فريق التحقيقات في عنب بلدي
اختلطت سمات المجتمع السوري بين مدني وعسكري، وانعكست حالة من التأهب الدائم لدى الكثير من المواطنين، الذين اتجهوا إلى اقتناء الأسلحة الخفيفة والمتوسطة في منازلهم، ضمن سياق أمني وسياسي، برروا من خلاله الظاهرة بالحاجة إلى الدفاع عن أنفسهم في ظل انفلات أمني تشهده البلاد منذ سنوات.
إلا أن تلك الظاهرة أصبحت مثار جدل بعدما تجاوز الهدف منها فكرة “الحاجة للدفاع عن النفس”، وتحولت إلى أداة للاستعراض في مناطق المدنيين خلال الأعراس والاحتفالات العامة وأثناء تشييع القتلى والضحايا، وأصبحت تصل بسهولة إلى أيدي أشخاص لا يتقنون استخدامها، مخلفين وراء استعراضهم المزيد من الضحايا والمآسي التي لا تنقص السوريين.
“من الاحتفالات ما قتل”
تجري العادة في سوريا أن يتمّ إطلاق الأعيرة النارية في المناسبات السعيدة، كتعبير عن الفرح، وفي محاولة منح القيمة لحدث يمكن أن يكون مروره عاديًا، دون “مشط الرصاص” الذي يُهدر على اسم صاحب المناسبة.
ولعلّ هذه العادات ترتبط بتاريخ عسكري مليء بالثورات والحروب في منطقة الشرق الأوسط، وتعززها العادات الاجتماعية القائمة على “إشهار” المناسبات الاجتماعية.
إلّا أن هذا الإرث الذي حوّل الكثير من الأفراح إلى مآتم، لم يجد في “الدول الحديثة” ما يضبطه ويهذبه، ولم تفلح “القوانين المدنية” في تغيير أنماط التعبير “العسكرية” عند الناس.
أما اليوم في سوريا فيبدو أنّ هذه الطريقة من التعبير لم تعد تقتصر على الأفراح، بل أصبحت تترافق مع أغلب الأحداث العسكرية على الأرض خلال الحرب، وتستدعيها “الانتصارات”، وتشييع الضحايا.
كما يعزّز الانتشار غير المنضبط للسلاح، وتسهيلات الحصول عليه من فرص استخدامه في غير مكانه، وبالتالي زيادة عدد الضحايا والمصابين جرّاء هذا الاستخدام.
تحت رصاص “الشبيحة”
تتعدد في مناطق سيطرة النظام أسباب الاحتفال من وجهة نظر مواليه وقوات “الدفاع الوطني” والميليشيات الرديفة الأخرى، وتكثر معها حالات القتل العشوائي لمدنيين.
كما يرتبط جزء من حالات سوء استخدام السلاح بالأحداث السياسية والعسكرية، وتشييع قتلى المعارك، وفي حالات إسعاف الجرحى، والخلافات بين عناصر الميليشيات الموالية.
في مدينة اللاذقية، التي ينتشر فيها السلاح بين المدنيين، تسببت حادثة إطلاق نار عشوائي من قبل أحد أفراد ميليشيا “صقور الصحراء” بمقتل عائلة كاملة، مكونة من خمسة أشخاص، في نيسان الماضي، وهو ما خلّف حالة غضب شعبية كبيرة، أُخمدت بوعود من مسؤولي المحافظة بـ “محاسبة المجرمين”.
وكانت حادثة مقتل شاب في السادسة عشر من العمر في تموز الماضي إثر “لعبة ورق” هزّت مدينة دمشق، بعدما تبين أن الجاني هو ابن أحد المسؤولين، وتمّ تهريبه خارج البلاد، لتدرج القضية بعدها في سجلات القضاء دون محاسبة أحد.
أما في مدينة سلمية، بريف حماة، فسقطت شابة في الثامنة عشر من العمر، متأثرة بطلق ناري أثناء الاحتفال بنتيجة المباراة التي جمعت المنتخب السوري مع المنتخب الأسترالي في تشرين الأول الماضي.
وخلال احتفالات رأس السنة الميلادية الفائت، قتل ثلاثة أشخاص وأصيب نحو 50 آخرين في أنحاء متفرقة من سوريا، إثر عمليات إطلاق نار عشوائي احتفالًا بالعام الجديد.
ومؤخرًا، نعت صفحات موالية الشاب أحمد طلال فارس، وهو طالب في كلية الهندسة الميكانيكية ومخترع، أصيب “برصاصة طائشة” قرب ساحة العباسيين في دمشق.
مقاتلون ومدنيون “يلعبون” بالسلاح
تنشط تجارة السلاح في مناطق سيطرة فصائل المعارضة، ما يسهّل امتلاكه بالنسبة للمقاتلين والمدنيين بصورة كبيرة، دون الحاجة للحصول على تراخيص، أو وجود جهات رقابية ذات سلطة، فضلًا عن التوتر الأمني الذي يدفع بالمدنيين إلى امتلاك السلاح لـ “الدفاع عن النفس”.
الانتشار الكثيف للسلاح انعكست نتائجه السلبية على المدنيين في أغلب الأحيان، خاصّة في حالات الاقتتال الداخلي بين المجموعات العسكرية، أو في حالات التشييع، وأيضًا في الأفراح والمناسبات الاجتماعية.
مسؤول الدفاع المدني في مدينة إدلب، يحيى عرجة، أكد لعنب بلدي أن عدد ضحايا الاستخدام العشوائي للسلاح يتراوح بين 5 و10 شهريًا، بين جريح وقتيل.
أما ضمن منطقة عمليات “درع الفرات” شمالي حلب، فقد سبّب الاستخدام العشوائي للسلاح في المناسبات الشعبية 34 إصابة بين أعراس وغيرها من الاحتفالات، وفق اللواء عبد الرزاق أصلان، القائد العام لـ “قوات الشرطة والأمن العام الوطني”.
أصلان أكّد لعنب بلدي أن منطقة ريف حلب الشمالي شهدت العشرات من الإصابات الناتجة عن إطلاق نار مرتبط بخلافات شخصية يتم خلالها استخدام السلاح، ما يؤدي إلى إصابة مدنيين لا علاقة لهم بالحادثة.
وفي درعا جنوبًا، رصد مراسل عنب بلدي عدّة حالات لضحايا الاستخدام العشوائي للسلاح، بعضها متعلق بخلافات فصائلية، وأخرى ناتجة عن تشييع ضحايا أو احتفالات.
فخلال الأسبوع الماضي، قضت طفلة في مدينة الصنمين إثر خلافات بين مقاتلين، كما أسفرت حادثة مشابهة عن مقتل رجل في بلدة كفر شمس.
أما ضحايا الاحتفالات فتتزايد أعدادهم بوضوح، خاصة في منطقة مخيم النازحين قرب مدينة داعل، حيث يمكن للرصاص العشوائي أن يخترق قماش الخيام بسهولة، ويوقع ضحايا أبرياء.
“عسكرة المجتمع”..
تحديات تهدد حاضر ومستقبل السوريين
طُرحت مشكلة ضحايا الرصاص الطائش بكثرة، في الآونة الأخيرة، داخل مناطق النظام السوري ومناطق معارضيه، وسط تحذيرات لم تحكمها قوانين ضابطة، لصعوبة السيطرة على منابع تلك الأسلحة، التي تسربت إلى أيدي مواطنين “باحثين عن الأمان”، أصبحوا فيما بعد باعث قلق ومصدر فقدان الأمان لمواطنين آخرين.
تغيب الأرقام الرسمية الدقيقة حول عدد الضحايا الذين قتلوا أو أصيبوا تحت تأثير الرصاص العشوائي في المناطق المدنية، باستثناء بعض الأرقام الصادرة عن جهات محلية عاينت أشخاصًا قتلوا وأصيبوا جراء عيارات نارية أطلقت في المناسبات الحزينة والسعيدة على حد سواء.
عنب بلدي تواصلت مع الجهات المعنية في المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية، للتعرف إلى مظاهر وأسباب انتشار السلاح بين المدنيين وأثر الحرب في تعزيز هذه الظاهرة.
دوافع فطرية
في درعا، تنتشر ظاهرة حيازة السلاح بين المدنيين بشكل غير معهود، وفق ما نقل مراسل عنب بلدي في درعا البلد، مشيرًا إلى توجهات مدنية نحو شراء الأسلحة تحت دعوى “حماية النفس”، في وقت يهيمن عليه الانفلات الأمني.
وتعليقًا على هذه الظاهرة أرجع عصمت العبسي، رئيس محكمة “دار العدل” في درعا، أسباب انتشار الأسلحة بأيدي المدنيين إلى عدة أمور، لخصها بـ “دوافع فطرية موجودة لدى كل إنسان في أوقات الحروب والأزمات، من أجل حماية النفس والعرض والمال والأهل من أي اعتداء خاصة مع غياب جهاز الشرطة وأمن الطرقات”.
العبسي أضاف في حديثه لعنب بلدي أن سهولة حيازة السلاح في درعا وغياب الإجراءات اللازمة وعدم تطبيق الشروط القانونية لحيازة السلاح، ساعد على انتشاره بكثرة في كل منزل.
ومع ذلك، يقول رئيس المحكمة إن الإصابات بسبب الرصاص العشوائي في الاحتفالات والمناسبات “محدودة نسبيًا”، وغالبًا ما تحدث أثناء مشاجرات فردية بين شبان لا يجيدون استخدام السلاح، أو من خلال المزاح فيما بينهم أثناء فك وتركيب السلاح.
فراغ أمني
في ريف حلب الشمالي لا يختلف الوضع كثيرًا، إذ أصبحت حيازة المدنيين للسلاح “ظاهرة اعتيادية” في السنوات الأولى للحرب في سوريا.
وفي هذا الصدد يقول اللواء عبد الرزاق أصلان، القائد العام لقوات الشرطة والأمن العام الوطني في ريف حلب الشمالي، إن الظاهرة بدأت قبل تشكيل القضاء والشرطة في المناطق المحررة شمالي سوريا، إذ كان الحصول على السلاح سهلًا جدًا لأي شخص يمتلك المال، ولكن بعد تشكيل لجان قضائية وأمنية اتجهت الأمور نحو حصر السلاح بجهتين، هما قوات الشرطة والأمن العام الوطني، والجيش الحر، مشيرًا إلى مساعٍ مستمرة وتدريجية لضبط الموضوع.
وفي حديثه إلى عنب بلدي، أرجع أصلان سبب تسلح المجتمع السوري في ريف حلب الشمالي إلى فتح باب التسلح، بذرائع محاربة النظام والدفاع المشروع عن النفس، لكن مع التقلبات التي شهدتها المنطقة، وتعدد الجهات المسيطرة، انتشرت الفوضى وشاعت ثقافة امتلاك السلاح، وزادت جرائم السرقة والخطف، وكثرت العصابات التي وجدت في الفراغ الأمني فرصة لممارسة نشاطاتها.
وتابع “حتى نكون واقعيين لا يمكننا أن ننكر أنه في مرحلة معينة لم يكن أمام المدنيين غير هذا الحل لحماية أنفسهم، لكن الآن اختلف الوضع تمامًا، فانتشار السلاح بشكل عشوائي بيد المدنيين بات مشكلة، خصوصًا في المناطق التي توجد فيها قوات الشرطة الوطنية والمؤسسات الأخرى القادرة على لعب دور مؤسسات الدولة”.
وتزامنًا مع ذلك أشار اللواء أصلان إلى أن المجتمع بدأ يتقبل فكرة التخلي عن السلاح، خصوصًا بعد إساءة استخدامه في الأعراس والمناسبات الشعبية المحلية التي غالبًا ما يخلف استخدام السلاح فيها إصابات في صفوف المدنيين.
استعراض القوة
في إدلب المدنية، يقول مسؤول الدفاع المدني، يحيى عرجة، إن السلاح منتشر بين المدنيين في المدنية، كونه يعطيهم شعورًا بالأمان، حسبما يعتقدون.
عرجة، الذي عاين حالات عدة أصيبت “برصاص عشوائي ومنظم”، أضاف لعنب بلدي أن المشكلة تكمن في توفر السلاح بسهولة بين أيدي القاصرين، الذين يستعرضون قوتهم من خلاله ويدخلون في مشاجرات تنتهي بإصابة أو مقتل أحدهم في أغلب الأحيان.
أما في ريف حلب الغربي، فتختلف تجربة تسليح المدنيين عن المناطق السابقة، ويقول مدير شرطة حلب الحرة، أديب الشلاف، إن السلاح ينتشر في المنازل التي ينتسب أحد أبنائها إلى فصيل عسكري فقط، “أما بين المدنيين البعيدين عن حياة العسكرة فنادرًا ما نرى السلاح، وفي حال وجوده يتم إخفاؤه ولا يظهر بشكل علني في الشوارع”.
الشلاف أضاف لعنب بلدي أن إساءة استخدام السلاح غالبًا تكون في الأعراس أو أثناء تشييع الجثامين، مشيرًا إلى ندرة استخدامه في المشاجرات أو بين أيدي عصابات. واعتبر أن انتشار السلاح بين المدنيين “أمر طبيعي” لقرب الجبهات من مناطق سكنهم وعملهم.
حيازة السلاح في القانون السوري..
ماذا عن الترخيص؟
ينص المرسوم التشريعي، رقم “51” عام 2001، من قانون حيازة الأسلحة السوري، على 55 مادة ضبطت موضوع “الأسلحة والذخائر” في المجتمع السوري بكافة جوانبها.
المادة “5” من المرسوم السابق تنص على “حظر حمل أو حيازة المسدسات الحربية وبنادق الصيد وذخائرها من غير ترخيص مسبق”، فيما تنص المادة “10” منه على أن “الحد الأقصى لعدد الأسلحة المسموح بترخيصها للشخص الواحد هو مسدس حربي واحد وبندقية صيد واحدة”. وتحرم المادة “11” من المرسوم التشريعي استعمال الأسلحة في المناطق السكنية وأثناء التجمعات مثل الحفلات والمخيمات، وفي المناطق الصناعية والنفطية. أما المادة “18” تشترط في طالب أي ترخيص أن يكون قد أتم الـ 25 من عمره، وأن يكون غير محكوم، ومقيمًا على الأراضي السورية، فضلًا عن “أهليته الصحية”. |
بعد العام 2011، بدا المرسوم الخاص بحيازة السلاح في القانون السوري “غير قابل للتنفيذ” في المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام السوري والخارجة عنها، خاصة مع انتشار الميليشيات المسلحة في كلتا المنطقتين مع تحول الحراك السلمي إلى مسلح.
ثغرات رقابية وتسهيلات عدة ساعدت في إضفاء الصبغة العسكرية على المجتمع المدني داخل سوريا، وجعلت الأسلحة الخفيفة والثقيلة متاحة وبسهولة في محلات تجارية منتشرة في الأسواق العامة.
إلا أن الثغرة الأكبر في هذا المجال كانت امتلاك المدنيين للسلاح دون الحصول على ترخيص قانوني من الجهات المختصة في مناطقهم، فيما شرّعت بعض الجهات الحاكمة في الداخل السوري قوانين أخرى سهلت من خلالها حصول المدنيين على الأسلحة وقدمت لهم الترخيص القانوني ضمن شروط.
في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة تكاد تغيب الإجراءات الناظمة لموضوع حيازة السلاح، وفق ما أفاد مراسلو عنب بلدي في درعا وإدلب وريف حلب. أما المناطق الخاضعة للإدارة الذاتية في الشمال السوري، فعملت على تنظيم موضوع حيازة السلاح عبر سن قوانين تمنح من خلالها الترخيص للراغبين في شرائه، ومع ذلك اعتُبرت هذه القوانين “سلاحًا ذا حدين” كونها سهلت شروط منح تراخيص السلاح.
في نيسان عام 2016، صادق المجلس التشريعي التابع للإدارة الذاتية في الحسكة، على قانون ترخيص السلاح خلال الجلسة العاشرة للمجلس، وذلك بعد تعديلات على مسودة القانون المقدم للمجلس.
وشمل القانون المصادق عليه تعديل العمر المسموح له حمل السلاح من 21 إلى 18 عامًا، وذلك “مراعاة لوجود عناصر من الأسايش ووحدات حماية الشعب في عمر الـ 18 عامًا، وقد يضطرون إلى حمل السلاح”.
ويحوي القانون 15 مادة تتطرق لمختلف الأمور المتعلقة بحيازة السلاح، من شروط الأهلية إلى رسوم السلاح ونوعه وكمية الأسلحة المسموح بترخيصها للشخص الواحد.
ومن هذه الشروط ألا يقل العمر عن 18 عامًا، وأن يكون الشخص من سكان المناطق الخاضعة لسيطرة “الإدارة الذاتية”، وأن يحصل على سند إقامة من “الكومين” (أصغر وحدة إدارية في الحي)، ومصدقة من “بيت الشعب” (الحلقة الإدارية في المنطقة)، التابعين للإدارة الذاتية.
المحامي رضوان سيدو قال إنه وبحسب القانون السوري وقانون الادارة الذاتية لا يُسمح لأي شخص حمل الأسلحة إلا اذ كانت مرخصة، مشيرًا إلى عقوبات عدة تنفذ بحق كل من يمتلك سلاحًا غير مرخص، أولها مصادرة السلاح منه وتغريمه ماليًا، فضلًا عن عقوبات بالحبس تتراوح بين ستة أشهر وسنة.
إلا أن العام 2011 قلب المشهد الخاص بحيازة السلاح، من وجهة نظر سيدو، الذي قال لعنب بلدي إن مشكلات خطيرة ظهرت نتيجة التهاون في منح التراخيص للمدنيين والسماح لهم بحمل السلاح.
وتابع “كل فرد في المجتمع أصبح يملك نوعًا من الأسلحة، سواء مرخصة أو غير مرخصة، يحملون الأسلحة معهم أينما ذهبوا، وعند أي خلاف أو شجار يقومون باستخدامها، وقد راح ضحيتها الكثير من الأبرياء”.
وطالب المحامي رضوان سيدو، من القامشلي، بضرورة ضبط هذه الظاهرة التي “تهدد أمن واستقرار المجتمع في المستقبل”، داعيًا إلى عدم منح تراخيص حيازة السلاح للمدنيين تحت أي شروط.
كيف انتشر السلاح في سوريا؟
باتت سوريا منطقة صراع مصالح دولية، تسرح فيها الأسلحة الروسية والأمريكية والإيرانية والتركية على أشكالها، يستخدمها النظام السوري والميليشيات التي تقاتل إلى جانبه، وتستخدمها فصائل المعارضة على اختلافها، بما فيها القوات الكردية.
ويعد العام 2013 هو النقطة الزمنية الفارقة والمرتبطة بظروف انتشار السلاح بين المدنيين في سوريا، إذ اقتصرت الأيام التي سبقت هذا العام على نشاط شبكات خاصة بتجارة الأسلحة بالتزامن مع خروج المظاهرات ورغبة المدنيين بحماية أنفسهم من القوات الأمنية التابعة للنظام السوري.
وساعدت الحالة الأمنية المتخبطة في السنوات الأولى للثورة السورية في ظهور تلك الشبكات، وتحديدًا في المناطق الحدودية، من جهة العراق وتركيا شرقًا وشمالًا، وفي الجنوب من جهة الأردن، ولبنان من الغرب، لينتشر البيع والشراء علنًا وبأسعار ساعدت على رواجها، في ظل تغاض من قبل النظام السوري، قال محللون إنه “متعمد”، ويهدف إلى تحويل الحراك الشعبي لعمل مسلح.
أنواع مختلفة وبأسعار تبدأ من 20 ألف ليرة سورية، بالإضافة إلى أصناف لا تعد من الذخائر، سواء الخفيفة كـ “كلاشنكوف” أو الثقيلة كقذائف “آر بي جي”، وغدت تجارة السلاح “ثقافة” يتفاخر بها المدنيون، حتى أطلقت مسميات على القطع التي يتم ترويجها للبيع كـ “أم العواصف، العراقية، أبو ذقن، ناتو، الباكستانية”.
وتنوعت الذخائر والقطع المدخلة إلى سوريا، وكانت فصائل المعارضة ممرًا أساسيًا لها نحو الداخل، وخاصة المناطق الوسطى، التي اعتمدت على سلاحها من المناطق الشمالية والشرقية عبر تجار يشترونها من داخل الأراضي التركية والعراقية، كما كان لها دور في عملية الانتشار في مناطق الجنوب السوري، كدرعا والقنيطرة، عبر وسطاء من الأراضي الأردنية.
ولا يمكن حصر مسؤولية انتشار الأسلحة على المعارضة، إذ كان للنظام دور بارز عن طريق ميليشياته المنضوية في “الدفاع الوطني”، والتي امتهنت تجارة السلاح وتولت مسؤولية نشره، بالإضافة إلى جنود “الجيش السوري” الذين تحولوا مع مطلع 2014 إلى تجار سوق أيضًا، وكانوا المصدر الأساسي للأسلحة في مدينة دمشق وريفها، والمدن الرئيسية للنظام السوري في اللاذقية وطرطوس.
عقب العام 2015 انتقل سوق بيع السلاح من المحال التجارية المنتشرة شمالًا في القرى الحدودية، إلى مواقع التواصل الاجتماعي، ورصدت عنب بلدي صورًا لأسلحة متنوعة كتب على كل منها السعر بالدولار، وتفاعل مع الصور عدد كبير من الناشطين بين مقيّم للأسعار وساخر.
وغدت إدلب المحافظة سوقًا سوداء لبيع السلاح، وخصص تجار صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي (“فيس بوك” و”تلغرام”) لعرض بضاعتهم، وزاد من الأمر الأعداد الكبيرة من المقاتلين الذين استقبلتهم في السنوات الماضية، والذين باعوا معظم الأسلحة الخاصة بهم في السوق السوداء وضمن الوسط الخاص بالمدنيين.
جهات “تناضل” لضبط استخدام السلاح
تأخذ سوريا منذ العام 2012 شكل ساحة معركة بمساحة 185 كيلومترًا مربعًا، كما تكاد المناطق “الآمنة” تبدو شبه منعدمة، وهو ما جعل من انتشار السلاح بين المدنيين أمرًا يصعب ضبطه، في ظل وجود مئات الفصائل والميليشيات التي تقاتل على الأرض، وتضطلع بمهام إدخال أسلحتها إلى مناطقها.
رغم ذلك، أبدت جهات أمنية وشرطية وقضائية ومدنية في مناطق سيطرة المعارضة تحركات حثيثة في سبيل ضبط الاستخدام العشوائي للسلاح، إما عبر قرارات محلية يخضع لها المدنيون والمقاتلون، أو عبر تحركات قضائية، أو حملات توعية.
أما في مناطق سيطرة النظام، بدت المحاولات خجولة وتقتصر على “تهدئة المواطنين” عبر قرارات بسحب بعض البطاقات الأمنية من عناصر “الدفاع الوطني”، وبالتالي حرمانهم من حيازة السلاح واستخدامه دون ضوابط، أو رفع مستحقات ترخيص الأسلحة بشكل بسيط.
“قوانين عقوبات” محلية
يشير اللواء عبد الرزاق أصلان، القائد العام لقوات الشرطة والأمن العام الوطني، إلى أن “العمل يجري حاليًا بهدف ترخيص الأسلحة وفق معايير قانونية، إضافة إلى ضبط أي محاولة لبيع السلاح بشكل عشوائي، وفق خطة مدروسة بدأت نتائجها تظهر الفارق بين الوضع السابق والوضع الحالي”.
ويضيف اللواء أصلان في لقاء مع عنب بلدي، “نحن كقوات شرطة وأمن عام وطني نقوم بعقد التفاهمات مع الجيش الحر من خلال تحديد وترخيص نوع السلاح الذي يمكن للأفراد الحصول عليه والاحتفاظ به ضمن الاصول والقانون، وبالتالي كل سلاح مخالف وغير مصرح عنه وليس مرخصًا سيصادر”.
ولا تخلو مهام الشرطة الحرة من بعض المصاعب في هذا السياق، إذ يؤكد اللواء أصلان أن قوات الشرطة تضطر أحيانًا للدخول في معارك مع بعض الذين يستخدمون السلاح بشكل خاطئ، قبل سوقهم إلى القضاء.
خطوات مشابهة اتخذتها الهيئة الشرعية في مدينة الدار الكبيرة في ريف حمص الشمالي، إذ أقرت مطلع الشهر الجاري عقوبات بحق حاملي السلاح وإطلاق النار، كما طلبت من كافة الفصائل إلزام العناصر بعدم حمل السلاح إلا في حال الذهاب إلى نقاط المراقبة.
ونصّ قرار الهيئة على معاقبة مطلق النار في المناسبات أو غير المناسبات بحجز السلاح لمدة 15 يومًا وغرامة مالية قدرها 150 ألف ليرة سورية، وفي حال التكرار يصادر السلاح مدة 30 يومًا مع غرامة مالية قدرها 300 ألف ليرة.
محاولات أخرى كانت قد اتخذت من قبل “الجيش الحر” في درعا، إذ منعت “فرقة أحرار نوى” العاملة ضمن فصائل “الجبهة الجنوبية” في درعا، منتصف العام الماضي، بيع وشراء السلاح في مدينة نوى، تحت طائلة المساءلة القانونية والغرامة.
كما أغلقت الفرقة جميع المحال والمراكز المخصصة لبيع وشراء الذخيرة والسلاح، ومنع تداوله “تحت طائلة المساءلة القانونية والغرامة المالية”.
وفي هذا الإطار يرى رئيس محكمة دار العدل في حوران، عصمت عبسي، أن ضبط استخدام السلاح بشكل عشوائي غير ممكن إلا عبر ضبط بيع السلاح.
العبسي أضاف في لقاء مع عنب بلدي أن “هناك توجهًا لضبط وحصر استخدام السلاح في الفصائل، وذلك يمكن إذا حدث تعاون وكان هناك جهاز شرطة منظم، وحينها يصبح بيع السلاح للمدنيين مشروطًا بالترخيص، ما يمنع الناس المشبوهة وغير المؤهلة من حمل السلاح”.
حملات التوعية.. “أضعف الإيمان”
تختلف إمكانية تطبيق بعض القوانين والقرارات المتعلقة بضبط استخدام السلاح في مناطق سيطرة المعارضة حسب الوضع الأمني، وخصوصية المنطقة من حيث الفصائل المسيطرة وطبيعة الجبهات المشتعلة.
وفق العميد أديب الشلاف، مدير الشرطة الحرة في حلب، فإن محاولات ضبط السلاح في حلب تعود إلى نحو أربعة أعوام، إلا أن الأمر لم يفلح بسبب قرب أغلب مناطق الأهالي من الجبهات، ما يجبرهم على استخدامه في حال “الدفاع عن الذات”.
العميد الشلاف أضاف لعنب بلدي، “في الفترة الأخيرة لجأنا إلى حملات التوعية بين المدنيين، ونشرنا لافتات وبروشورات، طلبنا فيها من العناصر المسلحة عدم استخدام أو حمل أسلحتهم بين المدنيين”.
ويؤكد العميد الشلاف أن هناك تعاملًا إيجابيًا مع الشرطة الحرة من قبل منظمات المجتمع المدني والمجالس المحلية، ويضيف “حين تكون هناك أي حادثة، ونتأكد من هوية مستخدم السلاح، يتم توقيفه ويقدم للقضاء وإبلاغ القائد العسكري في مجموعته، وهناك تعاون من قبل الفصائل في هذا السياق”.
الشرطة الحرة في إدلب قادت حملات توعية مشابهة، ففي أيار الماضي أطلقت حملة بعنوان “لا تقتلني بفرحتك” في مسعى للحد من إطلاق النار في المناسبات، وحثّت المدنيين على عدم استخدام السلاح بشكل عشوائي.
المسؤول في الدفاع المدني ضمن إدلب، يحيى عرجة، يرى أن حملات التوعية يجب أن ترفق بخطوات عملية، ويؤكد أهمية “سحب السلاح من المدنيين وفرض ترخيصه بشروط”.
من ينزع السلاح من أيدي المدنيين والعسكريين بعد انتهاء الحرب؟
مشكلة “فوضى السلاح” تلك، تطرح علامات استفهام حول مستقبل ينتظره “المجتمع السوري المسلح”، يبرز فيه السؤال الأهم: كيف سيتم نزع السلاح ومن سيضبط التراخيص؟
تعليقًا على ذلك أوضح الحقوقي السوري، بسام الأحمد، مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” ومقرها اسطنبول، أن الموضوع منظم دوليًا وفق عمليات “الأمم المتحدة لحفظ السلام”، من خلال برنامج يعرف باسم “DDR” والمقصود به “نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج”.
الأحمد قال لعنب بلدي إن الهدف من البرنامج هو إعادة احتكار الدولة ومؤسساتها للسلاح، بما يضمن الاستقرار والأمن في المجتمع ويخلق جوًا من الثقة لدى المواطنين.
وتعتبر الأمم المتحدة أن عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة دمج المسلحين عناصر بالغة الأهمية في كل من عمليتي تحقيق الاستقرار الأولية للمجتمعات الممزقة وعملية تنميتها طويلة الأجل، ضمن خطة بناء سلام شامل.
ووفقًا لبرنامج “DDR” يتم جمع الذخيرة والمتفجرات والأسلحة الخفيفة والأسلحة الثقيلة من المحاربين، وفي أحيان كثيرة من السكان المدنيين، وتوثيقها وتحديدها ثم التخلص منها.
أما “التسريح” فيقصد به الإخراج الرسمي للمحاربين الفعليين من القوات المسلحة والجماعات المسلحة، ويشمل مرحلة “إعادة الإلحاق” التي تقدم مساعدة قصيرة الأجل للمحاربين السابقين.
فيما تعرّف الأمم المتحدة “إعادة الدمج” على أنها عملية يكتسب فيها المحاربون السابقون الوضع المدني ويحصلون على عمل ودخل مستدامين، تعويضًا عن انقطاع مصدر رزقهم عندما كانوا مقاتلين، وهي عملية سياسية اجتماعية اقتصادية ذات إطار زمني مفتوح تتم بصفة رئيسية في المجتمعات على الصعيد المحلي.
الحقوقي بسام الأحمد أشار إلى أن الخطوات السابقة يجب أن تتم في “إطار قانوني” يلزم الجميع دون استثناء بالخضوع له ويعمل على ضبط عمليات نزع السلاح من الألف إلى الياء.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :