“عزيزة” الذاكرة حيث لا تنفع

tag icon ع ع ع

نبيل محمد

كما أن الذاكرة هي الملجأ الوحيد الذي يستعين اللاجئ بتفاصيله ليستعيد في ذهنه واقعًا لم يعد موجودًا، وكما أن هذه الذاكرة وكل ما يحرّضها مما بقي في أيدي صاحبها من أدوات تساعده على رؤية الماضي، هي ملهاته الوحيدة في تراجيديا متكاملة يعيشها، هي أيضًا لم تعد نافعة لتمشي به أي درب في حياته الجديدة، هي سيارة معطلة تعوقه، وتغلق الشارع عندما تعاند سائقها المتمسك بها. لعلها تلك إحدى المقولات التي لا يخفيها فيلم “عزيزة”، الفيلم القصير الذي أخرجته السورية سؤدد كعدان، والذي نال العام الماضي جائزة التحكيم الكبرى للفيلم القصير في مهرجان “ساندانس” السينمائي الدولي، كما حاز جائزة “الهوغو الفضي” في مهرجان “شيكاغو” السينمائي في الولايات المتحدة الأمريكية.

“عزيزة” هي سيارة “فولكس فاكن” من طراز “بيتلز” المعروف شعبيًا بـ”السلحفاة”، تلك التي ودّعت العالم مؤخرًا بعد قرار شركتها التوقف عن إنتاجها بعد أكثر من سبعين عامًا دخلت فيه هذه السيارة مجتمعات عديدة، وشكلت نوعًا من “النوستالجيا” لدى مستخدميها القدماء، وهي في الفيلم أيضًا تستعيد هذا الدور بلونها الأحمر المميز، وارتباط مالكها السوري الذي يعيش في لبنان بها، وحرصه عليها، فهي ما تبقى له من وطنه، الذي تركه بعد دمار كل شيء فيه، بيته وحيه ومختلف التفاصيل التي خرج منها ناجيًا إلى لبنان مع زوجته، وسيارته العتيقة.

في لعبة ما، أو ربما تجربة، يحاول الزوج تعليم زوجته قيادة السيارة في كراج للسيارات في قبو أحد الأبنية، ويدعوها لتمثيل قيادة السيارة، فيما يبدو أنه معتاد بينهما القيام بذلك، وكأنها “بروفا” لقيادة السيارة بشكل حقيقي، ستمر الزوجة خلال قيادتها الافتراضية بتلك التجربة بحادث افتراضي، حادث من الممكن أن يكون حضوره بقوة في ذهن الزوج هو ما يمنعه من ترك السيارة لزوجته لتقودها مباشرة في الخارج، حادث قد يقضي على “عزيزة”، كمان أنه سيترك ضحية حين تصدم الزوجة سائق دراجة نارية، يأمل الزوج أن يكون سوريًا لا لبنانيًا، فأن يَقتلَ سوري لبنانيًا في لبنان، تلك ليست مجرد جريمة جنائية، وفي هذا التفصيل تمر أكثر من رمزية توحي بوضع السوريين في لبنان، تلك الرسالة كانت من أكثر المعالم الحاضرة في الفيلم، بل إن السيارة عند وقوفها في الشارع، تنتقي أوضح مكان مطل على لوحة جدارية تخاطب السورين بـ”ارحلوا”.

كانت هذه اللوحة أكثر بروزًا من السيارة (الذاكرة) نفسها في الشارع. إذًا، في شارع كهذا لا يمكن لذاكرتك أن تحارب الواقع، ستتعطّل بسرعة، لا يمكنها اجتراع وطن حقيقي، ستمثلُ العنصرية أمام عينيك لتعيدك من حياتك الافتراضية العابقة بـ”النوستالجيا”، إلى واقع قاسٍ أنت مضطر للتعامل معه.

في شارع منعزل نسبيًا، يمكن أن  يركن هذا السوري سيارته “عزيزة”، ويحاول مجددًا خلق تفاصيل مدينته حولها، خاصة إذا نظر إلى أفق مفتوح، لا يحدّ من خياله بلوحة جدارية أو شتيمة عنصرية، أو أبواق سيارات تشتكي من تعطل سيارته أو بطئها، ليتذكر بيته قبل أن يدمَّر، وشارعه الخالي من الحواجز، ودمشق على طبيعتها، بل وسيذهب بخياله مع زوجته إلى أبعد من ذلك، حيث سيتخيلون العائدين من المغترب محمّلين بلغات أجنبية، وبأبناء لا يجيدون العربية، ومحمّلين بعقدهم أيضًا وفق ما يتخيّله المسكينان العالقان في لبنان، والعالقان في الذاكرة، تلك الذاكرة القديمة البطيئة، كثيرة التعطّل، التي لم تغيّر حتى الأغنية المرافقة لها.. تلك الذاكرة التي تخلت حتى الشركة التي أنتجتها عنها.

خلال 13 دقيقة، يحاول الفيلم، الذي يلعب بطولته كل من عبد المنعم عمايري وكاريس بشار، اختصار عوالم نفسية متعددة، لسوري لاجئ في بلد أحد أهم صفاته العنصرية تجاه اللاجيئن، لا يتقن الحركة خارج بيئته، ولا يمكن التخلي عن مفاتيحها التي لا نفع لها في التعامل مع أبواب المنفى المغلقة.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة