ثورتا العراق ولبنان وفرضيات بائدة

tag icon ع ع ع

وليد الآغا

شكّلت الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي عام 2011 نقلة نوعية في مسار وعي شعوب المنطقة، التي اختزلت أنظمتها مشاكل الدول بالتفرقة وآمنت بالوحدة فقط كحل سحري للخلاص من الفساد والهوان والظلم والجهل، طيلة عقود كانت فيه النزعة القومية سائدة ورائجة، رغم وجود مثال صارخ دل بشكل مباشر بأنه لا يشترط أن تكون الوحدة نعمة وإنما نقمة وخطأ تاريخيًا ما زلنا ندفع ثمنه حتى الآن، وهنا الحديث عن الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958، والتي كانت كارثية خاصة على سوريا لتنقل فيها من بلد متعدد الأحزاب تمارس فيه السياسة بديمقراطية بنسبة جيدة إلى بلد مسلوب من قبل حزب حاكم واحد.

وعندما يأست الشعوب من الأحلام الوردية للقومية العربية، اتجه قسم كبير من أفرادها إلى الخيار الديني تزامنًا مع ما سمي بالصحوة الإسلامية، التي بدأت بذورها مطلع القرن العشرين لتصل إلى أوجها خلال العقود القليلة الماضية، وصولًا للربيع العربي، والذي كان اختبارًا جيدًا للإسلام السياسي ليثبت فشله بدرجة كبيرة، إذ كانت سوريا مرة أخرى المثال الأوضح على ذلك، مع تصدر الإسلاميين لفترات طويلة من الثورة العمل العسكري آخذين به نحو الهاوية، وهنا لا نُرجع أسباب الفشل بمجملها لهم، فالأنظمة المستبدة هي العائق الأكبر في نهاية المطاف بوجه التحرر، ولكنهم (الإسلاميون) كانوا خير عون لهذه الأنظمة بشكل غير مباشر وبحسن نية ساذجة لا تغتفر لتثبيت أركان حكمها.

ورغم كل ذلك، نقلت الموجة الأولى من الثورات وعي الشعوب إلى مرحلة جديدة، مرحلة شكلت قطيعة مع سنوات تصدرت فيها شعارات “المقاومة والممانعة” ليتضح زيفها وكذب أصحابها من أنظمة وتنظيمات، وهنا أيضًا كانت سوريا مسرحًا لكشف هذا الزيف، فكان نظام “المقاومة والممانعة” الأكثر دموية ووحشية مع شعبه مقارنة بالأنظمة العربية الأخرى.

وكما فاجئتنا الثورات عند انطلاقها، وأظهرت شعوبًا تتوق للحرية وتسعى لنهضة أوطانها مهما غلى ثمن ذلك، لا كما ساد عنها لعقود بأن الخنوع والرضوخ للذل والاستبداد بات واقعًا حتميًا لن يتغير، فاجأتنا أيضًا شعوب الموجة الثانية من الربيع العربي (الجزائر، والسودان، والعراق، ولبنان)، ليخرج الجمر من تحت الرماد، في وقت ظن الجميع فيه بأن أرباب الثورات المضادة حققوا مرادهم بوأد الثورات والانقلاب عليها -باستثناء تونس التي كسرت المعادلة- ونجحوا بإرهاب بقية الدول من فكرة الثورة وربطها بالدمار والخراب والتشرّد، كما روجوا لذلك كثيرًا من خلال المثال السوري مرة أخرى.

في الحقيقة لم تكن المفاجأة مقتصرة على خروج شعوب هذه الدول بتظاهرات واحتجاجات والمطالبة بإسقاط أنظمتها، وإنما بكسر معتقدات ونقض فرضيات تحولت لنظريات وحقائق لا مساس بها لدى كثيرين، بل وبينت عليها أفكار وأيديولوجيات حتى، خاصة فيما يتعلق بثورتي العراق ولبنان.

قضيتان مهمتان وخطيرتان أضاءتا عليهما هاتان الثورتان وكشفتا زيف مروجيهما: الأولى مظلومية الإسلاميين (سنة، وشيعة) بأن المؤامرات تُحاك عليهم وحدهم وادعاء كل طرف بأنه هو حامل راية “الثورة/المقاومة” والطرف الآخر عميل يتبع أجندات خارجية، وهذا ما كشفته ثورة العراق بكل وضوح خاصة عبر هتاف متظاهريها الأثير “إخوان سنة وشيعة.. هذا الوطن ما نبيعه”، حيث كان الشيعة طرفًا أساسيًا وكبيرًا في هذه الاحتجاجات على السلطة الفاسدة المسلوبة من قبل طهران، فإن كانت الثورات حكرًا على المسلمين السنة لمَ يثور الشيعة في العراق على سلطة تتبع نظامًا دينيًا من نفس طائفتهم؟!

تكفلت ثورة لبنان بإبطال المعتقد السائد الثاني بأن أسلمة الثورات هو السبب الأهم والوحيد لعدم استجابة الأنظمة لمطالب شعوبها بالتحرر والعدالة والديمقراطية، فنحن نرى مثالًا أبعد ما يكون عن الأسلمة بسبب طبيعة المجتمع اللبناني المتنوع والملون والمنفتح، ومع ذلك فإن نظام المحاصصة الطائفي المسيطر على البلد منذ عقود لم يُخِل بتقاليد الأنظمة العربية المتوارثة بالتعنت ورفض الاستجابة لتطلعات الشعوب على اختلاف الوسائل وآليات هذا التعنت، فرغم استقالة رئيس الحكومة، سعد الحريري، تتعدى مطالب اللبنانيين تغيير حكومة والإتيان بأخرى تخرج من منظومة الفساد نفسها، فالمتظاهرون يدركون تمامًا أن بداية التغيير لا تكون إلا باقتلاع هذه المنظومة من جذروها ،وهذا ما يحتاج لنفس طويل، إذا أخذنا بالحسبان وضع لبنان في المنطقة وتدخل الدول المحيطة به إقليميًا بكل مفاصل حياته السياسية.

جددت ثورات الموجة الثانية للربيع العربي الآمال في نفوس شعوب الموجة الأولى، فظهر التضامن والتأييد والتشجيع في سوريا ومصر واليمن وليبيا وتونس للجزائريين والسودانيين والعراقيين واللبنانيين، فالهموم واحدة والموجوعون هم أكثر من يشعرون بآلام غيرهم.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة