كركوز يعلّم الأطفال في إدلب
نبيل محمد
هناك دائمًا في ظل الحرب، أو الظروف الاستثنائية طويلة الأمد التي تنتج عنها، والتي تجعل الرصاص حالة طبيعية تتكرر بين حين وآخر، وتذكر الناس بحضور الحرب كتفصيل لازم في حياتهم، غرفة صغيرة مغلقة بعيدة نسبيًا عن تفاصيل الحياة اليومية للمنطقة المحكومة بالسلاح، تضم عازفًا أو رسامًا أو ممثلًا، يحاول خلق زاوية حياة مختلفة، ويحرّض خيال ذاته وخيال متابعيه على رفض الواقع والتفكير بالحياة لا الموت. هذه الغرفة كانت في كل الحروب مساحة خاصة تخلّد نفسها في التاريخ، وتعرف كيفية تكوين الأثر بالمحيط المحبَط المعذَّب الهارب إليها. في إحدى غرف إدلب الكثيرة الهاربة من واقع المنطقة، هناك شخصيات خيال ظل تتحرك، وجمهور من الأطفال غالبًا ومن الكبار أحيانًا يستمع إلى صوتي كركوز وعِواظ، في رحلة مسرحية تاريخية تجدد ما كان فنًا عريقًا قتله الإهمال سابقًا، واعتقال المحافظين عليه حاليًا.
طالما مثّل كركوز وعِواظ في فترة مبكرة من القرن العشرين وقبله شخصيات نمطية تقليدية سورية، تناقش الواقع السياسي والاقتصادي، وتسخر من كل شيء، وتتحرك بشكل كوميدي أمام حشد من المتابعين في المقاهي، لتكون في ذاكرة الأجيال اللاحقة موضوعًا تتناقله الكتب وألسنة أبناء وأحفاد من عاصروه، ثم ليغدو نمطًا فنيًا يمكن لأي سوري الحديث عنه، إلا أن قلّةً من الناس حضروه مباشرة، إذ لم يعد هناك من يهتم بتحريك تلك الشخصيات الكرتونية يدويًا في الظل.
في سراقب تعود شخصيتا كركوز وعِواظ إلى الوجود، وتحاوران الأطفال، وتدمجان ما بين كلاسيكية مسرح خيال الظل، وانفتاح المسرح التفاعلي، فتوجّهان الأسئلة، وتشاركان الأطفال في تفكيرهم ومشاكلهم وحياتهم اليومية، ومدارسهم ووظائفهم وأقلامهم الملونة، حيث ينشط الفنان وليد أبو راشد في مجال مسرح الدمى ومسرح خيال الظل، فيلجأ إلى صالات وغرف صغيرة تضم مجموعة من أطفال المنطقة، ويبدأ بتقديم العروض لهم، التي تبدو في أوضح تجلياتها حالة مدرسية من نوع مختلف، فيعلمهم الأحرف والأرقام، والقراءة والكتابة، إنما من خلال شخصيات صديقة لهم هي كركوز وعواظ، الشخصيات التي كانت صديقة لأجدادنا في يوم من الأيام، والتي طالما حاربت الفقر والظلم عبر حوارات كوميدية بسيطة، وطالما كانت فنًا ملتصقًا بالشارع مسرحه الحياة اليومية والمقاهي.
ما يقدمه خيال الظل في سراقب ليس فقط للأطفال، بل توجهت العروض أيضًا للكبار وآخرها ما عرض كهدية للمخايل (محرك شخصيات خيال الظل) الفنان المعتقل زكي كورديللو والذي كان قد حمل على عاتقه منذ مطلع التسعينيات مهمة صون تراث مسرح خيال الظل والحفاظ عليه، والذي غُيّب في سجون النظام السوري منذ آب 2011. ففي العرض طوّر المخايلون (فرقة مياس) شخصيتي كركوز وعزاط لتواكبا الثنائيات السورية، الظهور والاختفاء، السجن والحرية، الهروب والبقاء، الخارج والداخل، الحياة والموت، وتوجها صوتًا مسرحيًا تراثيًا من خارج السجون إلى من هم في السجون، عرض تمّ تجريبه في سراقب وفي بيروت تحضيرًا لعرض أساسي في شهر آب المقبل.
يمكن لشخصيات خيال الظل أن تحارب على شاشة بسيطة قليلة العرض بتقنيات إضاءة بسيطة وتكوينات كرتونية غير معقدة، يمكنها أن تحارب قلة الدعم، وندرة وجودة صالات كبرى للعروض الفنية، وصعوبة التنقل، وانعدام وجود مسرح قادر على حشد الجمهور في مكان واحد.. كل ذلك يمكن لخيال الظل أن يحاربه اليوم في إدلب وفق ما يتبدى من مشروع وليد أبو راشد وزملائه من عاملين في هذا المجال، بل يمكن أن يتم بالفعل إحياء تلك الشخصيات التي ولدت في رحم مرحلة زمنية قاسية، مفرداتها الحصار والظلم والقهر والحرب، فخلّدت أفكارها وأصواتها ومرونة حركتها، وعادت اليوم لتظهر أمام جمهور بحاجة إلى نافذة واحدة لا تطل على مقبرة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :