“شم الشعلة”.. إدمان يفتح النار على ظاهرة التشرد بدمشق

"شم الشعلة".. إدمان يفتح النار على ظاهرة التشرد بدمشق

camera iconأطفال يشمون أصابع الشعلة خلف قلعة دمشق - 23 تشرين الثاني 2018 (صفحة الناشط أمجد زريع في فيس بوك)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – رهام الأسعد

يجوبون شوارع دمشق بلا رقيب، حاملين أكياسًا ينفخون بداخلها الهواء، لا ليصنعوا منها بوالين تصدر “طقطقتها” أصواتًا تضحكهم، في لعبة أقرب ما تكون إلى عقل الطفولة، بل ليستنشقوا منها مادة “الشعلة”، التي أدمنوها وجعلوا منها ظاهرة “صادمة” تنشط في شوارع العاصمة (دمشق) وزوايا حدائقها.

ضجت مواقع التواصل الاجتماعي السورية بمقاطع فيديو، خلال الشهرين الماضيين، جاء وقعها صادمًا، تعود لأطفال أدمنوا مادة الغراء اللاصق (الشعلة)، بدا أثرها عليهم شبيهًا بتأثير المواد المخدرة والمنشطات.

“أنا ولد مشرد”، قالها الطفل، مردفًا، “أنا عسكري مشرد”، معبرًا عن حالة “اللاوعي” التي دخل بها نتيجة إدمانه على شم مادة “الشعلة”، ليعاود الطفل ذاته الظهور في مقطع فيديو آخر، تم تسريبه على “فيس بوك”، وإلى جانبه أولاد آخرون أدمنوا ما أدمنه، وجمعهم مستنقع التشرد في شوارع العاصمة دون أب أو أم.

العبارة التي قالها الطفل المنحدر من غوطة دمشق (أنا ولد مشرد)، اختزل بها واقعًا “مرًا” فرضته سنوات من التهجير والنزوح في سوريا، مخلفة آثارًا جسدية ونفسية طحنت بين أنيابها الصغير قبل الكبير، مع بلوغ عدد النازحين في سوريا سبعة ملايين، نصفهم من الأطفال.

“أطفال الشعلة”، إن صحت تسميتهم كذلك، لفتوا الأنظار إلى خطورة ما لا تحمد عواقبه، حين أشهروا إدمانهم على العلن وانتشروا في شوارع دمشق وعلى مرأى العامة.

حتى اليوم، ورغم ظهوره المتكرر، لم تنتبه السلطات المعنية لأمر الطفل، الذي لم يبلغ عشرة أعوام من عمره، كما أن قرارًا بمنع بيع مادة الشعلة للأطفال لم يصدر بعد، وسط مطالب باتخاذ إجراءات مماثلة في أقرب وقت، لكبح جماح تلك “اللعبة” التي استهوت فضول مشردين.

كيف غيّبت الشعلة عقولهم؟

تساؤلات عدة فرضتها تلك الظاهرة، حديثة العهد على المجتمع السوري، حول تأثير مادة “الشعلة” على عقول الأطفال، وكيف يمكن للاصق متوفر في كل منزل أن يحدث تلك التأثيرات، تمامًا كالمخدرات.

طبيب الأطفال السوري المقيم في لبنان، أكرم خولاني، يقول لعنب بلدي إن مادة الغراء اللاصق تحوي مواد كيماوية طيّارة، تنتمي إلى مجموعة من المذيبات العضوية، تلك المواد تسبب تأثيرات عصبية مباشرة، من بينها الشعور بالفرح والنشوة واللامبالاة.

تلك التأثيرات، التي تستمر مدة زمنية تتراوح بين نصف ساعة إلى ساعة، تدفع الطفل، وحتى البالغ، إلى تكرار عملية الشم بعد زوال شعوره بالنشوة، ما يعني أن إدمان مادة الغراء هو إدمان نفسي أكثر ما هو كيماوي، بحسب الطبيب.

أما عن التأثيرات الصحية على المدى البعيد، فيقول مأمون إن استمرار الطفل بشم مادة “الشعلة” لفترة طويلة قد يسبب أضرارًا في الجهاز التنفسي، كون المادة تحوي مواد “مخرشة”، قد تسبب تخرش الأغطية المخاطية في الرئتين وقصبات الصدر، بالإضافة إلى احتوائها على مواد قد تسبب سرطان الرئة، في حال طالت مدة الإدمان.

ويبقى علاج ظاهرة شم “الشعلة” أمرًا غير ملموس حتى اللحظة، مع غياب الضوابط والرقابة، إذ أوضح الطبيب أكرم خولاني، أن علاج هذا النوع من الإدمان يتم على ثلاث مراحل، أبرزها التعامل مع السبب الذي أوصل الأطفال إلى تلك المرحلة، والثاني علاج “سلوكي معرفي” يتم من خلاله توعية الأطفال إلى خطورة الأمر.

في حين يتمثل العلاج الدوائي بإعطاء الأطفال أدوية مهدئة، تعمل على تهدئة أعصاب المدمنين عند غياب المادة عنهم، ويتم إيقاف الأدوية بشكل تدريجي لحين تخلصهم من الإدمان.

انحراف أم معاناة

من منطلق نفسي، لا بد من نقاش ظاهرة إدمان شم “الشعلة” لدى الأطفال المشردين في دمشق، طالما التصقت بهم صفة “التشرد”، التي تخفي وراءها أزمات اجتماعية وربما اضطرابات وضغوط نفسية.

الاختصاصي في علم نفس الأطفال أحمد شيخاني، يرى أن انتشار تلك الظاهرة ليس أمرًا عابرًا أو مجرد فضول دفع بالأطفال نحو تجريب مثل هذا السلوك كأحد مظاهر الانحراف، مشيرًا إلى أنها مشكلة معقدة قد تتفاقم في حال لم يتم علاجها من جذورها.

وأضاف شيخاني في حديث لعنب بلدي أنه من الصعب تحديد دوافع الأطفال لمثل هذا النوع من الإدمان، طالما أننا لم نعرف المشكلات التي تعرضوا لها والظروف الاجتماعية التي خرجوا منها.

لكن ظاهر المشكلة، بحسب شيخاني، هو أن هؤلاء الأطفال دون أهل ومتسربون من أجواء وضوابط العائلة، لسبب أو لآخر، بالإضافة إلى بعدهم عن مقاعد الدراسة “وهو بحد ذاته أزمة”، مشيرًا إلى أن الأطفال قد يكونون واقعين تحت أثر صدمات نفسية نتيجة إساءة أو عنف جسدي وجنسي دفعهم للجوء إلى إدمان الشعلة للتكيف مع الظروف الجديدة.

وأضاف، “التشرد بحد ذاته يسهّل عملية الوصول لهذا النوع من المواد والإدمان عليها، خاصة مع غياب الرقابة والسلطات”.

واعتبر الاختصاصي النفسي أن حل المشكلة ليس بتوفير العلاج لهذه الشريحة من الأطفال، بل يحتاج تدخلًا مجتمعيًا ومؤسساتيًا مدروسًا لعلاج مسببات التشرد ودمج المشردين بالمجتمع، ثم يأتي العلاج في مرحلة لاحقة.

وختم “للأسف لا يوجد في سوريا نموذج ناجح لجمع المشردين أو الأيتام أو مجهولي النسب في إطار مؤسساتي يضم كوادر مؤهلة”.

وتغيب الأرقام الرسمية حول عدد الأطفال المشردين في سوريا، إلا أن تبعات الحرب خلفت أرقامًا عدة عن آثارها، ومنها بلوغ عدد المتسربين من المدارس داخل سوريا مليون طفل، بالإضافة إلى نزوح ما لا يقل عن 3.5 مليون طفل سوري من منازلهم.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة