tag icon ع ع ع

حنين النقري – عنب بلدي

تصدر يوميًا عن هيئات ومنظمات مكافحة البطالة حول العالم مطالب واقتراحات موجّهة للشعوب لتنقذ نفسها من نسب عطالة تتزايد باستمرار، وأحد الحلول الموصى بها بكثرة هو الاتجاه للأعمال الحرّة لمزايا كثيرة تحملها؛ فيرد ذكر العمل الحر على لسان الشباب الناقمين على التوظيف والعمل البيروقراطي، الراغبين بانعتاق الإنسان من كل قيد، فالوظيفة حسب المفكر المصري عبّاس العقاد «هي رقّ القرن العشرين».

وبينما تجاوب البعض مع النداءات المتكررة قابلها آخرون باللامبالاة، لكن لتغيّر الظروف دورٌ يسهم في موازنة المعادلة وتوجيه المرء نحو مسبّبات بقائه، وهو الأمر الذي نلحظه اليوم في أوساط السوريين أينما كانوا؛ إذ أجبرتهم الحرب على التفكير بأبواب جديدة يعيشون منها بعد خسارتهم أبواب رزقهم؛ ويأتي العمل الحر في هذا السياق شهادة على قوّة الأفكار التي تولد من رحم الحاجة.

كسوريين نعرف منذ عقود مصطلح العمل الحر ونستخدمه للدلالة على الأعمال اليدوية كالنجارة والحدادة والبناء، إلا أن معانيه الكثيرة تشمل هذه الأعمال وتتجاوزها إلى الكتابة والترجمة والرسم والتصميم والخياطة والعمل عبر الإنترنت؛ فكيف دخل مفهوم العمل الحر إلى الجيل السوريّ الجديد بشكل مختلف عمّا عاشه آباؤهم؟

إرادة تكسر طوق الحصار

تسنيم، طالبة في كلية الهندسة الكهربائية في سنتها الثانية، توقّفت عن الدراسة كحال الطلبة الجامعيين في الغوطة الشرقيّة، وبحكم مهارتها في المهام الحاسوبيّة وامتلاكها حاسوبًا، بدأت تنُضّد أسئلة الامتحانات للمعلمين والأوراق المهمّة لمن يطلبها في الغوطة بأجر زهيد «لكنّه يساعدني وعائلتي قليلًا» وفق ما تقول.

رحلة بحث تسنيم عن أسلوب تحقّق فيه دخلًا بسيطًا دفعها للتعاون مع أصدقائها خارج الغوطة، «تواصلتْ صديقاتي في دمشق مع مكتبة طلّابية، وبدأن بتصوير صفحات مكتوبة بشكل يدويّ وإرسالها عبر الإيميل، لأنضدها رقميًّا».

هكذا وسعت تسنيم نطاق عملها رغم الحصار المفروض على الغوطة، وأجابت عن كيفيّة استلامها للأجور، «في البداية كان استلام النقود عقبة، لكنّنا اتفقنا على إرسال رصيدٍ هاتفي بقيمة الأجور إلى رقمي، ثم أبيعه هنا لمن يريد»، لتخفّف بذلك عن أهلها ثقل الغلاء وندرة الأعمال.

وكما تحايلت على استلام النقود فقد تغلبت على انقطاع الكهرباء منذ ثلاثة أعوام، وتقول «اشتريتُ بطاريّة إضافية لحاسبي، كما أستفيد من قرب منزلي إلى مركز طبيّ حيث أرسله لأشحنه كل يوم»، وتضيف بفخر «رغم أن الحصار منعني من الذهاب إلى العمل، لكنني استطعت أن آتي بعملي إليّ».

«كُتب علينا النزوح وليس المذلة»

ليس الحصار وحده ما يدفع الناس لأعمال كهذه، فللجوء والنزوح أحكام أيضًا؛ ولنادية (25 عامًا) قصّتها الفريدة، إذ خرجت من ريف دمشق منذ عامين بعدما فقدت زوجها مع اشتداد المعارك، ونزحت برفقة عائلة أختها إلى لبنان.

ولأنها لم تنل شهادة تعمل بها قرّرت تعلّم الخياطة، تقول نادية «توجهتُ لأحد مراكز تعليم الخياطة والتطريز، وبدأت أتعلم بسرعة أدهشَت صاحب المشغل… وبحكم اهتمامي بالموضة سابقًا ومحبتي لتطبيق القطع على بعضها البعض؛ صرت أعطي نصائحي للزبائن بما يليق بكل واحدة منهنّ وأبتكر التصاميم للفساتين».

اكتسبت نادية شعبية بين الزبائن وبات وجودها في المشغل أساسيًا، لذا تترك أبناءها الثلاثة في بيت أختها، التي تعلّمت منها تطريز الشرقيات وبدأت تشاركها العمل، وتوضح «أحضر بعض القطع إلى المنزل لتعمل عليها أختي؛ المردود جيّد بسبب طلب السوق على المنتجات الشرقيّة والمطرّزات، ويؤمّن بالإضافة إلى المعونات الشهرية التي نحصل عليها مصروف أولادي كاملًا».

نادية فخورة بنفسها وبقدرتها على الإيفاء بمستلزمات حياتها وأبنائها، وهو أمر يعجز عنه الرجال في هذه الظروف، حسب تعبيرها «الله كتب علينا النزوح لكنه لم يكتب المذلّة، لم يكن زوجي يقبل أن يصرف أحد على أبنائه وأنا أسعى لأحافظ على عزة نفسنا».

المطبخ.. عمل العائلة

ولأم نضال قصة مشابهة، فهي سيدة حلبية لجأت إلى الأردن مع عائلتها، يعمل أبناؤها كل بما يستطيع؛ وتعمل هي بما تتقنه كما كلّ أهل حلب «الطبخ»، تقول أم نضال «لم أطبخ من قبل لأحد، لكنّ جارتي الأردنية بعد أن تذوقت طبخي طرحت عليّ الفكرة وصارت تروّج لي بين صديقاتها في العمل».

بدأت أم نضال بصنع الكبب الحلبية والمقبّلات والفطائر بالتواصي وبيعها، ثم وسّعت نطاق عملها وبدأت ابنتها بنشر صور الطبخات وأسعارها عبر مجموعات الطبخ في موقع الفيسبوك مع الرقم الخاص بالتواصي»، وتضيف أن معظم زبائنها من المعلّمات والنساء العاملات.

ويزيد الطلب على الطبخ في المواسم كرمضان والأعياد، تقول أم نضال «تساعدني ابنتي وزوجات أبنائي في العمل، خاصة عند الضغط على التواصي، وأيام المونة كصنع المكدوس ورب البندورة وغيرها».

تعتبر أم نضال أن حياتها تطورّت نحو الأفضلَ بعد العمل، فهي معتادة على عمل المنزل والطبخ وتحبّه؛ وباتت تشغل وقتها عن التفكير بالنزوح والحرب والخسائر التي لحقت بالناس جميعًا، وتضيف «لم أتخيّل يومًا أن يكون الطهي سبيلًا لرزقنا، الحمد لله على كل حال.. أمورنا مستورة وهذه أكبر نعمة».

اللغة الثانية تشقّ طريقًا للعمل

أحمد (21 عامًا)، طالب جامعيّ من حمص لا يتقن الطبخ كأم نضال ولا الخياطة كنادية، لكنّ لديه مهارة أخرى وظّفها في العمل الحر، وهي اللغة الإنكليزية، يقول أحمد «اهتمامي باللغة وقراءاتي الكثيرة بالإنكليزية آتت أكلها، أتواصل منذ ما يزيد عن العام مع جهات عديدة في الوطن العربي وأترجم مقالات خاصة بالتسويق والتجارة -وهو اختصاصي الجامعيّ- بالإضافة لتفريغ محاضرات مسموعة في بعض الأحيان، وترجمة مقاطع فيديو أو منشورات تجارية لشركات من اللغة العربية للإنكليزية».

المردود المادي لعمل أحمد يكفيه كطالب، ويعتبر أنه بذلك يحمل ثقلًا عن أهله «العمل في البلد بات قليلًا والخريجون لا يجدون شاغرًا في الوظائف فكيف بطالب الجامعة؟».

يعمل أحمد من منزله، حاسوب وخط إنترنت هما كلّ عدّته ليكون منتجًا ويلتفّ على ظروف الحرب واقتصادها المتهالك.

لم تسمع أمّ نضال يومًا بالعمل الحرّ المروّج، ولعلّ نادية لم تقرأ كتبًا ومقالات عنه، لكن ما ذكرناه في هذا التقرير هو أمثلة حيّة ومطبّقة عن العمل الحرّ سواء كان ذلك عبر الإنترنت أم بشكل ماديّ، في المنزل أو خارجه، جميعهم يشتركون في أن الحرب دفعتهم للبحث عن بدائل ممكنة ليعيشوا منها، وهو الأمر الذي يغيب عن المثقفين ونداءاتهم المستمرة، فالأفكار مهما كانت برّاقة لا تؤتي أكلها في مجتمع لا يحتاجها.

تنضيد؛ ترجمة، خياطة، تطريز وطبخ، ليست مجرّد أعمال حرّة يقوم بها السوريون؛ بل هي تحدّ كبير للواقع الذي يعيشونه اليوم، ورفض لأن تغدو حياتهم على هامش البشرية؛ وتمرّد على من يرغب بأن تكون حركتهم الوحيدة استلام صندوق معونات شهريّ يعطيهم شيئًا ويسلبهم أشياء.

سعي السوريين للعمل في أي ظرف هو دليل على تمسّكهم بالحياة بمستواها الأعلى: الحياة المنتجة، ليبقوا كما كانوا على الدوام: اليد العليا.

ما هو العمل الحر؟

في موقع اتحاد العمل الحرّ

freelancers union؛ يعرّف المصطلح بعمل الشخص لحسابه الخاص، وليس لصالح جهة أو مؤسسة، دون التزام لمدى طويل مع الجهة التي يتعامل معها، فهو بذلك حرّ من القيود والضغوط ومكان العمل وكيفية تأديته ووقت أدائه.

ويشير تقرير نشره الاتحاد في نهاية عام 2014 أن ما يزيد عن 53 مليون أميركي يعملون بشكل حرّ، بنسبة تعادل 34% من القوة العاملة هناك، ليرفدوا الاقتصاد الأميركي بـِ 715 مليار دولار.

مقالات متعلقة