عن غرامنا بالجثث

tag icon ع ع ع

عمر قدور – المدن

ماذا لو كنت شاباً سورياً وتعرّضت أختك أو زوجتك لاغتصاب ممنهج في سجون الأسد؟ من المحتمل طبعاً أن هذا الشاب سينجو بحياته، وسيحاول فتح صفحة جديدة في بلد آخر، بل سيحاول نسيان بلده الأصلي بالمطلق عسى أن ينسى تلك الشوكة في قلبه. ومن المحتمل بالطبع أن يكون الشاب نفسه “لا أخته” هو من تعرّض للاغتصاب والتعذيب المنهجيين، مثلما من المحتمل في الحالتين ألا يرى العالم إلا من خلال الانتهاك الفظيع الذي خضع له، وأن ينظر بعين المساواة إلى جسد قريبته وأجساد العالم جميعاً، أي أن ينظر إليها كأشياء وكوسائل للانتقام فحسب.

ماذا لو كنت سورياً ورأيت جثة أحد من عائلتك، ضامرة هزيلة مثقوبة بالتعذيب، ضمن الصور التي كُشف عنها في ما يُعرف بقضية سيزار عن القتل تحت التعذيب في سجون الأسد؟ ثمة احتمال بالطبع لأن يرى هذا الشاب خلاصه في البحث عن العدالة والسعي إلى محاكمة المجرمين، لكن، ثمة احتمال لا يقل وجاهة لأن يتحول إلى منتقم يريد تحويل كل ما يمت بصلة لأولئك القتلة إلى جثث على النمط نفسه الذي شاهده في صور سيزار.

ماذا أيضاً لو رأيت جثة أخيك المقاتل ضمن جثث مصفوفة في شاحنة كأنها قطع من السردين تجول في شوارع مدينة عفرين، ويقوم عناصر من الميليشيات الكردية أو أناس عاديون بالتقاط الصور التذكارية مع جثة أخيك؟ طبعاً من المرجح في هذه الحالة أنك تضع احتمال مقتل أخيك في الحسبان، بصرف النظر عن عدالة حربه أو عدمها، أما التقاط صور الـ”سيلفي” معها فشأن آخر قد لا تتسامح معه مثل التسامح مع الموت.

وإذا صادف وكنت قريباً للمقاتلة الكردية بارين كوباني، أو تجمعك بها عصبية من أي نوع، فلا شك أن منظر جثتها العارية والدوس فوقها مع التعليقات المخزية غير الإنسانية من قاتليها، كل هذا قد يجعل العدالة آخر ما تفكر فيه، ولا يُستبعد أن يكون الثأر أول خاطر يجول في ذهنك، أو حتى أن تتمنى لو تلوك جثث أولئك القتلة بأسنانك.

هذه الأسئلة والافتراضات لا تنصرف إلى الضحايا الذين قُتلوا وتم التنكيل بهم، بل تنصرف أساساً إلى الذين يُعرفون قانونياً بالضحايا من الدرجة الثانية أو الثالثة، مع التنويه بأن عدداً هائلاً من الضحايا لا يقع ضمن هذا التصنيف، وهم ضحايا الجو العام للعنف والوحشية من دون التعرض لهما مباشرة أو عبر أحد الأقارب، يستوي في ذلك أكانوا رمزياً من جهة المقتولين أو من جهة القتلة. ويلزم التنويه بأن هذه الممارسات باتت توصف بالداعشية بما يحرف الأنظار عن نقاش موضوعي فيها، فأول من ذبح الناشطين والأطفال بالسكاكين في مجازر عديدة كانوا شبيحة الأسد، وأول من التقط الصور مع الجثث بتباهٍ كان مذيعو ومذيعات الأسد، وهذا كله مسجّل وموثّق قبل الطارئ الذي مثّله وجود دولة داعش واستمر أثناء وجود التنظيم وبعد القضاء عليه. ممارسة العديد من الأطراف لهذه الفظائع تنزع عنها الصفة الدينية، وهي للحق ممارسات وجدت من قبل ولم تلتصق بمذهب أو دين أو قوم.

ولأن هذه الممارسات لم تختص بها جماعة بشرية عبر التاريخ، وفي الوقت نفسه شهدت ازدهاراً في العديد من الصراعات، سيكون من الأفضل تحري ذلك الغرام بالجثث، أو الغرام بسحق الجسد البشري واغتصابه بمختلف الطرق حياً. فالقتل هنا هو تفصيل ثانوي، بل يكاد يكون الأشد هامشية بالمقارنة مع التنكيل، وفي كثير من الحالات يكون القتل رحمة قياساً إلى التنكيل ذاته. وما يزيد الأمر سوءاً وجود مختلف الأسلحة الحديثة التي تجعل القتل أكثر رأفة بالقاتل نفسه، من منطلق أن القتل يصبح أسهل كلما كانت الضحية بعيدة عنه، إلا أن قتلتنا لا يريدون ترك مسافة بينهم وبين الضحايا، بل يريدون التأكيد على تماسهم الفيزيولوجي مع الضحية من منطلق استهتارهم التام بها، أو على نحو أدقّ من منطلق استهتارهم التام بالمجموعة البشرية التي تنتمي إليها الضحية.

هذه الوحشية القصوى كانت تاريخياً سمة حروب الإبادة والاستيطان، وكانت دائماً سمة الحروب الأهلية التي يكون هدفها عادةً محو الآخر من الوجود، أو تقليل وجوده البيولوجي إلى الحد الأقصى. في هذه الحروب يكون سحق الآخر نفسياً وجسدياً من طبيعة الحرب، بمعنى عدم إمكانية ردّ هذه الممارسات إلى اختلالات شخصية للمحاربين، وكل ما أضافته العصور الحديثة من قوانين حرب ومن إعلانات عن التقيد بها لم تعدّل من منسوب الوحشية في هذا النوع من الصراعات. غاية الوحشية بهذا المعنى أيضاً هي قطع الطريق نهائياً على احتمالات السياسة أو التعايش، وبهذا تلتقي مع أحد تمظهرات النيكروفيليا وفق علم النفس وهو الوجه الذي يرى في القوة والدمار حلاً لأية مشكلة، فضلاً عن تلازم اعتماد القوة مع الإحساس الشديد بالتملك وعدم قبول منطق المشاركة مع الآخر.

سحق الضحايا والتنكيل بأجسادهم، أو التنكيل عبرها بجماعاتهم، لا يحدث عادة في المعتقلات أو في ميدان المعركة فحسب. إنه يحدث أولاً بتهيئة القتلة، وبتهيئة المناخ العام الذي سيتقبل أفعالهم بترحاب، أو على الأرجح سينظر إليها كنوع من البطولة سراً إن لم يكن علناً. في حالتنا السورية كان هذا يحدث طوال الوقت وبسخاء قلّ نظيره، ومن المؤكد أن وسائل التواصل الاجتماعي “بخلاف تسميتها الأصلية” كانت الميدان الأنسب لاستباحة الآخر معنوياً والتهيئة لاستباحته فعلياً. فعلى صفحات التواصل الاجتماعي حدثت تغطية أشنع الأفعال ومباركتها وإيجاد مبررات لها، وحتى حينما كان يجري إنكارها في بعض الأحيان كان هدف الإنكار هو سحق الضحية مرة أخرى بالقول ألا وجود لها كضحية أيضاً، أو أنها لا تستحق شرف أن تكون ضحية. ذلك يشبه تماماً أن تقوم قوات الأسد باستخدام السلاح الكيماوي ثم تنكر استخدامه، رغم معرفة العالم كله بكذبها ورغم تقديم أدلة حاسمة على استخدامه، فالغاية هنا ليست التهرب من المسؤولية عن الإبادة وإنما سحق الضحية مرة أخرى بإنكار وجودها.

الحق أنه، إذا أخذنا في الحسبان حملات الإبادة والتنكيل على وسائل التواصل الاجتماعي، ستبدو الحصيلة الواقعية من التنكيل أدنى من المتوقع، باستثناء التنكيل المنهجي الذي يقوم به تنظيم الأسد ويتغاضى عنه العالم. ذلك يعني أن كل ما شهدناه حتى الآن، أو ربما ما لم نشهده لأنه بقي بعيداً عن التصوير، لا يعبّر بما يكفي عن غرام أعمّ بالجثث، ويعني على الأرجح أننا قطعنا مسافة بعيدة عن بوابة الجحيم.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة