الرأي.
وأما العامل الثاني الذي ذكره مصطفى، فهو غياب ثقافة المواطنة في الممارسة الحياتية اليومية لديهم على أرض الواقع، وينعكس ذلك من خلال سلوكياتهم عبر مواقع التواصل، التي تؤدي بهم إلى النكوص للانتماء إلى هويات فرعية، وأيديولوجية، وقومية، وسياسية، وحتى طائفية، من خلال الدفاع عن معتقدات هذه الهويات الفرعية، بغض النظر عن الهوية السورية المشتركة.
والاستكانة لكل ما هو موروث وتقليدي ثقافيًا في المواقف والسلوكيات أدت إلى مقاومة التغيير في الذهنية الثقافية لدى بعض السوريين، حتى وإن أقام بعضهم في بلدان أوروبية، وفق مصطفى.
وهناك إشكالية تلعب دورًا مهمًا في انتشار المنشورات والتعليقات التي تحمل محتوى محرضًا، وفق مصطفى، وهو عدم تقبل الآخر والتصور بأنه المتآمر عليه، وعلى أيديولوجيته، وقوميته، وحزبه السياسي، وحتى طائفته، دون النظر إليه كمواطن وشريك في سوريا،
ووجود تكتلات (شلل) ثقافية وسياسية، خصوصًا في المؤسسات وأماكن العمل في الواقع السوري، يسهم في إنتاج عنف تجاه كل ما هو خارج هذه التكتلات، ليس فقط في الواقع، وإنما في مواقع التواصل أيضًا، إذ “باتت تتشكل ثقافة إقصاء وإهمال لكل خطاب وإنتاج لا ينتمي إلى شلة معينة أو إلى نيل الرضا في أدنى تقدير”، وفق مصطفى.
خطاب الكراهية.. جريمة إلكترونية يستغلها التشريع السوري
صارت مواقع التواصل في السنوات الأخيرة منصات تجمع كل فئات المجتمع، وتعتبر وسائل إعلام بديلة عن الإعلام التلفزيوني التقليدي، وقد زاد الاهتمام الحكومي في أغلب بلدان العالم بسن قوانين وتشريعات تحدد الجرائم الإلكترونية للحد من خطاب الكراهية في مواقع التواصل، لكن ووفق ما ذكره فارس، فإن قانون “الجرائم المعلوماتية” السوري لعام 2012، يعتبر مدخلًا لتقييد الحرية الشخصية أكثر مما تحمي نصوصه الأفراد من خطاب الكراهية.
ويحمي قانون “الجرائم المعلوماتية” السلطة نفسها من انتقاد الأفراد لها، لأن نص القانون يتيح لسلطة النظام اعتقال الفرد بسبب انتقاده الحكومة، أما فيما يخص الحالات التي تشتمل على التحريض على العنف بين الأفراد أنفسهم، فهناك تساؤلات، وفق فارس، حول ما إذا كانت السلطة في سوريا جدية بمقاضاة أصحاب التعليق المسيء لشخص عادي لا ينتمي لسلطة النظام.
ويكمن جزء من المشكلة في أن القوانين السورية المطبقة في مجال الجرائم الإلكترونية، مصممة لحقبة معينة، ففي كل فترة يتداول الناس موقعًا افتراضيًا جديدًا، يمكن استعمال الأفكار العدائية فيه ونشرها للجمهور، بطريقة تخرج عن نطاق تجريم القانون لها، وفق فارس.
وحين يتجه شخص ما نحو خطاب الكراهية ضد مجموعة من الأفراد سواء كانوا مدنيين أم سياسيين أم نخبويين أم شخصيات عامة، فهذا يساعد ذلك الشخص صاحب خطاب الكراهية على تبرير ما قد يحصل مع المجموعة المستهدفة من مضايقات أو أزمات اجتماعية أو مادية نتيجة التحريض عليهم، ووفق الصحفي يحيى فارس، فهذا يعطي صلاحية إطلاق أحكام غير عادلة وغير مبنية على بحث في المعلومات تسهم في إهانة كرامة الأشخاص.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :