“فيلم غير مكتمل عن النوارس”.. مسرح متعدد اللغات في اسطنبول

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – علي بهلول

“موضوعنا اليوم عن الخوف، نحن خائفون لأننا لا نشعر بالأمان في عملنا”، تقول شخصية “أصلي” التي أدتها الممثلة التركية، بيزا دوت، ليدخل جمهور مسرحية “فيلم غير مكتمل عن النوارس” من خلال هذه العبارة إلى دائرة الضوء في حياة الشخصيات الخمس على خشبة المسرح، وهذه الدائرة بنفس الوقت هي الجانب المظلم من حياة السوريين الحقيقية في اسطنبول.

تقدم هذه العبارة كذلك تبريرًا للحاجة التي دفعت بالمخرج السوري، وسيم الشرقي، إلى تقديم عمل مسرحي متعدد اللغات (عربي – تركي – إنكليزي)، لجمهور لا يشترك بلغة واحدة أيضًا، وغالبًا يلجأ للغة الإنكليزية للتفاهم.

فالمسرحية، وإن سلطت الضوء بشكل رئيسي على معاناة العاملات والعمال السوريين في اسطنبول، حاكت مصير شخصياتها، السورية والتركية، بخيط “الخوف” الذي يجمعهم على اختلاف ثقافاتهم.

الاشتباك مع سؤال الاندماج والاختلاف

“خلال البروفات تحدث أحدنا بالعربي ورد عليه شخص آخر بالتركي، كان موقفًا مضحكًا، لكننا نقلناه إلى خشبة المسرح أيضًا”، تقول بيزا دوت لعنب بلدي.

وهو ما حدث فعلًا في أحد مشاهد المسرحية حين اتفق الممثلون أمام الجمهور على التحدث باللغة التي يشعرون بها، بينما تظهر ترجمة حوارهم على شاشة العرض في عمق المسرح.

“بسبب تعدد اللغات كان المخرج يضطر إلى إعادة توجيهاته أكثر من مرة للممثلين، أعتقد أنه أكثر من عانى بسبب اللغة، لقد أخرج العرض مرتين”، تقول مؤمنة عرنوس عن بروفات المسرحية، وهي التي جسدت دور “لين” مغنية الكورال السورية في تركيا.

تاج شير يعقوب، الذي جسد دور “جوان”، عامل في مصنع للسكر، اعتبر أن اختلاف اللغات بين الممثلين على صعوبته أسهم بنقل ثقافي بين الممثلين، إذ تعرّف كل منهم على أسلوب العرض المسرحي في بلاده، واستفاد من أفكار ربما كانت غائبة عنه، وفق تعبيره لعنب بلدي.

بالنسبة لمخرج العرض كان تعدد اللغات محاولة للخروج من دائرة النشاطات العربية- العربية، و”محاولة للاشتباك مع سؤال الاندماج والاختلاف مع المجتمع المشترك (السوري- التركي)، خارج المعنى الرومنسي لمفهوم الاندماج”، يوضح الشرقي لعنب بلدي، وهو ما سيبرز بشكل واضح لاحقًا عند الحديث عن “الفرضية الواقعية” للمسرحية.

المصاعب التي جمعت فريق العمل

لم تقدم المسرحية صورة لمجتمع متعدد ومختلف الثقافات فقط، بل قامت على جهود أشخاص أتوا من خلفيات متباينة في الواقع، وكثيرًا ما يتم تداول صورة هذا الاختلاف على شكل تضاد ومواجهة، لكنهم اتفقوا هنا على الاشتراك في تقديم ما يجمعهم من “مصاعب”.

عبد الرزاق حلوم، الذي جسد دور عامل في معمل خياطة يدعى “عمر”، أتى من مدينة “سراقب” في سوريا عام 2012، تاركًا دراسته في المستوى الثاني الثانوي، قبل أن يبدأ باستكمالها في اسطنبول بجامعة مرمرة في مجال “السينما والتلفزيون” منذ فترة قصيرة.

“أحد الممثلين معنا كردي وأنا عربي، كانت المسرحية فرصة للتعرف على المزيد من الكرد والأتراك، على اختلاف المناطق والثقافات”، يوضح حلوم لعنب بلدي.

أما بيزا دوت، فرأت أن الحياة في اسطنبول صعبة على السوريين والأتراك على حد سواء، بسبب غلاء المعيشة، وصعوبة العمل، لكن المسرحية سعت لتسليط الضوء على الماضي المختلف الذي جاء منه السوريون، ومرورهم بتجارب صعبة مثل الوحدة والخوف والنزوح.

الفرضية الواقعية

“كل سوري عايش باسطنبول سيعتقد أن القصة تحكي عنه”، ربما تضعنا هذه الجملة التي قالها حلوم في صورة واضحة لمدى واقعية الفرضية التي قامت عليها المسرحية، إذ استوحت أحداثها وأفكارها من تجارب حقيقية للعمال السوريين.

“يمكنني القول إن الممثلين هم من كتبوا نص المسرحية بنسبة 100%، بناءً على قصص عاشوها” يقول الشرقي “وخلال ورشة كتابة جماعية لمدة شهر، أعطيت خلالها تمارين كتابة وفرضيات عملوا عليها خلال هذه الفترة”.

عمل الشرقي بعدها على تركيب “حكاية” من هذه الكتابات، “وهو ما يفسر ربما وجود مفاصل غامضة من العرض لأن التجربة انفتحت على حياة خمس شخصيات”، يوضح الشرقي.

وبالرغم من ندرة وجود أشخاص غير محترفين متحمسين لعرض قصصهم على خشبة المسرح، تعرّف الشرقي على أبطال عمله حلوم ويعقوب، من خلال إعلانات وضعها في مجموعات السوريين بتركيا على مواقع التواصل الاجتماعي.

جمع الشابان بين التجارب الفنية الصغيرة سابقًا، وتجربة العمل في اسطنبول، لتقوم المسرحية على هذه المساحة المشتركة، وقدما شخصية عاملين في تركيا، وهما هواة في عالم التمثيل بنفس الوقت، ويحاولان تأدية مسرحية “طائر النورس” لأنطون تشيخوف.

الفرضية نفسها التي اختارها الشرقي لتدور المسرحية حولها، جاءت من خلفية سبق له معرفتها خلال عمله الصحفي في تركيا، بين غازي عنتاب واسطنبول.

“في المعامل، السوريون والسوريات غالبًا ليسوا على علاقة صداقة ندية حقيقية مع الأتراك، بسبب حاجز اللغة والتعب وضيق الوقت، بالرغم من وجود استثناءات أكثر حظًا”، يقول الشرقي.

“أما الدوائر الأقل حظًا، وهو ما تطرحه المسرحية، فغالبًا يكون التركي الوحيد القادر على أخذ السوريين على محمل الجدية هو الصحفي، لأن الناس (السوريين والأتراك) لديهم ما يكفيهم من متاعب”.

ويردف الشرقي “لكن النتائج أحيانًا لا تكون صحيّة فهذا النمط من العلاقة يترك آثاره على شخصية اللاجئين وشخصية المجتمع المستضيف”.

لذلك تأسست الفرضية على صحفية تركية هي “أصلي” تريد العمل على فيلم وثائقي عن العمال السوريين، والتي تشترك معهم بـ “خوفها” من فقدان عملها، في محاولة لوضع الشخصية التركية ضمن إطار الصورة التي تجمعها بالشخصية السورية على أرض الواقع.

هذا السبب هو ما دفع الشرقي للـ “مخاطرة” في إخراج عرض مسرحي متعدد اللغات، لممثلين غير محترفين، ما سبب أحيانًا تضاربًا في الترجمة، فالنص تفاعلي وليس كلاسيكيًا، وقد تتبدل تراتيب الجمل والحوار خلال الأداء.

تقاطع الواقع مع المسرح

الممثلة الوحيدة المحترفة في العرض كانت هلا صياصنة التي أدت دورًا صامتًا لعاملة “أمبلاج” في معمل خياطة، دون أن يكون لها اسم حتى.

وبالرغم من أنها الجانب التمثيلي الوحيد من العرض، إلا أنها تعكس حياة شخصيات حقيقية مستمرة على أرض الواقع.

فحتى نهاية البروفات وبدء العرض الافتتاحي في 22 كانون الأول، في مركز “أوندر بابات” الثقافي، وصلت لفريق العمل أخبار عن نهايات مأساوية لثلاث عاملات سوريات في مناطق متفرقة من تركيا، مشابهة لنهاية عاملة “الأمبلاج” المأساوية.

يعكس هذا التقاطع بين المسرح والواقع، الأجواء التي رافقت ظهور مسرحية “طائر النورس” لأنطون تشيخوف عام 1896، حين ساد شعور من الإحباط بين الناس والتوق للحرية، التي يرمز إليها النورس، في نقلة نوعية بالربط بين الأسلوب الرمزي والواقعي، وفق رؤية بعض النقاد.

ربما يكون الفيلم الوثائقي غير المكتمل للصحفية التركية عن “طيور النورس” السوريين، محاكاة لحلم إنساني مستمر في التحرر من قيود الواقع، الذي يفرض شروطه على “الفئات الأقل حظًا”، باختلاف ثقافاتهم ولغاتهم.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة