tag icon ع ع ع

فريق التحقيقات في عنب بلدي

ربما يكون من غير المجدي استدعاء سيناريوهات تاريخية عالمية ومقارنتها بسوريا، التي أصبحت مقبرة للمحللين السياسيين والعسكريين، لكن الوضع في محافظة إدلب السورية يذكر بسيناريو جمهورية “عنق الزجاجة” الألمانية، التي أعلن عنها قبل قرن كامل.

في عام 1918 توقفت الحرب العالمية الأولى بموجب معاهد فرساي، وتقاسم المنتصرون ألمانيا، لكن جيبًا محاذيًا لفرنسا، بقي دون سيطرة، ليعلن سكانه عن دولة سميت بـ “جمهورية عنق الزجاجة” نظرًا إلى شكلها.

لم يكتب النجاح لهذه الدولة الفتية التي حوصرت من قبل الدول المجاورة، وسيطرت عليها فرنسا عام 1923، لتعود إلى أحضان الأم ألمانيا بعد عام.

في سوريا تتقاسم الدول التي تدخلت لصالح أطراف النزاع حصصها، لكن مصير جيب إدلب المحاذي لتركيا يبقى ضبابيًا، وسط فرضيات لم تحسم بعد.

شكلت السيطرة على مدينة إدلب، في 28 من آذار 2015، ضربة عسكرية للنظام السوري، فهي المحافظة الثانية التي تخرج عن سيطرته بعد الرقة، لتعتبر أحد أبرز إنجازات الجناح العسكري للثورة السورية، وبقعة جغرافية تعد منطلقًا للعمليات العسكرية تخطت حاجز الحدود الإدارية للمحافظة.

اليوم، تحولت إدلب إلى محط أنظار الدول المؤثرة في الملف السوري، بعد حسم ملفي الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي لصالح قوات الأسد، لا سيما أنها الخزان الأكبر لمعارضي النظام السوري، بعد استقبالها الآلاف من المدنيين والعسكريين، بموجب حملات التهجير الأخيرة من محيط العاصمة دمشق.

وتحولت نشوة النصر بخروج قوات الأسد من المحافظة قبل ثلاث سنوات إلى تخوف من قبل ثلاثة ملايين مدني، في ظل غموض التفاهمات الدولية التي أدرجتها ضمن اتفاق “تخفيف التوتر”، وما رافقها من صراع داخلي بين الفصائل على رأسها “هيئة تحرير الشام” و”جبهة تحرير سوريا”.

منذ مطلع 2018 مرت على إدلب تطورات معقدة، تحاول عنب بلدي سردها لاستشراف المرحلة المقبلة التي تنتظر المحافظة، سواء بإدراجها ضمن دائرة النفوذ التركي وهو السيناريو الذي طبق في ريف حلب الشمالي، أو دخولها في مرحلة جديدة يفرضها النظام السوري ومن خلفه روسيا.

انفلات أمني دون ضوابط

عصفت موجة من محاولات وعمليات الاغتيال بإدلب، منذ نهاية نيسان 2018، متزامنة مع حوادث قتل وخطف لمدنيين رسّخت الانفلات الأمني في المحافظة، الذي تلا اقتتالًا داخليًا فرض توترًا في المنطقة.

وطالت حوادث الاغتيالات قياديين في فصائل تنتمي لـ “الجيش الحر” وفصائل إسلامية، إلى جانب منتمين لـ “هيئة تحرير الشام”، فضلًا عن مهجرين وصيادلة وصرافي عملة وشخصيات اعتبارية وناشطين، ورغم أن وتيرة العمليات انخفضت، لا تزال مجهولة التفاصيل ومغطاة بلثام منفذيها.

وأسهم الاقتتال بين “تحرير الشام” و”جبهة تحرير سوريا” (تشكلت من اندماج حركتي أحرار الشام ونور الدين الزنكي في 18 من شباط 2018)، في زيادة الانفلات الأمني، وهذا ما رآه المحلل السياسي والباحث التركي، محمود عثمان، وقال لعنب بلدي إن الاقتتال المتسبب الأول لما آلت إليه الأمور.

واعتبر عثمان أن الفلتان الأمني وغياب السلطة “بعث برسالة قوية للقوى الدولية والإقليمية وكل من له نفوذ في الساحة السورية لحسم الوضع في إدلب”، مشيرًا إلى أن المحافظة “تحولت إلى بركان خامد قابل للانفجار في أي لحظة (…) وفي حال تفجّر سيلقي بحممه على ما حوله وينذر بكارثة إنسانية”.

“ينعكس الخلاف البيني بين الأطراف العربية في أسوأ صوره على الصراع في سوريا”، وفق الباحث، الذي قارب ما يجري في إدلب بما شهدته الغوطة الشرقية في اقتتالين طرفاه الأساسيان “جيش الإسلام” و”فيلق الرحمن”، ومن خلفهما دولتا السعودية وقطر.

ومن وجهة نظر عثمان، فإن غياب الرؤية والاستهتار والتبعية لجهات داعمة ليست سورية، “عوامل فرضت وضعًا شاذًا وحصرت الجميع في عنق الزجاجة”، مضيفًا أن “كل جهة تنتمي إلى (تنظيم القاعدة)، أيًا كانت مسمياتها ومنها (تحرير الشام)، وقعت للأسف في فخ الاستراتيجية الإيرانية، التي لطالما مهّدت لشيطنة إدلب في سعي لارتكاب مذابح فيها”.

بدوره حمّل المستشار العسكري في “الجيش الحر”، إبراهيم الإدلبي، مسؤولية الاغتيالات في إدلب لما قال إنها جهات ذات مصلحة واحدة.

وقال الإدلبي لعنب بلدي إن ثلاثة أطراف (تنظيم الدولة الإسلامية وقوات الأسد وهيئة تحرير الشام)، هدفت إلى إضعاف وإنهاك المعارضة المعتدلة، وإلى أن يعيش الشمال السوري في حالة اضطراب أمني، موضحًا أن “تحرير الشام تسعى للقضاء على قيادات الفصائل، والنظام يعمل في الإطار ذاته بهدف زعزعة استقرار المنطقة”.

انخفضت عملية الاغتيال بعد ملاحقة “الجيش الحر” للخلايا بالتعاون مع بقية الفصائل، وفق المستشار العسكري، الذي تحدث عن مساعٍ للقضاء على ظاهرة الانفلات الأمني في الشمال.

ورأى بعض أهالي المحافظة أن لخلايا “تنظيم القاعدة” وفصيل “جند الأقصى” دورًا في الاغتيالات، بينما وصفها آخرون بأنها “عملية إقصاء داخلي” في إطار التمهيد لمرحلة جديدة تختلف بموجبها موازين القوى في المنطقة.

قالت مصادر عسكرية متابعة لاقتتال الفصائل في إدلب (بدأ في 20 من شباط 2018)، إن حصيلة القتلى من جميع الأطراف تجاوزت 700 قتيل بشكل تقريبي، إلى جانب 500 جريح أصيبوا خلال الاشتباكات في كل من ريفي إدلب وحلب الغربي.

وأضافت المصادر لعنب بلدي أن أكثر من 300 عنصر من “تحرير الشام” أسرتهم “تحرير سوريا”، وقابلهم 200 عنصر بيد “الهيئة”، التي قدرت المصادر نسبة خسارتها من القتلى بنحو 80% من المجموع الكلي.

“الدول الضامنة” تتنافس على رسم المصير

تخضع المحافظة إلى اتفاق “تخفيف التوتر” الموقع في “أستانة”، العام الماضي، وتدير ملف المحافظة الدول الضامنة للاتفاق (تركيا وروسيا وإيران).

تقدمت قوات الأسد في مساحات واسعة شرقي حماة وإدلب بدعم روسي، ووصلت نهاية العام الماضي إلى مطار أبو الظهور العسكري، ثم أوقفت عملياتها العسكرية في المنطقة.
وظهر التنافس على رسم مصير إدلب منذ مطلع نيسان 2018، حين حذّر المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالن، خلال مؤتمر صحفي في أنقرة، من أن تكرر روسيا وإيران ما حدث في الغوطة الشرقية، في ريف حمص الشمالي أو إدلب.

وتبعه تهديدات إيرانية على لسان علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الإيراني للشؤون الدولية، الذي قال خلال حديثه للتلفزيون الرسمي في 13 من نيسان 2018، إن الخطوة المقبلة لما أسماها “جبهة المقاومة”، هي التوجه “لتحرير منطقة إدلب”، مؤكدًا أن “تلك العمليات ستكلل بالنصر”.

وعقب هذه التهديدات، حذرت فرنسا من “خطر كارثة جديدة”، داعية إلى “إقرار مصير إدلب من خلال عملية سياسية تتضمن نزع سلاح الميليشيات”.

بدورها، ثبتت تركيا ثماني نقاط من أصل 12 أقرتها بموجب محادثات أستانة، وكانت آخرها في مدينة مورك، شمالي حماة والمناطق المحيطة بها، مطلع نيسان 2018.

وسبقتها سبع نقاط توزعت على عندان بريف حلب الشمالي، وثلاث نقاط في ريف حلب الغربي، ونقطة في تلة العيس جنوبي المحافظة، بالإضافة إلى نقطتين في تل الطوقان ومحيط معرة النعمان شرقي إدلب.

آخر التطورات بخصوص تثبيت نقاط المراقبة، كان دخول وفد من الشرطة العسكرية الروسية إلى قرية أبو دالي، الخميس 3 من أيار 2018، وتفرع منه قسم نحو قرية أم صهريج وآخر باتجاه بلدة سنجار، في إطار العمل على تثبيت نقاط مراقبة روسية على سكة القطار، بينما تحدث ناشطون عن سحب سلاح ميليشيات أحمد الدرويش في “أبو دالي”.

المستشار العسكري في “الجيش الحر” إبراهيم الإدلبي، رفض الإيمان بنظرية التنافس على خريطة المنطقة، وقال إن خريطة إدلب وريفها رسمها تثبيت النقاط التركية، مضيفًا “نستطيع القول إن الحرب انتهت بين الثوار وقوات الأسد في المنطقة بشكل نهائي”.

وبحسب الإدلبي، “تلتزم روسيا مع إيران والنظام السوري بمنطقة شرق السكة بشكل مبدئي”، متحدثًا عن دوريات متنقلة تركية- إيرانية- روسية، تمسك زمام الأوتوستراد الدولي حلب- دمشق، على أن تمتد المنطقة التي تخضع للنفوذ التركي من جرابلس مرورًا بريف إدلب الغربي، ووصولًا إلى نقاط تمركزها في الساحل.

وفتحت المعابر بين إدلب وريف حلب الشمالي (الذي يخضع للنفوذ التركي) فعليًا، في إطار عملية “غصن الزيتون”، التي أطلقتها أنقرة بمشاركة “الجيش الوطني السوري”، ضد “وحدات حماية الشعب” (الكردية) في عفرين، وانتهت في آذار الماضي.

الباحث التركي محمود عثمان، قال إن تركيا عرضت على أمريكا سابقًا حلًا يقضي بتفكيك “هيئة تحرير الشام” وإخراج المقاتلين الأجانب واستيعاب المحليين لتوزيعهم على فصائل “الجيش الحر”، وبالتالي سحب ذريعة “المذبحة” التي تعد لها إيران والميليشيات التابعة لها في المنطقة، وفق تعبيره.

الروس والإيرانيون يتذرعون لبدء عمليات باتجاه المحافظة بأنها “بؤرة للنصرة والإرهاب”.
لكن واشنطن لم تستجب للطرف التركي رغم الوعود المتكررة التي تلقتها أنقرة، واعتبر الباحث أن السبب يكمن في كون المنطقة خارج نفوذهم، “ما دعا تركيا، وخاصة بعد بدء محادثات أستانة، للتنسيق مع الروس والتخفيف من التدخل المدمر في إدلب”.

وتستمر عمليات إقناع الروس من قبل تركيا بضرورة تفكيك “تحرير الشام”، ورأى عثمان أن ذلك “أحدث شرخًا داخل الهيئة التي يتزعمها أبو محمد الجولاني، ويناور بدوره في الوقت المناسب، لكنه يعطي في كل مرة الذريعة للقوى الخارجية للبطش في المنطقة”.

مصير إدلب يبقى مفتوحًا دون حسم، في حال استمرت “تحرير الشام” بما هي عليه اليوم، وفق رؤية الباحث التركي، ولفت إلى أن “إيران تضغط على روسيا لفتح معركة إدلب”، مؤكدًا أن “هذا السيناريو ليس خياليًا بل أمر محتمل ومعطياته قائمة طالما بقي تنظيم القاعدة وطالما عجزت الدول الفاعلة في تصفيته”.

حتى اليوم تنجح تركيا في نزع فتيل الفتنة، لكن الأمور على شفا هاوية ما لم يتم اتخاذ خطوات مناسبة، كما رأى عثمان، وتحدث عن “مخاطر حقيقية” تفتح الباب أمام التدخل الإيراني والروسي في المنطقة، على رأسها “الاقتتال الداخلي والشرذمة بين الفصائل، وفشل تأسيس الجيش الوطني، مع رفض الفصائل الذوبان في إطاره، والذي هو مفتاح الحل”.

“القاعدة” تتحالف بخطوة استباقية

عقب أيام من التوصل إلى اتفاق أنهى الاقتتال الدائر بين “تحرير الشام” و”جبهة تحرير سوريا”، شكل فصيلان جسمًا عسكريًا جديدًا تحت مسمى “حلف نصرة الإسلام”، ودار الحديث عن تبعتيه لتنظيم “القاعدة”، كفرع جديد له في سوريا، مع بروز أسماء إلى الواجهة لشخصيات تنتمي بمعظمها إلى التيار القاعدي، الذي انشق مؤخرًا عن “تحرير الشام”.

الفصيلان هما “تنظيم حراس الدين” وفصيل “أنصار التوحيد”، وأعلنا اندماجهما “من باب التعاون على البر والتقوى لإقامة دين الله”، بحسب بيان للفصيل الجديد، دون تحديد الهدف الأساسي لهما، وموقفهما من التشكيلات العسكرية التي تنشط في إدلب.

وبحسب ما قالت مصادر مطلعة على شؤون الجماعات الجهادية، نتج التشكيل عن الاقتتال بين “تحرير سوريا” و”الهيئة”، واستغله الفصيل الجديد للانتشار في ريف إدلب الجنوبي، ووجد فرصة في انشغال الفصائل ببعضها للبروز إلى الواجهة دون أي عائق.

يضم “حراس الدين” كلًا من مجموعات “جيش الملاحم، جيش الساحل، جيش البادية، سرايا الساحل، سرية كابل، جند الشريعة”، وفلول “جند الأقصى”، ويقودهم القيادي في “تحرير الشام” سابقًا، “أبو همام الشامي”.

بالإضافة إلى قيادات “القاعدة” في مجلس الشورى الذي يضم: “أبو جليبيب طوباس، أبو خديجة الأردني، سامي العريدي، أبو القسام، أبو عبد الرحمن المكي”، وعددًا من القياديين السابقين في “جبهة النصرة” الذين رفضوا فك الارتباط بالقاعدة.

بينما تشكل فصيل “أنصار التوحيد”، في آذار الماضي، من مجموعات منشقة عن فصيل “جند الأقصى” في مدينة سرمين بإدلب، والتي ينشط فيها إلى جانب منطقة النيرب بريف حلب.

الباحث السوري أحمد أبا زيد اعتبر أن “حلف نصرة الإسلام” ليس فصيلًا جديدًا، بقدر ما هو تحالف دفاعي من المنشقين عن “جبهة النصرة” في “حراس الدين” و”أنصار التوحيد” (نواة جند الأقصى).

وعندما هاجمت “النصرة” فصيل “جند الأقصى” سابقًا، لم يشارك تيار القاعدة في الدفاع عنهم كما أنه اعتقل مجموعات من زعمائه الأردنيين، وبحسب أبا زيد، فإن فصائل الحلف سترد أي هجوم على أحد فصائله بشكل فوري.

وأوضح لعنب بلدي أن الاتفاق الأخير بين “تحرير سوريا” و”تحرير الشام” كان من أبرز الأسباب لتشكيله، إذ يتخوف تيار القاعدة من حملة عسكرية مشتركة عليه من الفصيلين بدعم تركي.

ويعتقد الفصيلان (التوحيد، حراس الدين) أنهما هدف مشترك لـ “تحرير الشام” وبقية الفصائل في المرحلة المقبلة، وبحسب معلومات عنب بلدي اجتمع قادة من “تحرير الشام” في تركيا بعد يوم من اتفاق وقف الاقتتال، ودار الحديث عن طلب تركيا منهم الاستعداد للمرحلة المقبلة المتمثلة بالاندماج مع بقية الفصائل العسكرية، والقضاء على الشخصيات والأطراف التابعة للتيار القاعدي.

وبحسب ما قالت مصادر عسكرية (طلبت عدم ذكر اسمها)، انتقل القادة عبر طائرات هيلوكوبتر من مطار أنطاكيا إلى اسطنبول، دون ورود أي تفاصيل أخرى عن الاجتماع الذي ضم الطرفين.

وتحاول تركيا إعادة الهيكلية العسكرية للمحافظة، وكانت أولى بوادرها تقديم دعم مالي وعسكري لفصائل “الجيش الحر”، وفصائل إسلامية بينها “أحرار الشام” و”حركة نور الدين الزنكي”، كبديل عن الدعم الأمريكي.

وأشارت المصادر إلى أن “جبهة تحرير سوريا” تلقت في الأيام الماضية دعمًا إضافيًا من تركيا، وبدأت خطوات جديدة بما يخص التنظيم وأعداد المقاتلين.

آثار دماء قرب برج الساعة في مدينة ادلب السورية بعد انفجار عبوة ناسفة – شباط 2018 (عمر حاج قدور AFP)

رقم صعب.. الحل بيد “تحرير الشام”

لعل أبرز ما مر على إدلب منذ مطلع 2018 التطور الذي طال ملف بلدتي كفريا والفوعة، والذي برز من جديد باتفاق قضى بخروج مقاتلي “تحرير الشام” من مخيم اليرموك جنوبي دمشق، مقابل خروج 1500 من أهالي البلدتين إلى مناطق سيطرة النظام السوري.

وحافظت كفريا والفوعة طوال ثلاث سنوات على حدودها العسكرية داخل إدلب، رغم الترسانة العسكرية الكبيرة التي تحيط بها، ما جعل منها رقمًا صعبًا في معادلة المحافظة، ليحسم مصيرهما، في 30 من نيسان 2018، بعد تنفيذ البنود الأخيرة لاتفاق “المدن الخمس” الذي رعته إيران وقطر بشكل سري.

بنود الاتفاق غامضة حتى اليوم، ويعتبر من أبرز الصفقات الشائكة في تاريخ الثورة السورية، خاصةً أنه هجر الآلاف من مناطقهم من خمس مدن سورية (مضايا، الزبداني، جنوبي دمشق، كفريا، الفوعة)، ودخلت فيه كل من إيران وقطر، أبرز الدول اللاعبة في الملف السوري، بهدف خفي خارج الحدود السورية، هو خروج مختطفين قطريين من العراق كانوا محتجزين لدى “حزب الله العراقي” مقابل مبالغ مالية.

وأصرت إيران في مختلف عمليات التفاوض السياسية الخاصة بسوريا على إقحام كفريا والفوعة، وهددت مرارًا بأن أي هجوم عسكري من قبل فصائل المعارضة على البلدتين سيكون ردها مماثلًا على مناطق سيطرة العارضة، ما جعلهما “شماعة” تستخدمها قوات الأسد والميليشيات المساندة لها لقصف إدلب، فمقابل كل صاروخ تطلقه المعارضة على البلدتين، كانت هناك غارات جوية تضرب المدينة وريفها القريب.

ابتعدت البلدتان منذ فرض الحصار عليهما عن اهتمام النظام السوري، لصالح إيران و”حزب الله” اللبناني، اللذين تصدرا المشهد في تداول الأمور المتعلقة بهما، خاصة في اتفاق “المدن الخمس”.

وفي آخر التصريحات الإيرانية، قال معاون وزير الخارجية الإيراني، حسين جابري أنصاري، إن ملف البلدتين هو من أولويات إيران خلال مباحثاتها السياسية حول الملف السوري، معربًا عن أسفه لتأثر هذا الملف بتعقيدات المعادلات الداخلية والإقليمية والدولية لسوريا.

وما يؤكد على ذلك، حديث “هيئة تحرير الشام” بعد إقرار الاتفاق عن أن التواصل يتم بشكل مباشر مع الجانب الإيراني حول البلدتين، بعيدًا عن النظام السوري.

وقالت “الهيئة” إن “الميليشيات الإيرانية اتبعت أسلوب الضغط على أهالي مخيم اليرموك بغية أسرهم والتفاوض عليهم لإخراج كامل سكان ومقاتلي بلدتي الفوعة وكفريا”، مضيفةً “بعد رفضنا القاطع للخضوع لهذه الضغوط ومع استمرار الحملة الشرسة على المخيم دون تقدم يُذكر، توصلنا لاتفاق مع العدو الإيراني ضمن شروط، وتم بعده التواصل مع بقية الفصائل ووضعهم بصورة الأمر”.

ولا يمكن فصل ملف بلدتي كفريا والفوعة عن مستقبل إدلب، فالتهديدات الإيرانية التي تكررت في السنوات الماضية لدخول المحافظة لا تزال مستمرة ضمن المحادثات السياسية مع الجانبين الروسي والتركي، خاصة أن الإعلان عن الاتفاق جاء بعد أيام من اجتماع لرؤساء الدول الضامنة (روسيا، إيران، تركيا)، الذي أكد على مسار أستانة كحل رئيسي للملف السوري.

مصير إدلب يعكس انقسام الشارع السوري

دلالات ومؤشرات عسكرية واقتصادية واجتماعية لم تكن كافية لكشف الغموض عن المستقبل الذي تنتظره محافظة إدلب، ذلك الغموض الذي انعكس على آراء السوريين وخفض سقف توقعاتهم حول المصير الذي تنتظره المنطقة، خاصة بعد إخلاء كفريا والفوعة.

في استطلاع للرأي أجرته عنب بلدي على موقعها الإلكتروني حول مصير محافظة إدلب، تجلت حيرة الشارع السوري بوضوح حين توزعت الآراء بين سيطرة النظام السوري عليها أو فرض النفوذ التركي أو استمرار الفوضى الداخلية، وذلك ضمن الإجابة عن سؤال “برأيك، ماذا ينتظر إدلب بعد إخلاء كفريا والفوعة؟”.

39% من المستطلع رأيهم، وعددهم ألف، توقعوا أن النظام السوري سيبسط سيطرته على محافظة إدلب، فيما رأى 38% منهم أن تركيا ستفرض نفوذها على المنطقة استكمالًا لعملياتها في الشمال السوري، أما بقية المشاركين بالاستطلاع فقالوا إن الفوضى داخل إدلب، من اقتتال واغتيالات، ستستمر، وذلك بنسبة 23% من المشاركين.

العسكر: مستقبل ضبابي رهن الأتراك والروس

تختلف وجهات نظر القادة العسكريين على الأرض، والذين رغم ارتباطهم بأجندات دولية، قادرون على تغيير مسار العمليات العسكرية سواء لصالحهم أو ضدهم إن كانت العمليات غير محسوبة.

القيادي في “جيش النصر” عبد المعين المصري اعتبر أن مستقبل إدلب “ضبابي”، باعتبار أن قوات الأسد عمدت طوال السنوات الماضية إلى تهجير جميع المناطق السورية إلى المحافظة، ما يضعها أمام إمكانية بدء عمل عسكري عليها أيضًا.

وقال لعنب بلدي إن المطلوب من فصائل المعارضة العاملة في إدلب لصد أي هجوم لقوات الأسد “رص الصفوف وتوحيد العمل العسكري”، متسائلًا عن الغاية من تهجير الأعداد الكبيرة من المدنيين إليها.

بينما استبعد العقيد في “الجيش الحر”، مصطفى بكور، أن يكون سيناريو إدلب مشابهًا لبقية المناطق المهجرة، واعتقد أنها ستبقى كما هي على المدى القريب.

وبوجهة نظره “ليس من مصلحة الدول الفاعلة في سوريا وخاصة الغرب أن تنتهي الثورة السورية أو يسقط النظام، لذلك ستبقى إدلب منطقة تجميع للثوار لما بعد الانتهاء من بقية المناطق”.

وعن احتمالية اندماج الفصائل العسكرية في جسم واحد، اعتبر بكور أنه أمر غير ممكن، بسبب تضارب مصالح الجهات الداعمة وتضارب مصالح القادة والخلافات العميقة بين الفصائل ذات التوجه الإسلامي وبعض فصائل “الجيش الحر”.

لتجنيب المحافظة “المصير الأسود”، أوضح القيادي العسكري أنه من الممكن وضع إدلب تحت الوصاية التركية، والضغط على الفصائل لإيجاد صيغة تضمن التنسيق المشترك في ظل غياب إمكانية التوحد.

وأشار إلى أن خريطة إدلب العسكرية قد يطرأ عليها بعض التعديل بما يتوافق مع الاتفاقيات الروسية- التركية المعلنة وغير المعلنة، وما تسرب مؤخرًا عن انسحاب قوات الأسد من مواقع شرق سكة القطار يمكن أن يكون الخطوة الأولى في إعادة رسم خريطة إدلب الجديدة.

النقيب في “جيش العزة”، محمود أبو عبد الله، اعتبر أن مستقبل إدلب سيكون ضمن دائرة النفوذ التركي، بعد استكمال نقاط المراقبة في ريفي حماة الغربي وإدلب الغربي والساحل.

وبرأيه ستقوم تركيا في إدلب بعمليات مشابهة لمناطق “درع الفرات” شمالي حلب، و”غصن الزيتون” في عفرين، على أن تكون ضمن صيغة تتناسب مع الفصائل العسكرية العاملة في المنطقة.

أما ما يشاع من تهديدات عن اقتحام إدلب، تصور القيادي أنها لن تتعدى مرحلة “الحرب النفسية”، لإضعاف النفوس وكسر إرادة القتال للفصائل، مشيرًا إلى أن “الأمر متفق عليه دوليًا، وخاصة بين روسيا وتركيا”.

العقيد في “جيش العزة”، هيثم خطاب، طرح رؤية مختلفة بقوله إن عملية “غصن الزيتون” في عفرين أحدثت تغييرًا جذريًا في الشمال السوري، وشكلت قطعة واحدة بدءًا من ريف حلب الشمالي إلى إدلب، ما ينعكس على تصورات المرحلة التي تنتظر إدلب الدخول إليها.

وأضاف القيادي لعنب بلدي أن مستقبل الشمال يمكن أن يصب في دائرة واحدة باتجاه حلول سياسية ضمن تأثير خارجي وخاصة من قبل تركيا، والتي ستكون اللاعب الأساسي لتوحيد العناصر والفصائل بشكل عام.

معابر اقتصادية قد ترسم الحدود

في محيط إدلب، عمد النظام السوري، مؤخرًا، إلى تثبيت الحدود مع المعارضة، مقابل إفساح المجال لمعابر تدخل عبرها بضائع وغذائيات ومواد أساسية لا تخضع للتفتيش، ولا لأي من القوانين الجمركية المعمول فيها بين الدول، وإنما تخضع لقوانين حواجز قوات الأسد وفصائل المعارضة، بعد تحييدها عن العمليات العسكرية الكبرى، والتفاهم عليها “ضمنيًا” بين الجانبين.

ثلاثة معابر ربطت إدلب بمناطق سيطرة النظام، هي معبر قرية “أبو دالي” في ريف حماة الشمالي الشرقي، والخاضعة لسيطرة عشائر موالية للنظام برئاسة عضو مجلس الشعب، الشيخ أحمد درويش، ويمكن وصفها بـ “منطقة حرة” مملوءة بالبضائع تستفيد منها مختلف القوى على الأرض، إضافة إلى معبر في حلفايا الواقعة شمال غرب حماة مقابل بلدة محردة الخاضعة للنظام، ومعبر قلعة المضيق.

هذه المعابر استمرت عبر تفاهم بين الطرفين دون وجود قرارات رسمية، لكن في 18 من نيسان الماضي، نقلت صحيفة “الوطن” المقربة من النظام عن الآمر العام للضابطة الجمركية، العميد آصف علوش، تأكيده إعادة الضابطة الجمركية لمحافظتي إدلب، لمراقبة نقل الحبوب وضبط منافذ المهربين من وإلى المناطق التي يسيطر عليها في سوريا.

وقال علوش إنه يتم التحضير لعودة ضابطة إدلب الجمركية خلال المرحلة المقبلة، ويتوزع عملها ضمن مناطق أبرزها أبو الظهور وأبو عمر، كخطوة لضبط المنافذ التي يستخدمها المهربون لإدخال بضائع ومواد مهربة.

الإعلان عن عودة الضابطة الجمركية قد يكون مقدمة إلى تحول هذه المعابر إلى نقاط حدود سياسية تفصل إدلب وريفها عن بقية سوريا.

نازحون ومهجَّرون.. مصير المدنيين على المحك

في وقت تسود فيه المخاوف من تحرك عسكري قد يطال محافظة إدلب، يتجلى بوضوح قلق المنظمات الأممية والمنظمات الحقوقية الدولية على مصير ما يقارب ثلاثة ملايين نسمة من سكان إدلب، بينهم نازحون ومهجرون قسرًا يتوزعون على مخيمات عدة ومراكز إيواء حضنتها المحافظة.

حتى مطلع العام الحالي، أحصت منظمة الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) وجود 2.65 مليون نسمة في محافظة إدلب، بينهم 1.16 مليون نازح داخليًا، بعضهم نزحوا تحت وطأة العمليات العسكرية التي طالت مناطقهم، وآخرون أرغموا عليه بموجب اتفاقيات التسوية التي فرضت عليهم التهجير القسري إلى إدلب.

وفي تقرير نشرته الأمم المتحدة، في كانون الثاني الماضي، حذرت فيه من نزوح ما يزيد على 200 ألف شخص في الفترة بين 15 كانون الأول 2017 و16 كانون الثاني 2018، بالإضافة إلى 6700 عائلة نزحت من المناطق التي تشهد نزاعات في ريف إدلب الجنوبي وشمال شرقي حماة وريف حلب الجنوبي، إلى المناطق الأكثر أمانًا في قرى ومدن إدلب، وإلى مخيمات المحافظة.

ودقت الأرقام الأممية ناقوس الخطر حين حذرت الأمم المتحدة من تدهور وضع ما لا يقل عن 1.73 مليون سوري يعيشون في المنطقة الواقعة شمال غربي سوريا (إدلب)، وصنفتهم على أنهم بحاجة للمساعدات الإنسانية الفورية.

ونوهت المنظمة الأممية إلى صعوبة وصول منظمات الإغاثة إلى المحتاجين في إدلب، داعية أطراف النزاع إلى تسهيل وصول المساعدات الإنسانية لهم.

وبحسب مراسلة عنب بلدي فإن عددًا من النازحين افترشوا الطرقات في مدينة إدلب بسبب ندرة المنازل الفارغة وعدم قدرتهم على دفع الإيجارات التي شهدت ارتفاعًا ملحوظًا في المدينة عقب موجة النزوح، فيما افترش آخرون خيامًا بلغ إيجار الأرض التي تبنى عليها 100 دولار.

طفلان يلعبان بعد وصولهما من عربين إلى قلعة المضيق غربي حماة – 25 آذار 2018 (عنب بلدي)

وجهة إجبارية للمهجّرين قسرًا

ضمن ما يعرف باتفاقيات “المصالحة” التي رعتها روسيا بين نظام الأسد والمعارضة المسلحة، والتي بات عنوانها ترحيل المقاتلين وذويهم، وجد المدنيون أنفسهم مجبرين على الخروج من مدنهم وبلداتهم بعد سنوات من الحصار، ليجدوا أن الخروج مع قوافل المهجرين أفضل الحلول الموجودة تجنبًا للملاحقات الأمنية والتضييق المعيشي.

وشهدت مدينة حمص القديمة أول اتفاق من هذا النوع، في أيار 2014، حين خرج أهاليها إلى ريف حمص الشمالي وإدلب، تلتها داريا في آب 2016، ثم بلدات عدة في ريف دمشق، في تشرين الأول 2016، توجه أهاليها إلى مدينة إدلب.

ودخلت أحياء حلب الشرقية ضمن اتفاقيات “إخلاء المدن”، في كانون الأول 2016، كما شهد عام 2017 تهجير أهالي حي الوعر الحمصي، بالإضافة إلى اتفاقيات “المدن الخمس”.

أما الغوطة الشرقية ومناطق جنوبي دمشق، فأبرمت آخر تلك الاتفاقيات، حين وصل أكثر من 47 ألف مدني وعسكري من دمشق وريفها في الأيام الماضية إلى الشمال السوري، بموجب اتفاقيات خروج فرضتها روسيا والنظام السوري.

وأثارت هذه الاتفاقيات الرأي العام الدولي، حين اعتبرت منظمات حقوقية دولية أن تهجير المدنيين القسري “جرائم ضد الإنسانية”.

وقالت منظمة العفو الدولية (أمنستي) في تقرير صدر نهاية العام الماضي “تزايدَ اعتماد الحكومة السورية على الاتفاقات المحلية كإحدى استراتيجياتها الأساسية الرامية إلى إرغام المعارضة على الاستسلام”.

وأضافت أن “الحكومة وحلفاءها تقدم هذه الاتفاقيات على أنها جهود للمصالحة، أما واقع الأمر، فهو أنها تأتي بعد حصار مطول غير مشروع وعمليات قصف”.

وأكدت المنظمة أن هذه الاتفاقيات لا تؤدي إلى تهجير المقاتلين فحسب، بل إلى تهجير جماعي للمدنيين عبر الباصات الخضراء التي أصبحت “رمزًا للهزيمة والتجريد من الممتلكات”.

محطات إدلب منذ 2015

مرت إدلب، التي تعتبر من أوائل المحافظات التي شاركت في الثورة السورية، بعدة مراحل منذ اندلاع الثورة.

23 من آذار 2015: “جيش الفتح”، المشكل من عدة فصائل تابعة للمعارضة، يعلن عن عملية عسكرية في مدينة إدلب لتحريرها.

28 من آذار 2015: “جيش الفتح” يعلن السيطرة على مدينة إدلب.

9 من أيلول 2015: المعارضة تسيطر على مطار أبو الظهور العسكري، وتؤكد السيطرة على كامل إدلب ريفًا ومدينة.

24 من تشرين الأول 2015: بداية الانسحابات من “جيش الفتح” أدت إلى تفككه.

4 من كانون الثاني 2016: تشكيل مجلس إداري مدني في مدينة إدلب

28 من كانون الثاني 2017: تشكيل “هيئة تحرير الشام” من خمسة فصائل أبرزها “فتح الشام” (جبهة النصرة سابقًا).

حزيران 2017: خلاف بين “هيئة تحرير الشام” و”حركة أحرار الشام” تحول لمعارك استمرت لأشهر.

15 من أيلول 2017: اتفاق بين تركيا وروسيا وإيران على إنشاء منطقة “خفض توتر” في محافظة إدلب.

17 من أيلول 2017: بدء دخول قوات تابعة للجيش التركي إلى إدلب لتثبيت نقاط مراقبة.

2 من تشرين الثاني 2017: تشكيل “حكومة الإنقاذ” في الشمال السوري.

كانون الثاني 2018: تقدم لقوات الأسد في ريف إدلب الشرقي.

20 من كانون الثاني 2018: قوات الأسد تسيطر على مطار أبو الظهور العسكري.

20 من شباط 2018: اقتتال داخلي بين “جبهة تحرير سوريا” و”هيئة تحرير الشام”.

مقالات متعلقة