غضب عابر من أجل إدلب

tag icon ع ع ع

عمر قدور – المدن

تنتشر مشاعر الغضب على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل سوريي الثورة، الغضب الذي ينبغي أن يشعر به أي إنسان يرى تلك المشاهد الفظيعة لأناس ناجين من القصف الوحشي أو مقتولين به. وكما نعلم لا يحظى القصف الحالي على ريفي حماة وإدلب بتغطية إعلامية، ولا باهتمام دولي، وكأن هناك اتفاقاً على تمرير المقتلة الجديدة كتفصيل لا قيمة له في مقتلة أكبر مرّت بتسامح قلّ نظيره.

لا جديد أو غير متوقع في ما يحصل، وحتى هذا القول لا جديد فيه، بحيث يبدو الصمت مغرياً ومشرّفاً أكثر من فائض المرارة والثرثرة اللتين لا تقدّمان ولو عزاء بسيطاً لأحد. الغضب الذي نراه اليوم سبق أن عشناه من قبل عندما مارست قوات الأسد وحلفاؤها من إيرانيين وروس أقصى درجات الوحشية، في حلب وفي الغوطة وقبلهما في حمص والقصير ويبرود… إلخ. كان الغضب في كل مرة يخمد في انتظار مناسبة مشابهة، ليتجدد وكأنه يشتعل لأول مرة، وكأننا لأول مرة أمام خذلان المجتمع الدولي أو خذلان داعم أو ضامن.

من فائض الثرثرة أيضاً القولُ اليوم أن الغضب من أجل إدلب عابر، إذ نعلم بحكم التجربة أننا اعتدنا على تقبّل الهزائم كقدر. سوف يؤجج غضبنا، ويساعد على إخماده لاحقاً، ما في جعبتنا من أسباب الهزيمة، فنحن شبه عزّل في مواجهة عدو متوحش امتلك لعقود مقدرات البلد، وأتته نجدة الخارج بعد الثورة كلما لاح ضعفه أو لوّح به. عندما يجتمع الغضب واليأس معاً فهذه وصفة شافية للعجز، ولإعلان الإفلاس التام وتبرئة النفس من المسؤولية سابقاً ولاحقاً. ثمة بيننا من يرمي المسؤولية كاملة على الظروف الخارجية التي كانت ضدنا، وثمة من يرمي المسؤولية على سوريين وقفوا ضد الثورة، وثمة أيضاً من يرميها على معارضة كانت أشد بؤساً من المقتلة.

من بين شقوق مجمل الظروف، ثمة مساحات كافية ليلقي كل طرف مسؤولية الهزيمة عنه، ولم نشهد حتى الآن شخصاً واحداً يستقيل معترفاً بمسؤوليته ولو بنسبة ضئيلة من الخطأ البشري المعتاد. لم تصل الواقعية بأحد إلى إعلان انسحابه بداعي التقاعد كما يحدث في كل التجارب المحترمة، وخلال ثماني سنوات من التقلبات والتغيرات لم يعلن مسؤول أو هيئة انقضاء مرحلة بما لها وعليها واستهلال أخرى بسياسات واستراتيجيات ملائمة لها.

إذا كانت المظلومية وصفة سحرية للتقاعس فهي بلا شك ناجعة تماماً لدينا، وهي ما يجعل من كل غضب رافداً جديداً لها، لتتضخم على حساب الإحساس بالمسؤولية. الآلاف، على سبيل المثال، يكررون منذ سنوات القول بأن هذه المعارضة غير جديرة بتمثيل الثورة، وخلال تلك السنوات لم يفعل أولئك الآلاف شيئاً سوى تكرار أقوالهم، وكأنهم ينتظرون معجزة من السماء تُسقط هيئات معارضة ومعارضين أفضل مما هو موجود. خيار حرب المدن ظهرت كلفته الباهظة منذ رفض الخارج، بما فيها دول ممولة له، منح الفصائل وسائط دفاع جوي. مع ذلك لم تحدث مراجعة له لاختيار سبل مواجهة أنجع، بما فيها المواجهة العسكرية، واقتصر السجال على فولكلور رافضي العسكرة الذين ليس لديهم بديل واقعي لحماية الثورة ومؤيديها غير المؤثرين فيها أو في مساراتها.

أحياناً كان الصمت والسلبية بذريعة الحفاظ على وحدة صفٍّ لم يكن موحداً أصلاً، فلا الفصائل العسكرية موحدة بهياكلها أو مشاربها، ولا هيئات المعارضة موحدة خلف رؤية سياسية. تلك الحقائق، بل أكثر منها كان معروفاً بدقة أشد مما نعرفه لدى الخارج الذي لا يُراد إضعاف المعارضة أمامه، وكأنما لم يكن له يد في تشكيلها على هذا النحو، وفي إضعافها على نحو متواصل.

إذا كان واحداً من أهم أهداف الثورة امتلاك السياسة التي حُرم منها السوريون طوال حكم البعث والأسدية فإن السياسة لم تُمارس قطعاً بالمعنى المطلوب بعد القضاء على طور المظاهرات، إلا إذا اعتبرنا خروج ما كان يُقال في الغرف المغلقة إلى العلن على وسائل التواصل الاجتماعي نوعاً من السياسة. لا شك في أننا تعرضنا إلى عملية تحطيم فظيعة جداً بالمعنى المكاني والاجتماعي، الأمر الذي يغفر للشرائح الأضعف والأكثر تضرراً، لكنه لا يعفي شرائح أخرى من المسؤولية الفردية والجماعية، ولا يعفي خاصة أحداً من الذين يرون مشروع إسقاط الأسدية مستمراً رغم تراكم الهزائم.

نعم، لقد تعرضنا لأسوأ ما يمكن تخيله في القرن الحادي والعشرين، من صدمة بالإنسانية جمعاء، ومن صدمات بسوريين شاركوا وحرضوا على الإبادة، ومن تحويل سوريا بأكملها إلى ساحة لتصفية حسابات إقليمية ودولية. لقد أُصبنا بكل ما كنا نتوقع أن البشرية تجاوزته، وظننا باستحالة تكراره، إلا أن توقعاتنا لا يجوز أن تخيب الآن “في إدلب مثلاً” بعدما خابت مرات ومرات. لا ينبغي على الأقل أن نكون مغفّلين مراراً وتكراراً، القليل من الإحساس بالمسؤولية مشرّف أكثر من غفلة الذين انتظروا حدوث معجزة لم تحدث من قبل.

من حق الضحايا الذين لا قوة لهم على الإطلاق أن يغضبوا ذلك الغضب المجرد الذي لا ينتقص من كراماتهم، وأن يصبوه على العالم أجمع. أما الغضب الأوسع بمعناه النبيل فيقتضي إحساساً عالياً بالمسؤولية، إحساساً فردياً وجماعياً، يستطيع فيه الغاضب أن يحدق بعينين لا بعين واحدة، وإذا قال بالأولى: يا لعار البشرية. أن ينظر بالثانية إلى المرآة ويقول: يا لعارنا نحن؛ نحن الذين لم نفعل أفضل ما في وسعنا. ربما أيضاً نحتاج عيناً ثالثة بصيرة تقول: يا لعارنا جميعاً وأفراداً، ويا لغضبنا الكاذب والمنافق، إذا لم نفعل.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة