tag icon ع ع ع

ضياء عودة | نور عبد النور | أحمد جمال | حلا إبراهيم

في العام 1984 شهدت سوريا إحدى أكبر عمليات “التعفيش” في تاريخها.. لم يكن الهدف منزلًا أو مستودعًا أو معملًا، لقد كان المصرف المركزي بأكمله.

“عفّش” رفعت الأسد محتويات مصرف سوريا المركزي إثر الخلاف الشهير بينه وبين شقيقه، حافظ الأسد، قبل أن يغادر إلى فرنسا، حيث بنى إمبراطوريته المالية على حساب جميع السوريين دفعة واحدة.

لم تكن عملية رفعت “سرقة”، تستوجب السرية ومحاولات الإخفاء، بل كانت “تعفيشًا” على المكشوف، وسطوًا لا يحتاج تبريرًا ولا إخفاءً، يسجّله التاريخ ويمضي، دون أي تحرك أو محاسبة.

قبل ذلك، مارست “سرايا الدفاع”، القوة العسكرية التي تزعمها رفعت الأسد، أوضح أشكال “التعفيش”، إذ مُنحت القوات أراضي عدّة على أطراف دمشق، تحوّلت إلى “مستعمرات عشوائية” بعد أن أفرغت من سكانها ونهبت ممتلكات المنازل القديمة فيها، كحيي “مزة 86″ و”مزة خزان”.

وتحفل فترة حكم حافظ الأسد بأشكال متنوعة للتعفيش، والذي استهدف أماكن مختلفة في سوريا ووصل إلى لبنان، حيث كانت عربات الجيش السوري حتى بداية العقد الماضي تخرج عبر الحدود محملة بالأدوات الكهربائية وأثاث المنازل.

“الشبيحة القدامى”، وهم “معفشو” سيارات “الشبح” من عناصر مسؤولي النظام، مارسوا أيضًا منذ سبعينيات القرن الماضي عمليات سرقة بقوة السلاح، ونفذوا عمليات سطو دون رادع قانوني، بل امتلكوا الضوء الأخضر لتنفيذ عمليات “التعفيش” على نطاق واسع.

ظلّت تلك الظاهرة حكرًا على “نظام الأسد” مدة 40 عامًا، لكنها أصبحت عُرفًا لدى القوى المتصارعة عقب اندلاع الثورة السورية، فمنذ عام 2012 تشاركت “الجيوش” والميليشيات والفصائل العسكرية المختلفة هوَس “التعفيش”، الذي انضم إلى وسوم الحرب في سوريا.

 

من ظاهرة إلى عُرف.. “التعفيش للجميع”

يعود مصطلح “التعفيش” إلى العام الثاني للثورة السورية (2012)، بعد تحولها من الحراك السلمي إلى العمل المسلح، حين انتهج النظام السوري سياسة قصف المدن ثم اجتياحها، ثم نهب ما بقي فيها من ممتلكات منقولة، لتغدو فيما بعد سياسة ممنهجة تخطت “المعنى اللغوي”، وباتت عُرفًا سائدًا ارتبط بالمعارك والعمليات العسكرية، حال الانتهاء منها.

وطغى الحديث عن “التعفيش” على مدار سبع سنوات مضت، وارتبطت الظاهرة بشكل أساسي بقوات الأسد والميليشيات المساندة لها، والتي كانت السباقة إلى ارتكاب عمليات السرقة والنهب إثر المعارك، وخاصة قوات “الدفاع الوطني”، التي اتبعت خططًا وطرقًا تم تطبيقها بشكل فوري بعد السيطرة على الأحياء والمدن.

لا يوجد أي مرادف لكلمة “تعفيش” في اللغة العربية، فهو مصطلح متعارف عليه بالعامية السورية، أساسه من عفش البيت (الأثاث المنزلي)، وكل ما يتصل به من تجهيزات وممتلكات ضمن المنازل والمحال التجارية والمصانع والمستودعات والبضائع.

“استراتيجية منظّمة”

لم تلصق تهمة “التعفيش” بالنظام السوري من فراغ، بل اعتمادًا على حوادث سرقات ونهب أقدم عليها جنود “الجيش السوري” في مدن سورية، وأطلقوا عليها هذا الاسم بأنفسهم.

محافظة حمص كانت أولى المناطق التي طبقت فيها عمليات “التعفيش”، بعد السيطرة على مدينة القصير ومحيطها في الريف الغربي، والتي عرفت سابقًا بوفرة الآليات الزراعية فيها، إضافة إلى الورشات وتوابعها، من موتورات لضخ المياه والشبكات اللازمة لسقاية المزروعات، لتخرج منها قوات الأسد بعد إكمال السيطرة عليها في 2013 بآلاف الدولارات، توزعت على شخصيات وميليشيات تنشط بشكل خاص في القرى الموالية للنظام غربي المدينة.

أشهر قليلة مرت، انتقل بعدها مشهد المعارك إلى حمص المدينة، والتي سيطر عليها النظام في عام 2014، متقدمًا أشواطًا كبيرة، سواء من الناحية العسكرية أو المالية المرتبطة بالسرقة التي طالت الأثاث المنزلي وكل ما يخص المنازل من التجهيزات الداخلية، كالتمديدات الكهربائية وشبكات المياه.

تطور الأمر عقب ذلك إلى فتح أسواق في المناطق الموالية للنظام لتصريف المسروقات، وعلى إثر التطورات السابقة تحول “التعفيش” من عملية عشوائية لمعظم عناصر قوات الأسد إلى ظاهرة مرتبطة بأشخاص نافذين غالبيتهم قادة ميليشيات رديفة، وقسمت عمليات السرقة إلى مراحل تتدرج بحسب نفوذ الأشخاص العاملين فيها.

وليس أهالي حمص من “عُفشت” منازلهم فقط، بل انسحب الأمر إلى مدينة داريا في ريف دمشق الغربي التي نهبت بأكملها، بالإضافة إلى أحياء حلب الشرقية والريف الغربي الكامل لمدينة دمشق، ومؤخرًا الغوطة الشرقية وخاصة مدينة حرستا، التي بدأت حوادث السرقة فيها بعد ساعات من خروج المقاتلين منها، وصولًا إلى بلدات وأحياء جنوبي دمشق.

وطوال السنوات الماضية، تغاضى النظام السوري عن مختلف عمليات السرقة و”التعفيش”، والتي وثقها عناصر قوات الأسد بتسجيلات مصورة وصور نشرت بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، كما سهلت حواجزه المنتشرة بشكل كبير مرور المسروقات، رغم الحجم الكبير الذي تشغله والآليات التي تحتاجه لنقلها.

ويعتبر معارضون أن تغاضي النظام عن الظاهرة يأتي كمكافأة لعناصره على الإنجازات العسكرية التي قدموها في السيطرة على المناطق، كما تعتبر حافزًا ماديًا يدفع “العسكري” للتوجه إلى الجبهة المقبلة دون أي تردد، طمعًا بالمسروقات و”العفش” الذي سيعود به.

في حين لم تنفصل ظاهرة “التعفيش” عن نية النظام السوري معاقبة معارضيه والمدنيين الذين خرجوا ضده، متجهًا إلى تكسير أي “أمل” لديهم بالعودة، وإيصال فكرة لهم بضرورة إضعافهم ورفع سوية مقاتليه.

فصائل من “الجيش الحر” عفشت عفرين

لا يمكن مقارنة السياسة التي اتبعها النظام السوري في عمليات السرقة بسوريا مع الأطراف الأخرى، ورغم انسحاب الظاهرة على أطراف النزاع الأخرى، لكنها كانت بدرجة أقل وعلى فترات متفاوتة.

منطقة عفرين كانت النموذج الأكثر وضوحًا لـ “التعفيش” الذي قامت به فصائل “الجيش الحر”، وعقب السيطرة عليها، في شباط الماضي، ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بصور وتسجيلات أظهرت عناصر من الفصائل العسكرية يقومون بعمليات سرقة في مدينة عفرين، بعد دخولها والسيطرة عليها بشكل كامل.

وتناقل الصور ناشطون من ريف حلب رافقوا المعارك، بالإضافة إلى وكالات عالمية بينها “فرانس برس”، والتي نشرت العشرات من الصور لعناصر يسرقون أثاثًا منزليًا ومحلات تجارية، إضافة إلى الدراجات النارية والجرارات الزراعية، ما أحدث غضبًا واسعًا، تطور إلى مطالبات بمحاسبة العناصر، باعتبار أن هذه الممارسات لا تختلف عن تجاوزات بقية القوى العسكرية في سوريا.

وكانت عنب بلدي تحدثت في وقت سابق مع الناطق باسم “الجيش الوطني”، محمد حمادين، وقال إن الأفعال التي انتشر الحديث عنها معروفة سابقًا، وفي حال دخول أي جيش لمنطقة ما، سترافقه “تجاوزات فردية” من قبل العناصر التابعين له.

مقاتلون في الجيش الحر يعفشون سيارات وأثاثًا من عفرين (AFP)

مقاتلون في الجيش الحر يعفشون سيارات وأثاثًا من عفرين (AFP)

“تعفيش الوحدات” بعيد عن الإعلام

اتهمت “وحدات حماية الشعب” (الكردية) المنضوية في “قوات سوريا الديمقراطية” بسرقة منازل أهالي مدينة الرقة بعد السيطرة الكاملة عليها، أواخر العام الماضي.

لم توثّق هذه السرقات كما هو الحال بالنسبة للنظام والمعارضة، وابتعدت “الوحدات” عن المشهد الإعلامي بشكل كامل، على خلاف النظام الذي اشتهر بممارساته من خلال الفيديوهات التي تنشر بين الفترة والأخرى.

لكن ناشطين وثقوا جزءًا من “التعفيش” في مناطق “الوحدات”، أبرزه تسجيل مصور نشر في تشرين الثاني 2017 أظهر شاحنات وعناصر من “قسد”، إلى جانب مستودع يحتوي كميات كبيرة من أسطوانات الغاز المنزلي في مدينة الرقة.

واتهم نائب رئيس المجلس المحلي لمحافظة الرقة، التابع للحكومة السورية المؤقتة، محمد حجازي، حينها “قسد” بنهب معدات المشافي العامة، ونقلها إلى شمال الرقة وإلى مدينة عين العرب (كوباني).
ووثقت شبكات عاملة في المنطقة الشرقية بينها “الرقة تذبح بصمت” حوادث “تعفيش” قامت بها “قسد”، بينها بيع محتويات المنطقة الصناعية في الرقة بمبلغ مليار ومئتي مليون ليرة سورية، وشملت قطع غيار السيارات والمعدات الصناعية والماكينات الموجودة فيها.

أشخاص يتنازعون على نهب مولدة كهربائية في مدينة الشدادي - 26 شباط 2016 (رويترز)

أشخاص يتنازعون على نهب مولدة كهربائية في مدينة الشدادي – 26 شباط 2016 (رويترز)

سكك قطار و”غنائم” في الشمال

“التعفيش” في محافظة إدلب في الشمال السوري كان له منحى آخر، ورغم اختلافه بجوهره عن الصورة العامة التي اتبعها النظام السوري وأطراف النزاع الأخرى، صُنف ضمن عمليات السرقة والنهب بهدف الحصول على مورد إضافي.

ومنذ سيطرة الفصائل الإسلامية على إدلب في عام 2015، وجهت لبعضها اتهامات بسرقة المؤسسات الخدمية التي وجدت سابقًا خلال سيطرة النظام السوري، ومنها المتحف الوطني وسط المدينة، بالإضافة إلى سكة القطار في الريف الغربي، والتي تولى أمرها “الحزب التركستاني” إلى جانب “هيئة تحرير الشام”.

ووثقت عنب بلدي في نيسان 2016، بيع مقتنيات محطة زيزون الحرارية، في سهل الغاب بريف حماة الغربي، في أسواق المنطقة، من قبل “التركستاني”.

ووفق المصادر، فإن “الحزب التركستاني” دعّم في وقت سابق جسر حلفايا بريف حماة الشمالي، بعد تضرره إثر قصف الطيران الحربي، باستخدام الحديد المفكك من السكك، كما استخدم الحديد في تدعيم جسر على أوتوستراد اللاذقية، كان مدمرًا بالكامل، وأصلح من قبل “التركستاني”.

وكانت أكثر عمليات “التعفيش” لفتًا في شباط الماضي، حين نشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي صورًا لبقايا طائرة مروحية (هليكوبتر) محملة على شاحنة في إدلب.

وبحسب معلومات متقاطعة حينها، فإن سيارات شحن كبيرة خرجت من مطار تفتناز، الذي تسيطر عليه “هيئة تحرير الشام”، محملة بقطع الطائرات وبقاياها ومتوجهة نحو مناطق النظام السوري.

وألمح البعض إلى أن “الهيئة” باعت بقايا الطائرات كخرداوات للنظام السوري، الأمر الذي أغضب ناشطين، كون هذه الطائرات كانت تقصف المدنيين.

ولم يقف الأمر على ما سبق، بل تبادلت الفصائل العسكرية الاستحواذ على العتاد العسكري من بعضها، خاصة خلال المواجهات الأخيرة التي دارت بين “حركة أحرار الشام” و”هيئة تحرير الشام”، إذ سيطرت الأخيرة على معسكر للأولى يحتوي دبابات وآليات عسكرية، وتم إدراجها تحت ما يسمى بـ “الغنائم”.

 

اعتراف رسمي

“عذر أقبح من ذنب”

ظلت ظاهرة “التعفيش” تطرح على مواقع التواصل الاجتماعي وفي أحاديث ناشطين معارضين، بعد كل سيطرة لقوات الأسد على مناطق معارضة جديدة، دون أي اعتراف أو تصريح من قبل النظام السوري، أو تحرك قانوني ضد السارقين.

لكن خلال الأشهر الماضية أخذت القضية منحى آخر، من خلال طرحها تحت قبة “مجلس الشعب” وتدخل روسيا على خط مكافحتها، ومعاقبة عناصر من قوات الأسد.

بداية الحديث عن الظاهرة رسميًا كانت على لسان رئيس النظام السوري، بشار الأسد، عندما اعترف بانتشار ظاهرة “التعفيش” في صفوف الميليشيات الرديفة لقواته، لا سيما عقب الأحداث التي شهدتها مدينة حلب أواخر العام 2016، وسرقة ونهب عشرات المنازل والمحال التجارية.

واعتبر الأسد خلال مقابلة مع صحيفة “الوطن”، المقربة من النظام، في كانون الثاني 2016، أن ظاهرة “التعفيش” تعتمد “على ضمير الأشخاص الموجودين في النسق الأول للمعارك”، حيث “لا يوجد رقيب، لا توجد شرطة، لا توجد مؤسسات رقابية، فإذا كان هذا الشخص فاسدًا فهو يسيء للمواطن، وإذا كان شخصًا ذا ضمير فهو يقوم بالعكس”.

وقال إن “هناك حالات ضُبطت على الرغم من صعوبة ضبطها في ظروف المعركة، حيث كانت تُضبط في الخطوط الخلفية عندما يتم القبض على شخص قام بالإساءة أو بالسرقة بشكل من الأشكال، هناك حالات تم إلقاء القبض عليها وأنا أعرفها بالتفصيل، ولكن هناك حالات أخرى لم تُضبط”.

ووجه الأسد، بحسب قوله، ضباطه والمعنيين بضرورة إنهاء هذه الحالة، مشيرًا إلى أن هناك إجراءات لمنع أي إساءة قد تحصل، كما أن المحاسبة قائمة حسب الإمكانات المتوفرة في كل مكان.

وخلال الأشهر الماضية تزايد الحديث عن الظاهرة من قبل وسائل إعلام ومواقع موالية للنظام السوري، إذ انتقد عضو مجلس الشعب، طريف قوطرش، في نيسان الماضي، الظاهرة وخاصة بعد تهجير سكان الغوطة الشرقية من منازلهم.

وأكد قوطرش أن حالات “التعفيش” ازدادت بعد دخول قوات الأسد حرستا، قائلًا “نرى مناظر سيئة جدًا على أوتوستراد دمشق- حمص من مبيع فرش وأشياء أخرى”.

حديث قوطرش لم يلق ردًا من قبل رئيس المجلس أو أعضائه، باعتباره، من وجهة نظر معارضين، تطرق إلى مسألة خارجة عن صلاحيات المجلس.

لكن الرد الصادم على الظاهرة كان في 26 من أيار الماضي، عندما ألقت الشرطة العسكرية الروسية القبض على مجموعة من العناصر التابعين لقوات الأسد بعد قيامهم بعملية سرقة في بلدة ببيلا، جنوب دمشق، وأجبرتهم على الانبطاح أرضًا.

الموقف لاقى غضبًا من قبل مؤيدي الأسد وردود فعل واسعة، الأمر الذي دفع وزارة الدفاع في حكومة النظام السوري إلى تبرير ما حصل بأن من ظهروا في الصور “هم ليسوا جنودًا من المؤسسة العسكرية على الإطلاق، ولا ينتمون إليها وهم مطلوبون للأجهزة الأمنية، وأسماؤهم معممة على جميع الحواجز منذ فترة”.

لكن صفحة “القناة المركزية لقاعدة حميميم العسكرية” أكدت أن القوات الروسية لا تسمح بحدوث انتهاكات في المناطق التي تم تحريرها بمشاركتها، و”قد تم إلقاء القبض على عناصر تابعين لإحدى الفرق القتالية البرية تنتهك القانون في مناطق جنوب العاصمة دمشق”.

كما شددت على أنه “سيتم التعامل بالقوة مع أي تمرد من قبل الأفراد المتورطين بانتهاك القانون ومن يساندهم في المناطق التي تم تحريرها بمشاركة من القوات الروسية”.

استطلاع رأي: القيادة السياسية في سوريا مسؤولة عن “التعفيش”

أجرت عنب بلدي استطلاعًا للرأي عبر موقعها الإلكتروني وصفحتها على موقع “فيس بوك”، لمعرفة آراء القراء حول المسؤولين عن انتشار عمليات “التعفيش” في سوريا.

وطرح الاستطلاع السؤال التالي: “برأيك.. من المسؤول عن عمليات “التعفيش” التي تعقب تهجير السكان وإخلاء المدن في سوريا؟”.

52٪ من المشاركين في الاستطلاع اعتبروا أن القيادة السياسية للنظام السوري هي المسؤولة عن عمليات “التعفيش”.

بينما رجّح 27٪ من المشاركين مسؤولية العناصر وأفراد الجيش والقوات الرديفة عن الأمر، واعتبر 21٪ منهم أن القادة الميدانيين هم أصحاب الأثر الأكبر في انتشار حالات “التعفيش”.

الفقر يفتح باب “التعفيش”

قبل اندلاع الثورة، انتشرت في سوريا أسواق لبيع المسروقات، سميت بأسواق “الحرامية”، وكانت تبيع الأثاث والأدوات المسروقة أو المستعملة، لكن أغلب السوريين كانوا يبتعدون عن شراء أي سلع من هذه الأسواق، من باب ديني وأخلاقي.

عقب الثورة، ساعد تردي الأوضاع الاقتصادية على فتح باب “التعفيش” على مصراعيه، سواء من حيث تنفيذ السرقة، أو تصريف المسروقات، كعملية تجارية رابحة للبائع الفقير ومرضية للمشتري الفقير.

ويعمد الكثير من عناصر النظام إلى اغتنام فرصة التقدم العسكري لسرقة محتويات المنازل في المنطقة المسيطر عليها، في مسعى لتحقيق بعض الكسب المادي، إذ يمكن أن يربح العسكري خمسة أو ستة أضعاف راتبه لشهر من عملية بيع واحدة.

ويبلغ راتب العسكري في قوات النظام 14 ألف ليرة سورية، يُضاف إليها عشرة آلاف ليرة إذا كان يخدم في قطعة قتالية ويزداد بعد دخوله الاحتفاظ ليصبح قرابة الـ 40 ألف ليرة، أي يتراوح بين (20 و100 دولار أمريكي).

وتقترب رواتب مقاتلي المعارضة من رواتب قوات الأسد، إذ تبلغ ما بين 40 و100 دولار في إدلب ودرعا، وترتفع أكثر لدى الفصائل المقاتلة في المناطق الشرقية.

وبذلك فإن المقاتل العادي لا يستطيع تأمين قوت يومه أو إعالة عائلته، إذ تحتاج العائلة السورية إلى 200 ألف ليرة سورية وسطيًا لتأمين احتياجاتها، أي خمسة أضعاف راتب المقاتل، وبالتالي فإن خيار السرقة يكون مطروحًا بشكل كبير، وتتم شرعنته بوصفه “غنيمة معركة”.

بالمقابل، يبلغ متوسط دخل المواطن السوري 40 ألف ليرة سورية، وهو مبلغ زهيد إذا ما قورن بالأسعار المرتفعة للسلع في الأسواق، وهو ما دفع الكثير من المواطنين إلى كسر حاجز شراء المسلتزمات المسروقة، على اعتبار أنّ سعرها لا يتجاوز ربع سعر الأجهزة الجديدة.

نهب أم غنائم حرب؟

مع ممارسة جميع الأطراف في سوريا لـ “التعفيش”، يعد النظام أبرز المتهمين بامتهانه على نطاق واسع، ضاربًا بعرض الحائط القوانين السورية التي من المفترض أن يطبقها عناصره قبل غيرهم، ومتجاهلًا القوانين الدولية التي تجرم السرقة في الحروب.

وعلى الرغم من أن قانون العقوبات السوري هو المطبق في حالة أخذ الممتلكات بغير حق، حاول الكثير ممن سرقت ممتلكاتهم وأموالهم الادعاء ضد عناصر أمن وموظفين حكوميين بتهمة “التعفيش” دون نتيجة.

“التعفيش” جريمة حرب في القانون الدولي

يوضح مدير البرنامج السوري للتطوير القانوني، إبراهيم علبي، لعنب بلدي، أن الكثير من الناس يجهلون أن “القانون الدولي الإنساني” هو المرجع للنظر في جرائم النهب التي تحدث أيام النزاعات، لأنهم يظنون أن “هذا القانون يتعلق بالقتال بين الأطراف المتحاربة فقط”.

وبحسب نظريات علم الجريمة، فالمجرم عندما يتكرر ارتكابه للجرم يعتاده ويصبح لديه سلوكًا سائدًا، وهذا ما حصل مع أولئك العناصر، عندما نزلوا إلى جبهات القتال.

فخلافًا لقاعدة السرقة السائدة وهي “أخذ ما خف حمله وغلا ثمنه”، دأبت قوات الأسد على تنظيف المنازل من محتوياتها بما فيها صنابير المياه، وأسلاك الكهرباء، وحتى سيراميك الحمامات، وظهر ذلك جليًا بعد تهجير سكان المناطق الثائرة مثل داريا والغوطة، وأخيرًا مخيم اليرموك.

وعلى الرغم من إعلان النظام انتهاء الأعمال العسكرية في بعض المناطق، لا تزال منطقة نزاع مسلح بحسب تصنيف “القانون الدولي”، ما يجعل سلوكيات الأطراف المتنازعة يخضع لـ “القانون الدولي الإنساني”.

وبحسب ما أقرته الاتفاقيات والبروتوكولات للقانون الدولي يعتبر “التعفيش” جريمة حرب، إذ تحظر اتفاقية “لاهاي” النهب في جميع الظروف.

ويميز “القانون الدولي” بين المعدات العسكرية التي يمتلكها الخصم وبين المنقولات الموجودة في المنازل والمعامل، إذ تحظر القاعدة 50 من “القانون الدولي الإنساني” تدمير ممتلكات الخصم أو الاستيلاء عليها إلا في الحالات التي تستلزمها الضرورة العسكرية، بينما يجوز بموجب القاعدة 49 من القانون نفسه لأطراف النزاع الاستيلاء على المعدات العسكرية التابعة للطرف الخصم كغنائم حرب.

كما تناول “القانون الدولي الإنساني” حق الإنسان في حماية ممتلكاته في القواعد 111 المتعلقة بحماية ممتلكات الجرحى والغرقى، و113 المتعلقة بحماية ممتلكات الموتى وعدم سلبهم أو تشويه جثثهم، و122 المتعلقة بمنع سلب ممتلكات مسلوبي الحرية من المعتقلين.

ملف محاسبة النظام يكبر

ويصف النظام هذه الجريمة أنها “تصرفات فردية” نافيًا مسؤولية القيادات عنها، لكن نظام “روما” الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يعقد الاختصاص لهذه المحكمة في النظر بجرائم الاستيلاء على الممتلكات الفردية، وهي التي تشكل انتهاكًا جسيمًا لاتفاقيات جنيف لعام 1949، ولا سيما عندما ترتكب في إطار خطة أو سياسة عامة أو في إطار عملية واسعة النطاق، وبالتالي تكون المسؤولية على عاتق القيادة التي لم تمنع عناصرها من ارتكاب هذه الجرائم.

وعن الفائدة من تجريم القانون الدولي لهذا السلوك الذي تمارسه قوات الأسد، يقول العلبي، “رغم غياب المحاسبة لكن من الضروري تجريم أفعال النهب التي تمارسها قوات الأسد، لأنه من الأفضل أن يكون هناك قانون ويتم اختراقه من أن يكون هذا التصرف مباحًا، وهذا يضيف ملفًا آخر لقضية المحاسبة، ليتم توثيقها من قبل المنظمات الدولية وإثبات إجرام النظام السوري في أيام القتال وما بعد القتال”.

عناصر من قوات الأسد في أثناء قيامهم بحملات تعفيش في مخيم اليرموك 23 من أيار 2018 (فيس بوك)

عناصر من قوات الأسد في أثناء قيامهم بحملات تعفيش في مخيم اليرموك 23 من أيار 2018 (فيس بوك)

نظرة الشرع في شراء “المعفّشات”

أصدر المجلس الإسلامي السوري، الذي يجمع نحو 40 رابطة وهيئة شرعية سورية، بيانًا في آذار 2018، أوضح فيه أن البضائع “المسروقة أو المغصوبة” مال حرام لا يجوز شراؤه ولا بيعه ولا تملكه، إلا لمن عرف بضاعته بعينها، أو أراد شراءها لإرجاعها لأصحابها.

واستدل على ذلك أن المال المسروق أو المغصوب، ما زال في ملك صاحبه، ومن شروط صحة البيع أن تكون السلعة مملوكة للبائع، والمسروقات ليست ملكًا لمن سرقها، ولا لمن انتقلت إليه، كما أن مالكها لم يأذن للسارق ببيعها أو التصرف فيها.

واعتبر البيان أن شراءها من هؤلاء “اللصوص” تعاونٌ على الإثم والعدوان، وتشجيع للمجرمين على التمادي في سرقة الأموال واغتصاب الأملاك.

أما المال المجهول الذي لا يعرف مصدره، فأفتى المجلس بجواز شرائه، مع استثناء حالتين، أولاهما إن وجدت قرائن قوية بكون المعروضات من المسروقات فلا يجوز بيعها أو شراؤها، كذلك حال المال المجهول في بلد عمت فيه السرقات والفوضى، فيُغلّب جانب المنع، تحرزًا من التعامل بالمسروقات التي يصعب التمييز بينها وبين غيرها.

وختم البيان بتوصية من وقع في شراء شيء من هذه البضائع المسروقة، أن يتوب إلى الله، ويعيد هذه المسروقات أو المغصوبات إلى أصحابها، أو يسلمها للجهات المسؤولة عن تلك المناطق ليقوموا بإرجاعها لملاكها.

وأوصى كذلك تلك الجهات باسترداد الأموال المسروقة لإيصالها لأصحابها بكل طريقة ممكنة، وفي حال لم يعرف أصحابها مع استنفاد الجهد في البحث والسؤال عنهم، فتصرف في وجوه الخير على المحتاجين والفقراء، مع تقييد وتوثيق ما يتعلق بها من صفات وصور، فإن ظهر صاحبها بعد ذلك فتتكفل بردّ مثل تلك البضائع أو قيمتها.

ومن اشترى مالَا يظنه حلالًا ثم ظهر أنه مسروق فيجب أن يعيده لصاحبه، ويعود المشتري بالثمن على من باعه، أما ما خسره الشخص من أمواله بسبب الحرب أو السرقة، فهو من المصائب التي تستوجب الصبر، ولا يجوز له أن يعوض ذلك بأخذ مال غيره، أو الشراء من المسروقات وما لا يباح من الأموال.

وطابقت فتوى المجلس، ما صرح به الشيخ فتحي الصافي، الذي تبث محاضراته وفتاواه على وسائل إعلام مقربة من النظام، ورأى أنه حتى لو كان الإنسان فقيرًا فلا يجوز له شراء المسروقات، وأشار إلى أنه حتى في حال كانت المعروضات “مصادرة” لا يصح شراؤها، فكيف بها إذا كانت مسروقة.

أسواق “المُعفّشين” تغزو الأرصفة في سوريا

مع تزايد عمليات “التعفيش” كان لا بد من منافذ بيع تعرض ما “غنمته” المجموعات العسكرية من أثاث وأدوات منزلية مستعملة، وتتحول من خلالها قطع الخرداوات إلى أوراق نقدية تملأ جيوب “تجار المسروقات” الجدد.

ولهذا الغرض تحوّلت بعض أرصفة المدن في سوريا إلى “أسواق معفشين”، ذات حركة تجارية كبيرة، واشتهرت هذه الأسواق بحسب كميات المسروقات الموجودة فيها، أما الحركة الشرائية التي يشهدها كل سوق فتعتمد على تسويق المسروقات المغتنمة مع كل عملية عسكرية لقوات الأسد.

خريطة توضح توزع أماكن أسواق “التعفيش” في سوريا (تعديل عنب بلدي)

حمص

اكتسب سوق “التعفيش” في مدينة حمص، الشهرة الأكبر من حيث الفكرة والنشأة، إضافة لاسمه الطائفي “سوق السنة”، في إشارة للمواد الموجودة بداخله من حيث مصدر “التعفيش”، وحتى تصريفها لأهل السنة أيضًا، ويقع سوق “السنة” في حي وادي الذهب وسط مدينة حمص، وينتشر على جانبَي الطريق قرب مسبح تشرين.

دمشق

يعد حي الحمصي بمنطقة جرمانا في أطراف العاصمة دمشق، من أشهر وأكبر أسواق “التعفيش” في المدينة وشهد انتعاشًا عقب سيطرة قوات الأسد على الغوطة الشرقية، ويأتي بعده من حيث قرب المسافة، سوق الدويلعة القريب من جسر الكباس، وقد تمت إزالته من قوات النظام بسبب كثرة المسروقات والمشاكل التي عجت بها المنطقة، ليتم نقله إلى منطقة كشكول شرقي دمشق، وينافسها في ذلك سوق “التعفيش” في منطقة “مزة 86” غربي دمشق، حيث تعتبر المنطقة “خزان الشبيحة” المقاتلين في صفوف قوات الأسد ولهم الأولوية بتعفيش المنازل.

كما نشط سوق “الحرامية” بالقرب من “شارع الثورة” وسط دمشق، بجميع مواد “التعفيش”، وهو السوق ذو الصيت السيئ لاحتوائه على مواد مشبوهة أو مسروقة منذ تسعينيات القرن الماضي، لكن “التعفيش” طغى عليه من حيث الاسم والمواد والحركة الشرائية.

وفي العام الحالي شهد سوق “التعفيش” في “ضاحية الأسد” انتعاشًا واسعًا بعد الحملة العسكرية على الغوطة الشرقية، ويمتد هذا السوق من دوار الضاحية حتى مفرق نقليات القدموس، واشتهر السوق بكثافة المواد المسروقة من مناطق الغوطة الشرقية وخاصة حرستا المجاورة للضاحية، ويمتاز باحتوائه على جميع أنواع الأثاث المنزلي والأدوات الكهربائية وغيرها من المواد التي تصل إلى أسلاك كهرباء نحاسية تم سحبها من جدران المنازل في حرستا، لكن سرعان ما داهمته قوات الأمن الداخلي وصادرت المعروضات المنتشرة على الأرصفة والطرقات، وضبطت المخالفين، بعد أن اعترض أهالي الضاحية أكثر من مرة على وجود سوق “للتعفيش” في المنطقة.

دير الزور

يقع سوق “التعفيش” في دير الزور بمنطقة شارع الوادي وسط المدينة، وشهد في فترات متفاوتة ازدحامًا من حيث كثرة المواد والحركة الشرائية، كما يحتوي تشكيلة واسعة من الأدوات المنزلية وأثاث المنازل، بالإضافة بالمواد الغذائية.

حلب

أهم أسواق “التعفيش” في حلب، ذلك الواقع في حي الرازي في منطقة الجميلية وسط المدينة، ويتسم بانخفاض أسعاره وكثافة حركة البيع والشراء فيه، ويطلق عليه سكان المدينة “سوق الحرامية”، ويمتد من زاوية جسر الرازي إلى سق الخضرة.

ويليه سوق “الفيض” الممتد من بستان الزهرة حتى الفيض ويقدر طول السوق بـ 500 متر، وهو مزدحم بأكواخ الباعة والأدوات المسروقة التي تملأ الأرصفة، مع وجود تنافس في الأسعار بين الباعة، ما ينشط الحركة الشرائية في السوق.

وفي منطقة الحمدانية وسط حلب، اشتهر السوق الثالث للتعفيش من حيث الحجم والشهرة، وبسبب كثرة الشكاوى عليه قامت قوات الأسد بإغلاقه بعد توجيه مئات التهم لأصحابه بتعفيش منازل الأحياء الموالية في حلب الغربية.

وخارج المدينة شهدت قرية جبرين شرق حلب سوقًا كبيرًا مُلئ بالمواد المسروقة و”المعفشة” من أحياء حلب الشرقية إبان الحملة الروسية عليها.

اللاذقية وطرطوس

توزعت أسواق وبسطات “التعفيش” في الكثير من شوارع وأحياء مدينتي اللاذقية وطرطوس، وأكثرهم شهرة السوق الشعبي وسط اللاذقية، وعرف عن قوات الأسد بنقل أفضل وأهم مسروقات “التعفيش” إلى تلك المدينتين عقب كل عملية عسكرية في المناطق السورية.

الرقة

اشتهرت قرية غانم العلي شمالي الرقة بسوق “التعفيش” الذي افتتحه عناصر الأسد لبيع المسروقات من بلدات ومناطق أرياف دير الزور.

مقالات متعلقة