“صولو” عازف الطريق السوري

tag icon ع ع ع

نبيل محمد

عندما جاء عازف الغيتار عمر الكيلاني إلى تركيا لاجئًا، كان بحوزته غيتاره مع عشرين دولارًا أمريكيًا، كان ذلك قبل خمس سنوات، وخلال عام واحد أصبح لديه غيتاران ومئة دولار، ثم بعد عام آخر أصبحت ممتلكاته ثلاثة غيتارات وألف دولار وكيبورد، ومنذ عامين صار لديه استديو احترافي بسويّة ممتازة.. كلُّ ذلك كان خلال مشواره بالعزف في شارع الاستقلال باسطنبول، تلك الرحلة التي يروي تفاصيلها في فيلم “صولو” المرشح على قائمة الجزيرة النهائية للفوز بجائزة الفيلم القصير 2020.

فيلم يتابع قصة ليست استثنائية تمامًا، بل تحاكي عشرات القصص الأخرى التي قد تنتمي إلى الجغرافيا ذاتها، بل ربما مراحل التجربة ذاتها، فكم من موسيقي أو فنان سوري أو متميز في أحد المجالات الإبداعية، عَبَر وبجيبه عشرون دولارًا أو أقل باتجاه تركيا، ليبدأ منها محاولة صناعة نفسه منفردًا، مرة من خلال الشارع، وأخرى من خلال استديو قد يتبنّاه، أو فرقة موسيقية قد تعطيه فرصة العزف معها، أو ربما فنان ما يصادف أن يسمع عزفه فيستسيغه. في هذا السياق يتحدث عمر لكاميرا المخرجين محمد جاد وأسامة نعمان اللذين يتركان للعازف الصغير حرية اختصار تجربته، وانتقاء الصور الأكثر تأثيرًا فيها وحضورًا في ذهنه، لتكون هي حكايته الممتدة على خمس سنوات في الحقيقة، تختصرها أقل من ست دقائق سينمائية.

“صولو” هو مصطلح يدل على العزف المنفرد، وربما لم يكن عمر عازفًا  منفردًا في تجربته كعازف طريق، بل كان في أغلب الأحيان يعزف إلى جانب فرق أو تجمّعات موسيقية، تغني وتعزف الموسيقى العربية، وتتلقَّف من العابرين في أكثر شوارع اسطنبول ازدحامًا بالسياح دعمًا ماليًا أو أجرة استماع لمن شاء الدفع إن صح التعبير. كان عمره 17 عامًا عندما أمسكته الشرطة في الشارع يعزف، عندها دافع المارة عنه وحاولوا منع الشرطة من اعتقاله. كان أول المبالغ التي يحصل عليها في حياته هو ثمانية دولارات بعد عزف يوم كامل في الشارع. كان العازف مسرورًا حينها، إذ بدأ غيتاره يدرُّ عليه المال، وإن كان بمبالغ قليلة لا تكفي للذي تتطلبه الحياة في مدينة كاسطنبول، لكن تلك الدولارات كانت بداية رد الجميل من الآلة لصاحبها، صاحبها الذي فضّل حملها على حمل ملابسه لاجئًا من سوريا وفق ما يقوله، حيث لم يكن بإمكانه حمل الكثير، فانتقى آلته الموسيقية، كونها تساعده على تجاوز الطاقة السلبية، والظروف القاسية التي يمر بها إثر الحرب. أيضًا هنا يبرز هذا التفصيل الذي كم كرَّره عازفون غادروا بلادهم عنوة وفي ظروف لم تتح لهم ملء حقائبهم بما شاؤوا من ذكريات أو حاجيّات، فانتقوا آلاتهم الموسيقية، ثم كانت هذه الآلات مصدر رزقهم ونجومية بعضهم فيما بعد، بينما باعها آخرون في الخارج مضطرين أو قاصدين.

عمر عازف في مقتبل العمر، ووفق ما يظهره في الفيلم، فقد بدأ ببناء مستقبل خاص به، مبني على أسس تجربته السابقة التي يركز الفيلم عليها، التجربة يبدو أنها أصبحت خلف ظهره اليوم، وقد امتلك استديو احترافيًا، وربما لم يعد يعزف في الطريق بعد الآن، لكنه يكرر اعتزازه بعمله كعازف طرق، لا يتسوّل النقود من أحد بل يقدّم الفن في الشارع، كان ينتظر في الشارع من يقول له “تعال واعمل معنا! اعزف في فرقتنا!” أكثر مما ينتظر الحصول على نقود يجمعها من حقيبة غيتاره ويحصيها مساء.

اليوم في الشارع ذاته عشرات الموسيقيين السوريين، والعرب، والإيرانيين، والأوكرانيين، عازفون أغلبهم هاربون من حروب أو قمع أو سوء أوضاع اقتصادية، تستوقفك موسيقى بعضهم، وتجبرك بعضها على الإسراع في المشي تجنبًا للاستماع. كل آلة قد تحمل قصة تشبه قصة عمر، الذي ردّت له آلته قيمة مشاعره تجاهها، وهو ما لا يحدث دائمًا مع آلاف الموسيقيين الهاربين من بلاد الموت بآلاتهم.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة