واحد.. إيكي.. ثري.. أطفال سوريون حيّرتهم التركية

camera iconفعالية ترفيهية للأطفال في مدينة اسطنبول 2016( عنب بلدي)

tag icon ع ع ع

فريق التحقيقات في عنب بلدي

يصدف أن يولد طفل أشقر لأبوين أسمرين، وتستقطب الحالة تغطية إعلامية وأخذًا وردًا بين الأطباء لفرادتها، لكن أن يتحدث طفل عربي أولى كلماته بالتركية فهو ما يجلب الارتباك والحيرة لوالديه فقط.

يخلط فارس ابن الثلاث سنوات العربية بالتركية بالإنكليزية في جملة واحدة، وسط ارتباك يبديه والده لتلبية احتياجاته، وخوف من ضياع لغته وغياب التركيز في العملية التعليمية مستقبلًا.

فارس وشقيقه سيف أبو سعدا (خمس سنوات) يعيشون في مدينة غازي عنتاب التركية، ويستخدمان ثلاث لغات في الحياة اليومية، ويجيدون لفظ مخارج الحروف وكأنهما تركيان.

مترجمبعمر خمس سنوات

ربما تبدو الحالة مثالية لمن لا يتحدث أكثر من لغة، لكنها تحمل في طياتها أزمة خيارات للسوريين المقيمين في تركيا حول الاستقرار واللغة التي يريدون أن ينطق بها أبناؤهم كلماتهم الأولى.

لا استقرار هنا، يجمع بعض من التقتهم عنب بلدي في تركيا، فإما البحث عن الانتقال إلى أوروبا وكندا، أو الأمل بالعودة إلى سوريا إن وضعت الحرب أوزارها. هذا الإحساس ينعكس على كل تفصيلة في حياة اللاجئين، فقد تجد شبابًا أمضوا ثلاث سنوات في تركيا ولا يستطيعون إلى اليوم فتح نقاشٍ مع جيرانهم الأتراك، ويقتصر ما يعرفونه من التركية على الكلمات المقتبسة من العربية.

بالنسبة لأحمد، والد فارس وسيف، فلا تشكل القضية هاجسًا كبيرًا، بعدما بات فارس اليوم أكثر قدرة على التمييز بأن والده لن يفهم عليه سوى اللغة العربية، فيخاطبه بها.

أما سيف فقد أصبح رفيق والده (30 عامًا) إلى المؤسسات التركية، ومترجمه المباشر الذي لا يخذله، وقد استعان للمرة الأولى بخبرات طفله في إجراءات لدى مؤسسة المياه.

ولأن اللغة مفتاح رئيسي في مراحل التعليم يحار الأهل باختيار المدرسة الأولى لابنهم، لذا تنقل عدد من الأطفال الذين عاينتهم عنب بلدي بين أكثر من مدرسة في عمر لا يتجاوز الأربع سنوات، بين مدرسة تركية أو سورية، أو تركية تعلم الإنكليزية.

تجربة الهجرة، ماتزال حديثة العهد، لذا لا يؤمن كثير من اللاجئين في تركيا بأنهم لن يعودوا إلى سوريا، ولا يريدون تكرار نماذج أولاد المهاجرين حول العالم المنسلخين عن موطنهم الأصلي ولا يعرفون لغته وهويته.

مفاتيح المدرسة السورية ليست بيد السوريين

المستشارة الأسرية والتربوية نور نحاس ترى أن القضية ليست تربوية بقدر ما هي سياسية واقتصادية، فإذا أردنا الخوض في المثاليات فالأفضل أن يتعلم الطفل لغته الأم، لكن المشكلة أنه ليس كل الأهل لديهم القدرة على دفع رسوم باهظة، فبعض ميسوري الحال يرسلون أولادهم إلى مدارس خاصة سورية، والفئة الأكثر يسرًا تسجل أولادها في مدارس دولية لتعلم اللغتين الإنكليزية والعربية.

أما الواقع فالفئة العامة متوسطة الدخل، وهي الغالبية العظمى، لا يتمكنون من التسجيل بهذه المدارس، لذا فالخيار المتوفر أمامهم هو المدارس التركية.

وتترواح أسعار الاشتراكات الشهرية في الروضات السورية الخاصة بين 350 و500 ليرة (كل يورو يقابل 3.9 ليرة) دون مواصلات ومستلزمات مدرسية، في حين تبدأ أسعار الروضات الدولية بـ 650 يورو.

ولا تختلف الاشتراكات في الروضات التركية الخاصة كثيرًا، لكن توجد روضات تابعة للبلديات والحكومة تتقاضى رسومًا رمزية، وهي هدف العائلات السورية بصورة رئيسية.

ويحتاج أطفال المدارس التركية إلى ”كورسات“ عربية في المنزل، وفق ما تقوله الاستشارية نحاس، معتبرة أن اللغة العربية الفصحى خاصة تعطي الرافد اللغوي مفردات ضخمة ومرادفات كثيرة تمنح ذكاء لغويًا عاليًا للطفل خلال نموه، أما التركية ففقيرة جدًا وأكثر من 50% من تعابيرها مقتبسة من لغات أخرى، بينها العربية.

وراء الجدران.. عليكم باللغتين

في المنزل تزداد الأمور تعقيدًا، وهناك مشكلتان رئيسيتان، الأولى عندما يتعلم الطفل كلمات تركية ولا يستطيع الأهل استيعابها، وهذا ينعكس على الطفل ويعتقد أن احتياجاته لم تلبّ بالشكل الذي يريده أو أن أهله يحرمونه منها.

السلوك الذي يولد المشكلة الأصعب، بحسب نحاس، هو أن يفرض الأهل على الطفل إحدى اللغتين أو يصطدموا معه، كأن يتعلم الطفل التركية جيدًا، وعندما يحكي مع والدته بالتركية تأمره بالتحدث بالعربية، أو أن يتقن الأولاد الكبار التركية والصغار لم يتعلموها بعد، فتبدأ المشاكل بالهمز واللمز بين الأطفال، ما يخلق إحباطًا للصغير ويقتنع بقرارة نفسه أنه لا يستطيع إيصال المعلومة.

وتخلص المستشارة التربوية إلى أن الأفضل دراسة اللغتين معًا، وأن يدرس الأهل اللغة التركية أيضًا ونقلها للطفل حتى لا يعاني في المدرسة والطريق، مؤكدةً على أن الاقتصار على تعليم الطفل التركية فقط يعني “تتريكًا” وفقدانًا للهوية.

صوت يبدو أنه لا يلقى أذنًا في أروقة السلطات التركية، فلدى الحكومة برنامج لإنهاء خدمات المدارس السورية وإيقافها بشكل نهائي خلال أربع سنوات، وفق تقديرات مدير التعليم في ولاية اسطنبول، عمر فاروق يلكنجي، على أن يستكمل طلابها دراستهم في المدارس التركية.

أسباب دمج الطلاب في المدارس التركية

السياسة الجديدة بدأت تركيا بتطبيقها، خلال العام الدراسي 2016-2017، وأظهرت توجهًا تركيًا لاستقبال طلاب سوريين ضمن أنظمة وزارة التربية، على حساب إغلاق المدارس السورية الخاصة.

وتضمن تعميم حصلت عنب بلدي على نسخة منه، في 19 آب 2016، توجيهات وتعليمات تنظم دمج الطلاب السوريين، مع ضمان عدم تعرضهم للتمييز والتفرقة، بالنظر إلى ظروفهم المختلفة مع تأمين دعم نفسي لهم.

المسؤول التركي أكد أن طلاب مدارس التعليم المؤقت (السورية)، كما تسميها تركيا، سينتقلون تدريجيًا إلى المدارس التركية.

وقدر يلكنجي، في حديثٍ لوكالة “الأناضول”، عدد المدارس السورية بـ 55 مركزًا في اسطنبول، مؤكدًا أنها “لم تعد مستقلة كما كانت عليه في السنوات السابقة، بل ربطت كل منها بمدرسة تركية”.

سبعة آلاف طالب من أصل 45 ألفًا تابعوا دراستهم في المدارس التركية في الولاية، بينما التحق 38 ألفًا بالمدارس السورية، قبل تنفيذ القرار الجديد.

بينما انخفض العدد في المدارس السورية حاليًا إلى 26 ألفًا، مقابل 29 ألفًا في المدارس التركية، بعدد إجمالي بلغ 55 ألف طالب في اسطنبول.

وكان مساعد مدير التربية في ولاية اسطنبول، ساركان غور، قال لعنب بلدي إن الوزارة ستفحص مدارس التعليم المؤقت، على أن يستمر منها ما هو فعال، وينقل طلاب المدارس المتبقية إلى المدارس التركية.

واعتبر أن سياسة تركيا تعتمد على تقديم التعليم للسوريين بنفس الشروط التي تقدمها لطلابها.

بينما تنوعت وجهات نظر التربويين السوريين، فمنهم من رأى في القرارات خيط أمل أمام استيعاب أعداد أكبر من الطلاب المنقطعين، وخطوة في تلقيهم تعليمًا معتمدًا، بينما اعتبرها آخرون ضياعًا للجيل وفقدانًا للغة والثقافة.

مسؤول يبدد المخاوف: العربية ستضاف إلى المنهاج

عنب بلدي حملت هذا الجدل إلى نائب مستشار وزارة التعليم التركية، أرجان دميرجي، الذي يشغل أيضًا منسق عمليات التعليم الخاصة بالطلاب السوريين.

وعزا ديمرجي البدء بدمج المدارس السورية بالتركية إلى طول أمد الحرب وعدم معرفة إمكانية عودة الطلاب إلى بلادهم في ظل الوضع السياسي المبهم، ولذلك لا بد من المرور في النظام التعليمي القائم في بلاد اللجوء لكي يندمجوا في المجتمعات التي سيعيشون فيها.

وعن الانتقادات التي تتحدث عن سلخ الأطفال عن هويتهم، قال ديمرجي إنه يجب ألا ينسى الأطفال مرجعيتهم وثقافتهم ودينهم، لذلك فتحنا مدارسنا للطلاب السوريين اعتبارًا من هذا العام وأبدينا حساسية حقيقية حيال هذا الموضوع، مع مراعاة إحياء مرجعيتهم وتفعيل دروس اللغة العربية والتاريخ والثقافة السورية.

وقدر عدد الطلاب في المدارس التركية حاليًا بحوالي 200 ألف طالب سوري، بالإضافة إلى 300 ألف في مراكز التعليم المؤقتة.

وكشف ديمرجي عن خطط لإنشاء جامعات تدرس باللغة العربية لاستكمال الطلاب تعليمهم الجامعي بلغتهم، متحدثًا عن تدابير خاصة لتدريس اللغة العربية في المدارس، أبرزها دراسة كتاب مع فريق أكاديمي تنتهي قريبًا، وإضافة دروس اختيارية في المنهاج تمكن الطلاب العرب من الاستمرار بتعلم لغتهم.

وحاول ديمرجي تبديد مخاوف انسلاخ السوريين عن هويتهم، بالقول “نتلافى الموضوع داخل المداس وخارجها، ولهذا توجد منظمات المجتمع المدني، فنحن نؤسس مراكز ثقافية ومراكز شبابية خارج المدارس”.

العمر الأنسب لتعليم الأطفال لغة أجنبية

تختلف آراء العلماء والخبراء حول تعلّم الأطفال للغات الأجنبية، وتتعارض حججهم حول فوائد وأضرار الإقدام على مثل هكذا خطوة، وإن كانوا جميعهم يجمعون على أهمية تعلم لغة جديدة.

فهناك نظريات في علوم اللغات ترى أن السنوات الأولى من عمر الطفل هي الأنسب للبدء بتعلم لغة أجنبية غير لغته الأم، ويسهم ذلك بتوسيع مداركه وتنشيط الإبداع في عقله.

ويعتقد الباحث اللغوي يورجن مايزل أن السن الأنسب للطفل للبدء بتعلم لغة أجنبية يكون بين الثالثة والخامسة من عمره، بسبب قدرته على التقاط الأصوات اللغوية وبالتالي إتقان اللفظ بشكل أسرع وأقوى في هذا العمر، بينما تضعف فرصه بتجاوز عمره عشر سنوات.

وبالمقابل هناك توجه في علم اللغة يرى أنه من واجب الأهل التحدث مع أبنائهم باللغة الأم في السنوات الأولى من عمرهم، لأن التحدث مع الطفل بلغة يتقنها والداه ينقل له مشاعر الحب والانتماء بشكل متين.

وبالتالي نجد أن اللغة تؤثر بشكل فعال على التكوين النفسي والاجتماعي، إذ قد يؤدي تعلم الطفل للغة جديدة بوقت مبكر إلى تداخل لغوي في عقله، وعدم إتقانه بشكل كبير للغته الأم، وهو ما سيؤثر على تكوين هويته لاحقًا.

ويؤيد أشهر علماء اللغة، نعوم تشومسكي، الرأي القائل بضرورة تفريغ السنوات الأولى الثلاث من عمر الطفل للغته الأم، حتى لا تواجهه مستقبلًا مشاكل بتعلم لغة أجنبية.

ويرى عالم اللغويات الأمريكي ليونارد بلومفيلد أن العمر الأنسب لبدء تعلم لغة أجنبية للطفل هو بين 10 إلى 11 سنة، وأن التعليم قبلها غالبًا ما يكون بطيئًا وغير مجد.

وفي ظل تضارب الآراء الحاد هذا، لا يسع الأطفال سوى للتكيف مع ظروفهم ومحيطهم قدر الإمكان، لاسيما إن كانوا لاجئين أو مهاجرين، ينشؤون في مجتمعات أجنبية لا ينتمي إليها الأبوان.

هذا الإنتاج حصل على دعم المركز الإعلامي المفتوح بتمويل من الاتحاد الأوروبي

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.





×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة