جريمة التهجير القسري في سوريا.. آليات المحاسبة وحق العودة

نزوح الأهالي من جبل الزاوية جنوبي إدلب باتجاه الحدود التركية نتيجة قصف قوات النظام وروسيا - 27 كانون الثاني 2020 (عنب بلدي)

camera iconنزوح الأهالي من جبل الزاوية جنوبي إدلب باتجاه الحدود التركية نتيجة قصف قوات النظام وروسيا - 27 كانون الثاني 2020 (عنب بلدي)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – نينار خليفة

“كأنك تُقتَلع من جذورك”، بهذه الكلمات وصف شاهر المحمد النازح حديثًا من مدينة سراقب بريف إدلب، حاله عند النزوح.

هذه أول مرة يترك شاهر فيها مدينة سراقب، بحسب ما قاله لعنب بلدي، “لم أغب عنها سابقًا تحت أي ظرف من الظروف، حتى في أوقات دخول قوات النظام إليها لم أغادرها، ولكن ما يحدث حاليًا يجعلنا نفكر كثيرًا، خاصة في ظل ما يقترفه النظام في المدن التي يجتاحها من قصف جوي ومدفعي وهدم ومجازر، لقد خسرت سابقًا زوجتي وولدي، ولست مستعدًا لخسارة المزيد”.

شاهر واحد من ملايين السوريين الذين هُجروا قسرًا تاركين “تحويشة” العمر، وجزءًا من أرواحهم، وكثيرًا من التفاصيل التي تعنيهم هم وحدهم، ففي الزاوية المحببة من المنزل يشربون قهوتهم، وقد اختاروا بعناية لون ستائرهم، وفي أرض الديار يجتمعون لقضاء سهرتهم، وهناك أيضًا صبروا على سنوات الحرب ومآسيها، ولكن المأساة الأكبر كانت إجبارهم على إخلاء منازلهم والنزوح نحو المجهول.

وأضاف شاهر، “كثير من الأشخاص تركوا بيوتهم وأراضيهم ومعاملهم وأملاكهم. تركوا كل شيء وأول ما فكروا به هو الحفاظ على الأرواح”.

حمل الشاب من منزله القليل من الحاجيات، كالألبسة لتعينه على فصل الشتاء، ووسائد، وأغطية، والقليل من المونة، ثم ركب السيارة دون أن يعرف إلى أين سيتوجه.

“في الطريق شهدنا هجرة عظيمة، فقد كانت آلاف السيارات أمامنا والآلاف خلفنا، لقد أثر بي المشهد كثيرًا، كان شيئًا لا يمكن وصفه، فعلى الإنسان أن يواجه حياة جديدة ومجتمعًا جديدًا، في ظل صعوبة تأمين المأوى الذي يعتبر أولوية، لقد تمنيت أن تدهسني الدبابة ولا أخرج من مدينتي”.

كما النزع الأخير

نيفين حوتري المهجرة من الغوطة، تشترك مع شاهر بكون رحلة التهجير هي من أصعب التجارب التي قد تمر على الإنسان، فهي “تبدأ بعذاب معنوي يشبه النزع عند الوصول لاتخاذ القرار، ويستمر هذا الشعور بكل المحطات نظرًا للصعوبات التي ترافقها، من قصف على سيارات النزوح، إلى عدم توفر مأوى مناسب يستقبل النازحين، ومن ثم صعوبة بدء حياة جديدة بمكان غريب، عدا عن صعوبة الوضع المادي لبعض العائلات، الذي لا يساعدها على بدء حياة جديدة”.

وأشارت نيفين، في حديثها لعنب بلدي، إلى أنه على الرغم من كل ما عايشه أهالي الغوطة خلال سنوات الثورة والحصار اختاروا قرار البقاء فيها، إلا أن التصعيد العنيف وتقدم النظام، فرض عليهم قرار النزوح، فالتجارب السابقة تؤكد أنه لا وجود لأمان ولا لمواثيق أو عهود يلتزم بها النظام عند دخوله إلى المدن التي كانت واقعة خارج سيطرته.

وأضافت، “عندما يكون الخيار إما التهجير وترك البيوت والذكريات و(شقا العمر) أو البقاء تحت سيطرة جيش الأسد الذي سيتفنن بالإجرام فينا، يكون لا خيار لدينا سوى التهجير”.

يُعرّف التهجير القسري في القانون الدولي بأنه “الإخلاء القسري وغير القانوني لمجموعة من الأفراد والسكان من الأرض التي يقيمون عليها”.

تحظر المادة (49) من اتفاقية “جنيف” الرابعة لعام 1949 النقل القسري الجماعي أو الفردي للأشخاص، أو نفيهم من مناطق سكنهم إلى أراضٍ أخرى، إلا في حال أن يكون هذا في صالحهم بهدف تجنيبهم مخاطر النزاعات المسلحة.

وورد في المادة (7/د) من نظام روما الأساسي لـ”محكمة الجنايات الدولية” أن “إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان، متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين يشكل جريمة ضد الإنسانية”.

إحصائيات اللجوء والنزوح في سوريا

تعد سوريا أكبر بلد مصدّر للاجئين حول العالم، إذ يتجاوز عدد اللاجئين السوريين الستة ملايين لاجئ، وفقًا لإحصائيات “منظمة الهجرة الدولية” في تقريرها عن الهجرة الدولية لعام 2020 الذي أصدرته، في 27 من تشرين الثاني 2019، كما يوجد في سوريا أعلى عدد من النازحين داخليًا، وفقًا لذات التقرير، إذ بلغ 6.1 مليون نازح.

ووصل عدد النازحين نتيجة الحملات العسكرية الخمس التي شنها النظام وروسيا على منطقة “خفض التصعيد” في شمال غربي سوريا، منذ اتفاق “سوتشي” الموقّع في روسيا بشهر أيلول من عام 2018 حتى 31 من كانون الثاني الماضي، إلى مليون و695 ألفًا و500 نازح.

وقُتل 1992 شخصًا، بينهم 549 طفلًا، جراء الحملات، حسب بيان فريق “منسقو استجابة سوريا”، الصادر في 31 من كانون الثاني الماضي.

متى تكون حالات التهجير “شرعية”؟

المدير التنفيذي لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، بسام الأحمد، تحدث لعنب بلدي عن إمكانية عودة المرحلين قسريًا إلى مناطقهم، وآليات المحاسبة على جريمة التهجير القسري.

وأشار الأحمد إلى أن القانون الدولي الإنساني يحظر بشكل صريح نقل أو إبعاد الأفراد من أماكن سكنهم، إلا باستثناءات معينة يمكن اعتبارها “حالات إبعاد شرعية”، وهي عندما توجد بالفعل ضرورة لنقل مجموعة من الأشخاص لفترة مؤقتة إلى أماكن أخرى، وذلك لأغراض عسكرية أو خوفًا على حياتهم.

وأوضح أن هذه الظروف غير متوفرة في السياق العسكري السوري، لأن جميع الأطراف تقوم باستهداف المدنيين، والهدف من وراء عمليات الإبعاد هو إحداث تغييرات ديموغرافية.

وأضاف أنه بالتالي لا يمكن الحديث عن حالات إبعاد شرعية في سوريا، حتى إذا عزتها بعض الأطراف لضرورات عسكرية، لأنه لا يتوفر فيها شرطا أن تكون الخطورة “واضحة”، والفترة التي يتم خلالها إجلاء المدنيين إلى أماكن آمنة “محددة” يجري بعدها إعادتهم إلى مناطق سكنهم الأصلية.

حق العودة

أكد الأحمد أنه عند الحديث عن حالات نزوح تعسفية فإن حق عودة السكان إلى مناطقهم التي هُجروا منها يجب أن يكون “أولوية”، فالأشخاص الذين نزحوا من مكان معين وانتهت الأسباب التي كانت وراء نزوحهم، كتذرع بعض الأطراف بوجود عمليات عسكرية أو تنظيمات مسلحة، فبعد حدوث سيطرة عسكرية لجهة معينة فيما بعد، يجب أن يكون حق العودة للسكان الأصليين “أولوية”.

إلا أن هذا لم يحدث في معظم حالات التهجير السورية خلال فترة النزاع، سواء في إدلب أو عفرين أو غيرها من المناطق، لأن الطرف العسكري كما في حالات النزاعات يعمد إلى “شيطنة” فئات ومدن ومجتمعات كاملة.

وأوضح الأحمد أنه يجب التفريق بين النازحين واللاجئين فيما يخص موضوع العودة، إذ حددت “الاتفاقية الخاصة بحماية اللاجئين لعام 1951” حقوق اللاجئين في هذا السياق، إلا أنه لا توجد اتفاقية خاصة بالنازحين داخليًا، الذين لم يتجاوزوا الحدود الدولية.

وبيّن أن عدم وجود اتفاقية خاصة بالنازحين لا يعني أنهم محرومون من الحماية قبل أو في أثناء فترة النزوح، إذ إنهم محميون بموجب القانون الوطني والقانون الدولي لحقوق الإنسان الذي يمنع القتل والتعذيب وغيرها من الانتهاكات، كما أنهم خاضعون في الحالة السورية للقانون الدولي الإنساني لأننا نتحدث عن بلد يوجد فيه نزاع مسلح.

ولفت إلى أنه لو كان يوجد بالفعل التزام بقوانين الحرب وقواعد القانون الدولي، فإن ذلك سيخفف ويمنع كثيرًا من عمليات النزوح.

فعلى سبيل المثال، عند الحديث عن الهجمات التي طالت محافظة إدلب مؤخرًا، لو كان الاستهداف يطال فقط المنشآت العسكرية، وتوجد ثقة لدى المدنيين بأن الأطراف العسكرية لن تستهدفهم، لن تكون موجات النزوح شبيهة بما يحصل حاليًا، ولكن الاستهداف العشوائي لمنازل المدنيين، وقصف الأسواق والفرق الطبية، وحالات الإعدام والانتقام من قبل القوات المهاجمة، كل ذلك يدفع جميع المدنيين للنزوح من هذه المناطق.

ولفت إلى أن كثيرًا من حالات التهجير والإخلاء القسري لم تتم عبر إجبار الأشخاص على الخروج من منزلهم فقط، بل كانت أيضًا من خلال خلق ظروف تجبرهم على تركها، مثل عمليات القصف العشوائي وعدم شعور الناس بالأمان.

العودة الطوعية

عند الحديث عن موضوع عودة اللاجئين، أكد الأحمد أنها يجب أن تكون آمنة وطوعية وكريمة، فالقانون الدولي يمنع عودة أي شخص إلى مكان يمكن أن يتعرض فيه للخطر، وقد تعمد الدول إلى توقيع اتفاقيات سياسية معينة لإعادة اللاجئين، أو تدفع بقضيتهم للتغطية على مشاكلها الداخلية، إلا أن ذلك يجب ألا يسري في ظل الترحيل القسري.

اتفاقية عام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين

تعرّف الاتفاقية المقصود بكلمة “لاجئ”، وتجمل حقوق اللاجئ، بما في ذلك حقوقه من قبيل حرية العقيدة والتنقل من مكان إلى آخر، والحق فى الحصول على التعليم، ووثائق السفر، وإتاحة الفرصة للعمل، كما أنها تشدد على أهمية التزاماته/ التزاماتها تجاه الحكومة المضيفة.

وينص أحد الأحكام الرئيسة في هذه الاتفاقية على عدم جواز إعادة اللاجئين (والمصطلح القانوني هو حظر الطرد أو الرد) إلى بلد يخشى/ تخشى فيه من التعرض للاضطهاد، كما أنها تحدد الأشخاص أو مجموعات الأشخاص الذين لا تشملهم هذه الاتفاقية.

المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين

إثبات الملكيات

أكد مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” أهمية احتفاظ الأشخاص بالأوراق الثبوتية لممتلكاتهم من أجل عودتهم إليها بعد عمليات الترحيل.

ولكن ما حدث في الحالة السورية أن كثيرًا من الأشخاص لم يكن لديهم الوقت الكافي، أو درجة الوعي الكافية لأهمية أخذ الأوراق الثبوتية معهم، أو أنهم كانوا معرضين للنزوح مرات عدة ففقدوا أوراق ملكيتهم.

وأشار إلى أن الاحتفاظ بالأوراق الثبوتية يعتبر من القضايا المهمة جدًا التي يجب أن يأخذها المرحّلون بعين الاعتبار، إذ إن إثبات الملكية ليس بالأمر السهل بعد تسع سنوات من الحرب وحالات النزوح الكثيرة التي حدثت خلالها، خاصة في ظل وجود حرب خفية هدفها التغيير الديموغرافي من وراء عمليات التهجير القسري.

آليات المحاسبة

أوضح الأحمد أن المحاسبة في جريمة التهجير القسري تتشابه خطواتها مع أي انتهاك آخر، إذ يجب بداية إثبات وجود عملية تشريد قسري أو إخلاء بشكل غير شرعي، ومن ثم التأكد من أنها استهدفت سكانًا مدنيين على نطاق واسع، ليتم تصنيفها كجريمة ضد الإنسانية.

حالات التهجير القسري في سوريا يمكن اعتبارها جرائم ضد الإنسانية بشكل قطعي، وفقًا للأحمد، كما يمكن اعتبار حالات معينة لاحقًا تطهيرًا عرقيًا، ولكن لم يتم استخدام هذا المصطلح بعد بهذا الشكل.

أما فيما يتعلق بموضوع ملاحقة المجرمين، فهو بحاجة إلى إثبات وجمع الأدلة، ليتم بعدها النظر في الولايات القضائية التي يمكن أن تتعامل مع هذه القضايا، لعدم وجود محاكم مختصة حاليًا في سوريا، ولكن من الممكن الاستفادة من تجربة ميانمار بهذا الخصوص.

في حادثة اعتُبرت أنها نقلة نوعية على طريق تحقيق العدالة في سوريا، تقدم “مركز جيرنيكا للعدالة الدولية” بمذكرة للادعاء العام في محكمة الجنايات الدولية، طالب فيها بالنظر في ارتكاب “جرائم ضد الإنسانية” في سوريا.

وفي بيان أصدره المركز، في 4 من آذار 2019، قال إن على محكمة الجنايات الدولية التحقيق في تعرض مليون مدني سوري للتهجير القسري من سوريا إلى الأردن، وذلك نتيجة تعرضهم للقصف والتعذيب من قبل أطراف النزاع، بما فيها النظام السوري.

واعتبرت المذكرة أن مليون سوري في محافظة درعا، جنوبي سوريا، تعرضوا لهجمات “منهجية واسعة النطاق”، بما فيها الاستهداف الجوي المتعمد ضد المدنيين والأحياء السكنية، الذي طال المدارس والمستشفيات أيضًا، فضلًا عن استخدام أسلحة محرمة دوليًا واتباع سياسة الاعتقال التعسفي والإعدام الميداني، ما دفع مليون مدني في المحافظة للجوء إلى الأردن.

ورغم أن المذكرة حمّلت النظام السوري المسؤولية الأكبر عن تلك الانتهاكات، وخصت بالذكر رئيس النظام، بشار الأسد، طالبت أيضًا محكمة الجنايات الدولية بمحاسبة أطراف النزاع المسؤولين عن هذه الأفعال وعرضهم على العدالة لإنهاء حالة الإفلات من العقاب.

وبما أن سوريا ليست طرفًا في نظام روما الأساسي، لا تملك محكمة الجنايات الدولية صلاحيات النظر بجرائم وانتهاكات ارتُكبت داخل الأراضي السورية، ما أدى إلى إفلات كثير من الأفراد وأطراف النزاع من العقاب، ودفع بعض المراكز الحقوقية إلى المطالبة بالنظر في انتهاكات طالت سوريين في دول تعتبر طرفًا في نظام روما.

واستشهد “مركز جيرنيكا”، بتهجير الروهينغيا من ميانمار إلى بنغلادش، إذ أعلنت محكمة الجنايات الدولية، في أيلول من عام 2019، أنها بدأت تحقيقًا أوليًا فيما يتعلق بترحيل حكومة ميانمار للأقلية الروهينغية المسلمة إلى بنغلادش.

وبنغلادش المجاورة لميانمار هي دولة طرف في محكمة الجنايات، ما أتاح للأخيرة صلاحيات النظر في ارتكاب “جرائم ضد الإنسانية” بحق الروهينغيا.



English version of the article

مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة