خصخصة الدولة والمجتمع

tag icon ع ع ع

إبراهيم العلوش

استمر حزب البعث باحتكار القيادة للدولة والمجتمع السوري بموجب الدستور عقودًا طويلة، وقد تطور هذا الاحتكار إلى غياب السياسة عن المجتمع، وغيابها عن رجال النظام أيضًا، ما أدى إلى خصخصة الدولة وتملكها من قبل عائلة الأسد ومن ثم تعريضها للتدمير وللاحتلال.

قيادة الدولة والمجتمع بدأت عمليًا مع استيلاء حزب البعث على الحكم في عام 1963، وقد تم إنشاء تنظيمات وسيطة لقيادة الدولة والمجتمع السوريين، منها اتحاد العمال والفلاحين، ومنظمة الطلائع والشبيبة، والجبهة الوطنية التقدمية، للسيطرة على الحياة السياسية واليومية للمواطنين السوريين، وتم تشكيل سرايا الدفاع، والوحدات الخاصة، والحرس الجمهوري، والفرقة الرابعة، للسيطرة على الجيش والتحكم به بمعونة أعداد كبيرة من المسؤولين الأمنيين، الذين يفوقون قادة القطع العسكرية نفوذًا وسطوة.

أما الأمن العسكري، ولاحقًا الأمن الجوي، فقد تم توسيعهما للسيطرة على القطاعين المدني والعسكري وجعلهما منصة التحكم بالدولة وبالمجتمع، وقد انتشرت مفارز هذه المخابرات ومخبريها في كل الأنحاء السورية، وبلغ عدد موظفي هذين الجهازين وتوابعهما حوالي مئة ألف مخبر وجلاد، ناهيك عن المتعاونين مع هذين الجهازين من خارج الملاك الإداري، وهم يساقون بالإكراه أو بالترغيب أو بالتربية البعثية المبنية على مبدأ “أنا بعث وليمت أعداؤه”، والتي تطورت لاحقًا لتصبح “الأسد أو نحرق البلد”!

بعد تعاظم الهيمنة الأمنية والعسكرية لنظام الأسد على المجتمع السوري، وبعد التوصل إلى حالة الموات السياسي شبه التامة، وتغلغل الغرائز الطائفية والعشائرية التي كان يتم تخصيبها في أقبية المخابرات كسلاح تدمير شامل للمجتمع السوري، تم تثبيت الأسد ككاهن أول لهذه التنظيمات المخابراتية، واعتبار عائلة الأسد هي الرابط لوحدة هذه الأجهزة المترامية الأطراف والأعداد والنفوذ، وابتدأ عصر جديد في الأسدية، هو عصر خصخصة الدولة والمجتمع وتملكهما من قبل عائلة الأسد.

ابتدأت المرحلة الجديدة بتخصيص شبكة الهاتف الخلوي لعائلة مخلوف، وكانت تدر المليارات، بالإضافة إلى قدرتها على التجسس على المواطنين ورصد كل تفاصيل حياتهم، وتمددت الخصخصة إلى البنوك والشركات المساهمة والإعلام، وكل تجليات القانون رقم 10، الذي ضمن الخروج من عباءة القطاع العام وثقل حركته وآليته، فالمركب الذي نضجت فيه الهيمنة على الدولة والمجتمع بدأ تحطيمه بالخصخصة وسن القوانين التي تضمن وبشكل مطلق مصالح عائلة الأسد وأعوانها من مسؤولين وتجار كبار وصغار، يدفعون قسرًا أو عن طيب خاطر نسبًا عالية من مكاسبهم للعائلة الحاكمة.

في آذار من عام 2011، ومنذ بداية الثورة السورية ونتيجة لخسارته ممارسة السياسة طوال العقود السابقة، لم يكن النظام قادرًا على محاورة المجتمع وتبادل المصالح معه، فغياب الوعي السياسي والممارسة السياسية الطبيعية في صفوف رجال النظام لصالح رجال المخابرات والجيش، أفقد النظام مرونة التعامل مع الصدمة الاجتماعية والسياسية التي فرضتها ثورة السوريين. وظل رجال النظام أسيري شعورهم الوهمي بامتلاك الدولة والمجتمع، ما مهد لتصرفهم العنيف والمدمر الذي خرّب البلاد وهجّر نصف السكان، ولاحقًا خسر رجال النظام السيطرة على البلاد لصالح دول الاحتلال التي استقدموها من أجل الحفاظ على وهم السيطرة المطلقة على السوريين.

اليوم ونتيجة هذه السياسات المبنية على ردود الفعل والانفعال الوحشي انتشرت خصخصة البلاد وتملك أطرافها من قبل جهات محلية ودولية، فطرطوس مثلًا خسرت ميناءها العسكري وميناءها المدني لصالح الروس، بالإضافة إلى خسارة عشرات الآلاف من أبنائها الذين تم سَوقهم إلى مهالك الحفاظ على عائلة الأسد. وميناء بانياس وميناء اللاذقية تقوم إيران بالاستيلاء عليهما لمشاركة الروس بالساحل السوري، ناهيك عن تخصيص قطاعات النفط والغاز والثروات الطبيعية. وحتى أجهزة المخابرات تمت تجزئتها وبيعها بالقطعة وبالفرع للروس والإيرانيين، والجيش تم تحويله إلى ميليشيات، مثل ميليشيات النمر الروسية وميليشيات الفرقة الرابعة الإيرانية، ومدن مثل دير الزور والميادين والبوكمال، تم تخصيصها للإيرانيين، والرقة والجزيرة تم تركها للبي كي كي وللأمريكيين، وحرب إدلب تم تضمينها للروس ولميليشيات التعفيش التي طال انتظارها، للاستيلاء على بيوت ومقتنيات أكثر من نصف مليون نازح تم تهجيرهم من بيوتهم حتى الآن.

النصوص الدستورية التي نصّبت البعث ومن ثم عائلة الأسد كقائدة للدولة والمجتمع، حرمت المجتمع السوري من ممارسة السياسة والقدرة على التنظيم الذاتي، فالسوريون اليوم ورغم كل ما ألم بهم، لا يستطيعون التجمع وتشكيل بنى سياسية تصمد بوجه النظام والاحتلال الأجنبي، وتجبر المجتمع الدولي على وقف القتل والتدمير اليوميين.

وغياب السياسة أفقد النظام الحاكم الأهلية السياسية، والقدرة على تطوير أدواته في المشاركة المجتمعية، ولا تجد أي ممارسة للسياسة في دوائر النظام إلا في وزارة الخارجية وإن كان ذلك بشكل بائس يمثله وليد المعلم عندما محا أوروبا من الخارطة، لأن المجتمع الدولي يجب التعامل معه بالسياسة، إذ لا يمكن السيطرة عليه بالمخابرات، ولا يمكن تهديده بالأحكام العرفية، أو باعتقال المسؤولين الدوليين، أو أخذ عوائلهم رهائن كما تفعل أجهزة المخابرات مع المواطنين السوريين.

والكارثة الأكبر الناتجة اليوم هي خصخصة الحروب والأرض السورية لصالح دول الاحتلال ولصالح ميليشياتها المتعددة. ولن تتوقف هذه الانهيارات ما لم يتم الخلاص من تطويب سوريا باسم نظام الأسد، وإعادة السياسة للمجتمع وللدولة السورية، وتشكيل ميثاق حكم وطني عادل يحرر سوريا من الاحتلالات المتعددة، ويشرع بإعادة بنائها كوطن حر ولكل السوريين.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة