عنب بلدي – فريق التحقيقات
طفت خلال أعوام الثورة السورية الستة مشكلات كان أكثرها مختبئًا في أزقّة المجتمع الضيقة وتفاصيله الخفية، كما زادت الحرب، التي عصفت بالسوريين، من بعض الأزمات الاجتماعية المرتبطة بشكل مباشر بحالة عدم الاستقرار الأمني.
الأزمات الاجتماعية المتعلقة بالمرأة بدت الأكثر انتشارًا، على اعتبارها إحدى الفئات الأكثر تضررًا، فمن أم ثكلى، إلى أرملة مسؤولة عن إعالة أسر، أو زوجة مفقود تعيش ضياع الانتظار والمسؤوليات الكبيرة وتساؤلات المحيط التي لا تملك إجابات عنها.
وتبرز قضية زوجات المعتقلين والمفقودين، كإحدى المشكلات العالقة، التي تترك آلاف النساء السوريات داخل البلاد وخارجها في مواجهة أعباء الحياة بمفردهن، وسط جدل كبير حول إيجاد حلول لهن، تنطلق من تعقيدات المجتمع، إلى عراقيل المعاملات القانونية، مرورًا باجتهادات رجال الدين.
وفي ظلّ الوضع الأمني والاقتصادي السائد في سوريا، تبدو الاعتبارات الشخصية أقل تأثيرًا في خيارات النساء من زوجات المعتقلين والمفقودين، مقابل الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية، والأمنية في بعض الأحيان، ما يترك المرأة أمام عدد محدود من الطرق، التي قد لا تقلل بالضرورة من تعقيدات وضعها، وإنما تزيل جزءًا من الضغوط التي تحيط بها.
تحاول عنب بلدي من خلال هذا الملف تسليط الضوء على قضية هؤلاء النساء، من خلال عرض قصص واقعية لحالات واجهت خلالها زوجات المعتقلين والمفقودين خيارات انتظار الزوج، أو طلب التفريق لاعتبارات عدّة، اجتماعية أو اقتصادية أو نفسية،
كما يناقش الملف رأي الدين الإسلامي في مسألة تفريق الأزواج في حال غياب الزوج، إلى جانب الاعتبارات القانونية التي تحكم القضية، فضلًا عن آراء الاختصاصيين النفسيين والاجتماعيين، في محاولة للإحاطة بأبرز الجوانب التي من المفترض أن تضع حدودًا واضحة للقضية.
زوجات المعتقلين.. انفصال أم انتظار؟
“كلّ ما أفكر فيه الآن هو من أجل هذا الطفل”، كرّرت أم عبد الله هذه الجملة مرّات عديدة، وكأنها كانت تحاول أن تبرر ما لم يجبرها أحد على تبريره، غير أنها تتوقّع حربًا من الآراء ستواجه سير حياتها التي لم تمتلك خلال السنوات الثلاث الماضية رأيًا حيالها.
التقينا أم عبد الله في مكتب العمل في مدينة اسطنبول، ولم تكن تحتاج وقتًا طويلًا كي تمنح غريبًا الثقة لتسرد قصتها، كلماتها السريعة كانت تخبّئ خلفها عشرات الإجابات، التي طالما انتظرت أحدًا يبادرها بالسؤال.
“اعتقلت قوات الأمن السورية زوجي على الحدود السورية– اللبنانية عام 2014 أمام عيني”، تتحدث أم عبد الله عن اللحظة التي شكّلت نقطة تحوّل في حياتها، إذ كانت حينها حاملًا في شهرها الأول، ولم يمض على زواجها أكثر من ثلاثة أشهر، غير أنها أعيدت وحيدة إلى دمشق مع قرار “حظر من السفر”، وفي صيف العام ذاته، اضطرت أم عبد الله إلى السفر إلى تركيا بطريقة غير شرعية لضغوط أمنية مرتبطة بكونها زوجة معتقل، لتقضي أعوامها التالية متنقلة بين منازل الأقارب، ومنازل السكن الجماعي للفتيات.
“أسكن الآن مع والداي وأختي في هذه المدينة الكبيرة، ولا معيل لنا إلا الله”، مرّت أم عبد الله مرورًا سريعًا على أحداث الأعوام الثلاثة الماضية لتحدثنا عن وضعها الحالي، “عملت في أكثر من مكان، وفي كل مرة كنت أترك العمل بسبب استغلال القائمين عليه”، وأردفت “كثيرٌ ممن عملت لديهم رفضوا إعطائي المال لأني رفضت أن أمنحهم ما يريدون، تعرّضت لمضايقات ومعاكسات لكوني وحيدة وبلا رجل يحميني”.
خلال ذلك اللقاء، لم تقل أم عبد الله صراحةً أنها ترغب في الزواج مجددًا، إنما كانت قصتها كفيلة بدفعنا إلى سؤالها عن الأمر، اكتفت بإخبارنا أنّ الأنباء التي وردت عن زوجها بعد اعتقاله كانت متضاربة، بل إنّ الكثير ممن كانوا معه في نفس مكان الاعتقال أخبروها بعد خروجهم أنّه “قد لا يخرج مجددًا”، فلم تعد ترى جدوى من الانتظار.
وكانت أم عبد الله، تقدّمت بطلب إلى إحدى المحاكم الشرعية في مدينة إدلب، للحصول على فتوى بالتفريق عن زوجها، بعد أن لجأت إلى علماء الدين السوريين في اسطنبول، دون أن تحصل منهم على رأي واضح حول وضعها الحالي، كما عدلت عن اللجوء إلى محاكم النظام التي تمنحها حق التفريق بعد عام على غياب زوجها، بينما آثرت اللجوء إلى الشرعيين في إدلب الذين واجهوا مئات الحالات المشابهة، ومنحوا عشرات الفتاوى للتفريق الزوجات عن أزواجهن الغائبين.
ومع عدم وجود فتوى موحّدة فيما يخصّ تفريق الزوجات عن أزواجهن الغائبين، تتباين آراء علماء الدين في الأمر، إذ يرى القاضي الشرعي السابق في مدينة إدلب، أيمن محصي، أنّ المرأة التي “انقطعت أخبار زوجها المعتقل، عليها أن تنتظره أربعة أعوام، وفق المذهب المالكي، إلا في حال كان الضرر كبيرًا، فيمكن للمرأة أن تطلب التفريق بمرور سنة على غياب زوجها”.
ويتوافق رأي الشيخ أيمن محصي، مع قرار “المجمع الفقهي الإسلامي” التابع لرابطة العالم الإسلامي، الصادر في دورته الـ 11 عام 2013 في مدينة مكة، والذي أكّد أنه يحق للزوجة طلب التفريق بعد مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد عن أربع سنوات، بينما يشير الشيخ مجير الخطيب، وهو مدرس سابق في المعاهد الشرعية بدمشق، إلى “عدم وجود حديث صحيح لتقرير أمر زوجة المفقود، وإنما اجتهادات فقهية وأقوال الصحابة”، إذ ينص المذهبان الحنفي والشافعي أنه “لا يحق لزوجة الغائب فسخ عقد الزواج إلى حين هلاك أقرانه”، لافتًا إلى أنّ الانتظار أربعة أعوام فبل الانفصال قد يكون مبررًا في حالات الحروب.
ورغم أنّ أغلب القضاة الشرعيين في المناطق المحررة، يفتون بجواز الانفصال خلال عام واحد من غياب الزوج، إلّا أنّ السيدة أم محمد التي التقتها عنب بلدي في مدينة إدلب، أكّدت أنها رغم اعتقال زوجها، الذي أوشك على دخول عامه السادس، إلّا أنها لم تفكر بالانفصال عنه، أو الزواج من غيره، إذ ترى أنّ “الأطفال أهم ما في حياة المرأة التي يمكن أن تعتمد على نفسها من أجل منحهم حياة، متحدّية العوائق الاقتصادية بإيجاد فرص عمل، وتحدي ضغوط الأهل”.
أما أم عبد الله، فتؤكّد أنّ طفلها، الذي يبلغ من العمر عامين ونصف العام، هو ما يدفعها بشكل أساسي إلى الحصول على التفريق، والزواج مجددًا، بعد أن واجهت مصاعب كبيرة في الغربة، وأدركت أنها لا يمكن أن تؤمّن حياة كريمة لطفلها، “ما لم تحصل على الاستقرار وتحظى بالأمان”.
وفي حين يشكل الأطفال محور اهتمام أم محمد وأم عبد الله، إلا أنّ نساء أخريات يرجّحن مصالحهن، ويتركن أطفالهنّ لمصير مجهول.
الجدّة أم نادر، التي تقطن في مدينة إدلب، أكّدت لعنب بلدي أنّ زوجة ابنها المعتقل تركت لها خمسة أطفال، قبل أن تغادر لتتزوج من آخر في مدينة اللاذقية، كما أشارت إلى أنّ والدة الأطفال طالبت بالحصول على ممتلكات العائلة ووكّلت محاميًا لهذ الغرض.
وتختلف وجهات النظر في تقييم مثل هذه الحالات من وجهة نظر اجتماعية، فيما يذهب الاختصاصيون الاجتماعيون والنفسيون إلى تأييد حقّ المرأة في الحصول على التفريق والزواج مجدّدًا إثر غياب زوجها، إذ يرى الاختصاصي النفسي، الدكتور عمر النمر، أنّ لدى المرأة حاجات فيزيولوجية ونفسية تجعل من عيشها بمفردها “عبئًا كبيرًا”، فضلًا عن المسؤوليات التي لا تتمكن الاضطلاع بها دون معين.
فيما ترى أم عبد الله، التي تنتظر إتمام معاملة التفريق في الأراضي المحررة، أنّ المبررات النفسية والاجتماعية والاقتصادية، ليست إلّا جزءًا بسيطًا من أسباب طلب التفريق، مؤكّدةً أنّ عبء مستقبل طفلها، الذي لن تتمكن من حمله وحدها، يتطلّب منها الحصول على تلك الورقة، التي قد تجد بعدها حياة جديدة.
مصير الزوجات “مجهول” كأزواجهن
مع بدء المظاهرات الشعبية المناهضة لنظام الأسد عام 2011، بدأت، ولم تنتهِ، حملات المداهمات والاعتقالات العشوائية، تاركةً وراءها زوجات وأطفالًا أثقلتهم سنوات الانتظار.
منهم من قُبض عليه من منزله وأمام عائلته، وآخرون قُبض عليهم بمفردهم في الطرقات دون معرفة ذويهم أي شيء عنهم، سوى أنهم أصبحوا في عداد المفقودين.
وعلى أمل العودة، رتبت معظم زوجات المفقودين والمعتقلين حياتهن ضمن نمط معين، قيدتهن فيه عادات وتقاليد المجتمع “المحافظ”، في مواجهة لأصعب الظروف الاقتصادية والأمنية مع غياب المعيل و”السند”.
زوجات سجينات الانتظار
لقيت زوجات المعتقلين تعاطفًا من قبل المحيطين بهن، بدأ بالزوال مع طول فترة الغياب، وانقطاع أخبار أزواجهن وفقدان الأمل بأنهم ما زالوا على قيد الحياة.
وبسبب المنهجية التي يتبعها النظام السوري في تعذيب معتقليه وقتلهم وإخفاء أماكن وجودهم عن ذويهم، شاع في المجتمع أن غياب أخبار المعتقل لفترة طويلة يعني أنه في الغالب “ميتًا”.
إذ غالبًا ما يرسل المعتقل، في حال كان على قيد الحياة، أخبارًا لعائلته مع أحد المعتقلين الذين يفرج عنهم النظام لأسباب معينة.
وتمنع السلطات السورية المعتقلين من التواصل مع محامٍ أو أي أحد من ذويهم، ويبقون في زنزانات أفرع المخابرات دون محاكمة قضائية.
وانتشرت في السنوات الأولى من الاعتقال إمكانية دفع مبالغ مالية، تصل إلى آلاف الدولارات، يدفعها أهالي المعتقلين إلى بعض الموظفين الأمنيين لمعرفة مكان المعتقل وإن كان على قيد الحياة، إلا أنها لم تعد متاحة مع تورط عناصر الأمن ومساءلتهم من قبل الضباط، رغم وجود استثناءات.
وأصبح من الصعب على الزوجات معرفة في أي فرع أمن يوجد المعتقلون، والمحظوظة منهن من ينتقل زوجها إلى السجن المركزي في مدينة عدرا بريف دمشق، والذي يُسمح لأهالي المعتقل بزيارته هناك مرة في الشهر، وهي حالات نادرة لا تشمل المعتقل “السياسي”.
أرقام وإحصائيات
مع غياب الأرقام الرسمية، وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان وجود 117 ألف معتقل سوري بالأسماء، إلا أن التقديرات تشير إلى أن العدد يفوق حاجز الـ 215 ألف معتقل، 99% منهم موجودون في معتقلات النظام السوري، ولا وجود لإحصائيات ولو تقريبية عن أعداد المتزوجين من المعتقلين أو المفقودين.
وتواجه شبكات حقوق الإنسان صعوبة كبيرة بإحصاء أعداد المعتقلين، بسبب عدم رغبة ذويهم التصريح عن أسمائهم، خوفًا من أن يعرضهم ذلك للخطر والتعذيب، ومعظم المعلومات يحصلون عليها من معتقلين سابقين.
وتظهر هذه الأرقام وسط غياب لإحصائيات منظمات حقوق الإنسان الدولية، ومنظمة الأمم المتحدة، التي تعجز عن الضغط على النظام السوري للإفصاح عن أعداد المعتقلين في سجونه.
وغالبًا ما تنكر الحكومة السورية قيامها بأعمال اعتقال وخطف “تعسفية”، سواء عند سؤالها من قبل أهالي المعتقلين، أو من قبل منظمات حقوقية عالمية.
من جهته، وثق مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية، في دراسة له، وجود ما يزيد عن 110 آلاف مفقود سوري، في ظروف “غامضة”، قد تشمل الخطف والقتل خارج المعتقلات، وذلك حتى نهاية العام 2015.
وعن الزوجات السوريات اللاجئات، أجرت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين دراسة في العام 2014 بعنوان “صراع اللاجئات السوريات من أجل البقاء”، كشفت فيه عن أن أكثر من 145 ألف عائلة سورية لاجئة، ترأسها نساء يخضن بمفردهن “كفاحًا من أجل إبقاء أطفالهن على قيد الحياة”.
وشمل التقرير 135 امرأة لاجئة، تحمّلن المسؤولية بسبب غياب الزوج إما بسبب الاعتقال أو الاختفاء أو الموت.
زوجات لامعيل لهن.. والمجتمع “لم ينصفهن”
ظروف اقتصادية سيئة يعيشها المواطنون السوريون بسبب غلاء الأسعار وتدهور الليرة السورية، إلا أن وقع الأزمة الاقتصادية كان أكبر على زوجات المعتقلين من غياب المعيل الرئيسي.
وغالبًا ما يصعب على أهل المعتقل تحمّل نفقة زوجته وأولاده، وكذلك هو الحال بالنسبة لأهل الزوجة، لتجد نفسها مضطرة إلى العمل لتعيل أولادها وتزيل المسؤولية، جزئيًا، عن أهلها وأهل زوجها.
ومع طول الانتظار، تتلقى بعض زوجات المعتقلين عرضًا بالزواج، يجعلها تفكر مليًا، قبل اتخاذ القرار كونها مازالت على ذمة رجل آخر.
وما يجعلها تعدل عن الفكرة نظرة المجتمع وعاداته المترسخة، والذي يعيب عليها تفكيرها بالتفريق في حين يعاني زوجها بين جدران المعتقلات، معتبرين أنها تبحث عن “سعادتها” بغض النظر عن معاناتها في غياب زوجها.
إذ غالبًا ما ترفض العائلات السورية “المحافظة” تحفيز ابنتها على طلب التفريق عن زوجها الغائب، مفضلةُ مواساتها وتصبيرها على الانتظار.
تعقيدات في الهيئات القضائية بالمناطق المحررة
تشهد المناطق المحررة في سوريا صعوبات قضائية، بسبب غياب المرجعيات القانونية المشتركة، وتعدد الأطراف التي تنصّب نفسها كوصي على القضاء هناك، وبالرغم من لجوء السوريين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، إلى الهيئات الشرعية التي تقضي حوائجهم في أغلب الأحيان، إلا أنه تبقى هنالك مشكلات عالقة في السجلات القضائية للنظام السوري.
“التفريق لغياب الزوج” في الدين والقانون وعلم النفس
تشكّل الشريعة الإسلامية المرجعية الأساسية فيما يتعلّق بقوانين الأحوال الشخصية في سوريا، إلّا أنّ قضيّة تفريق الأزواج لغياب الزوج التي يبتّ قانون الأحوال الشخصية حولها، تعدّ قضية مختلَفًا عليها فقهيًا، فيما يذهب علما النفس والاجتماع إلى تأييدها بشكل كبير لاعتبارات نفسية وجسدية متعلقة بالمرأة.
اختلافات مذهبية واجتهادات فقهية
تعددت الآراء الفقهية حول إمكانية طلب الزوجة للتفريق إثر غياب زوجها، كما اختلف الفقهاء المؤيدون لجواز طلاق المرأة عن زوجها الغائب حول المدّة الزمنية التي يمكن أن يتم التفريق بعدها.
الاختلاف في الآراء جاء نتيجة عدم وجود نصّ في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف يبتّ بالقضية، إذ اقتصرت الفتاوى حولها على الاجتهادات، والتي أخذت شكل الإجماع في قرار “المجمع الفقهي الإسلامي” التابع لرابطة العالم الإسلامي، الذي أكّد أنه يحق للزوجة طلب التفريق بعد مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد عن أربع سنوات.
وينص قرار المجمع الصادر في دورته الـ 11 عام 2013 في مدينة مكة، أنه “يُترك للقاضي تحديد المدة، بحيث لا تقل عن سنة ولا تزيد على أربع سنوات من تاريخ فقده، ويستعين في ذلك بالوسائل المعاصرة للبحث عن المفقود، ويراعي ظروف كل حالة وملابساتها، ويحكم بما يغلب على ظنه فيها”.
إلا أنه خلال حديثنا مع الشيخ مجير الخطيب، مدرّس سابق في معاهد شرعية بدمشق، أشار إلى عدم وجود حديث صحيح للبت بأمر زوجة المفقود، وإنما اجتهادات فقهية وأقوال صحابة، إذ ينص المذهبان الحنفي والشافعي أنه لا يحق لزوجة الغائب فسخ عقد الزواج إلى حين هلاك أقرانه (أي حتى مضي فترة زمنية يُعتقد بعدها أن جميع من هم في عمره ماتوا).
أما المذهب المالكي فيتيح للمرأة الانفصال عن زوجها المفقود بعد مضي ما لا يقل عن أربع سنوات، وتنسب هذه الفتوى إلى الخليفة عمر بن الخطاب، ويجمع مذهب أحمد بن حنبل بين المذاهب السابقة تبعًا لوضع الزوجة، إذ يقسم القضية إلى قسمين، أولها أن يكون غياب الزوج ظاهره الهلاك، وفيها يسمح للزوجة بفسخ العقد بعد مرور أربع سنوات من غيابه، شرط أن تلتزم بشروط العدة، والحالة الثانية، أن يكون غياب الزوج ظاهره غير الهلاك، وهنا عليها أن تتبع فتوى المذهبين الشافعي والحنفي.
من جهته، قال الشيخ ياسر النجار، إن غياب المعتقلين في سوريا منذ عام 2011، وما تخلل ذلك من حروب وأوضاع متردية، هو “غياب ظاهره الهلاك للزوجة وأولادها”.
إذ تجمع آراء أغلب علماء الدين السوريين بشأن زوجات المعتقلين في سوريا، أن أقصى مدة تنتظرها الزوجة هي أربع سنوات، في حال ترك لها زوجها دخلًا ماديًا يكفيها، أما في حال انعدام ذلك فيحق لها أن تلجأ للقاضي بعد مرور ستة أشهر من الغياب، مستدلين على ذلك بفتوى سابقة للإمام أحمد وسعيد بن المسيّب.
أما المحاكم الشرعية في المناطق المحررة، والتي تواصلنا مع إحداها في مدينة إدلب، فإنها تتبع فتوى الإمام الشافعي، إلا أنها تراعي ظروف الزوجات، وتعطي استثناءات بحسب حالة كل زوجة، فغالبًا ما يُسمح للزوجة هناك بالانفصال عن زوجها بعد مضي سنة على غيابه.
المادة /109/ من قانون الأحوال الشخصية السوري
يبتّ القانون السوري في قضية طلب زوجة الغائب للتفريق من خلال مادّة مفصّلة في القانون السوري، إذ يجوز للزوجة طلب التفريق بعد سنة واحدة من غياب زوجها عنها، مع اشتراط وجود شهود من أهل الزوج والزوجة، يؤكدّون غيابه لمدة لا تقل عن سنة.
عنب بلدي تحدّثت إلى محامية في مناطق سيطرة النظام، لمعرفة الحقوق التي يمكن أن تحصل عليها الزوجة عقب إتمام التفريق قانونيًا، وأكّدت أنّ الزوجة يمكن أن تحصل على مقدَّمها غير المقبوض عبر الحجر على أملاك زوجها في حال رغبت في ذلك، لبيعها في المزاد العلني.
وأشارت المحامية، التي طلبت عدم كشف اسمها لأسباب أمنية، إلى أنّ الأبناء ممن هم في سنّ الحضانة، يمكن أن تحتفظ الأم بهم، أما في حال كانوا فوق سنّ الحضانة، فيتكفّل بهم أهل الزوج الغائب.
وفيما يتعلّق بـ “الطلاق الرجعي”، أوضحت المحامية أنّ الزوجة يمكن أن تُرد لزوجها إذا عاد، أو أطلق سراحه من السجن خلال ثلاثة أشهر عقب البت بالطلاق (أي خلال فترة العدّة)، أما إذا عاد بعد هذه المدّة فلا يمكنه ردّها سوى بعقد زواج جديد.
حاجات نفسية وجسدية تتيح للزوجة طلب التفريق
وفي جانب نفسي، ليس ببعيد عن الشرع والقانون، تحدثت عنب بلدي إلى الاختصاصي في علم النفس، الدكتور عمر النمر، والذي نوه إلى حاجات الزوجة النفسية والجسدية والاقتصادية، والتي يُفضي نقصانها إلى ضياع وتشتت الأسرة.
وقال الدكتور النمر إن زوجة المعتقل كغيرها من الزوجات، تحتاج إلى معيل يدير أمور منزلها ويتحمل الأعباء الاقتصادية المترتبة على توفير المستلزمات الأساسية للحياة، وسط ارتفاع الأسعار الذي تشهده البلاد.
إذ إن غياب المعيل قد يشتت الزوجة نفسيًا بسبب قلة حيلتها، وشعورها بأنها “عالة” على غيرها، ما يدفعها إلى تحمل مسؤولية قد تكون أكبر من طاقتها، إلا أن تأمين المستلزمات الاقتصادية لزوجة المعتقل لا يحل مشاكلها النفسية، بحسب ما قال الدكتور، منوهًا إلى أن الشعور بالأمان لا يقل أهميةً عن الاحتياجات المادية، إذ تفقد الزوجة وأولادها الأمان مع غياب رب الأسرة.
وأضاف “كل امرأة بحاجة إلى شريك يحمل معها أعباء ومشقات الحياة، ويتحمل مسؤولية الأولاد التي يصعب على الزوجة تحملها بمفردهها”.
وأشار الدكتور عمر إلى أن الشرع والقانون لا يحمّل الزوجة فوق طاقتها، إذ يتيح لها الانفصال عن زوجها في حال مرور سنة على غيابه، إلا أنه نصح كل زوجة قادرة على تحمل أعباء الحياة بمفردها، أن تنتظر زوجها إلى حين خروجه، إذ إن زواجها من آخر قد يزيد من تشتت أسرتها لفقدانها حق حضانة أولادها، وبالتالي سيتشتت الأولاد بسبب فقدانهم الأم والأب، وتابع “إن وضع الزوجة النفسي سيصبح أسوأ في حال خرج زوجها المعتقل ووجدها على ذمة رجل آخر”.
كما تطرق النمر إلى عادات المجتمع التي تقيد زوجة المفقود، خوفًا من حديث الناس في حال طلبت التفريق، ما يدفعها إلى تحمّل مشقات لها تأثيرات سلبية تنعكس على مجمل تفاصيل حياتها.
وأشار إلى أن هذه العادات قد تحكم في كثير من الأحيان القانون والشرع، الذي يتيح للمرأة طلب التفريق في حال غياب زوجها، داعيًا إلى نشر التوعية في المجتمع عبر برامج مدروسة، تسلط الضوء على الظروف السيئة التي تعانيها زوجات المعتقلين، وتحث المجتمع على تفهّمها في حال طلبت التفريق عن زوجها.
ما الذي ينبغي على زوجة المفقود أو المعتقل لفترة طويلة فعله؟
أجرت عنب بلدي استطلاعًا للرأي حول الوضع العالق لزوجات المعتقلين لمدة طويلة والمفقودين، وجه المشاركون فيه انتقادات لعادات المجتمع وأعرافه التي تنسف حق المرأة بالزواج بعد غياب زوجها عنها.
وتوجهت مراسلتنا في إدلب (شمال سوريا) لمقابلة الناس وأخذ آرائهم بهذه القضية، كما أجرينا استطلاعًا إلكترونيًا عبر موقع عنب بلدي، كان السؤال فيه: برأيك، ما الذي ينبغي على زوجة المعتقل أو المفقود لفترة طويلة فعله؟
ظروف كل زوجة تحكم قرارها بالزواج بآخر
أجمع 50% من المشاركين في استطلاع الموقع، على ضرورة انتظار الزوجة حتى خروج زوجها من المعتقل، وهذا ما أكدت عليه أم سلمة، إحدى المشاركات من مدينة إدلب، وزوجة معتقل في سجون النظام.
إذ نصحت أم سلمة زوجة كل معتقل بعدم التسرع وطلب التفريق، وقالت “عليها أن تلتزم الصبر، وتعيش على أمل خروجه، وتتفرغ لتربية أولادها”.
وحذرت من عواقب زواجها من آخر، لأنها بذلك سوف تبدأ حياة جديدة، وبالمقابل تعرض أولادها لخطر “الشتات”.
إلا أن باقي المشاركين من مدينة إدلب رأوا أن الأمر يعود إلى ظروف كل زوجة وقناعتها، مشيرين إلى أن زواجها من آخر ليس “خطأ”، كون الشرع والقانون يحلل لها ذلك.
واعتبر المواطن محمد مكتوم، أن “لكل زوجة ظروفًا، ففي حال كانت قادرة على تحمّل أعباء الحياة عليها بالصبر”، وأضاف “في حال عدم وجود معيل يصرف عليها وعلى أولادها، فعليها أن تحصّن نفسها بالزواج”.
الشرع يحلّل والمجتمع “يُحرّم”
إلا أن قضية “عالقة” كهذه اختلف عليها المشرّعون، انعكست الحيرة فيها أيضًا على عامة الناس، إذ فضّل 31% من المشاركين في الاستطلاع عبر الموقع الإلكتروني، الإجابة بـ “لا أعرف” على سؤالنا حول ما ينبغي على زوجة المُعتقل فعله.
ويرى السوريون أن أكثر ما يقيّد المرأة في اتخاذها قرارًا بالتفريق عن زوجها، هو عادات المجتمع وكلام الناس، وهذا ما أكدته أم عدنان، التي تحدثت معها مراسلتنا في إدلب.
إذ قالت “عادات المجتمع لا ترحم النساء، رغم أن من حقها الزواج شرعًا، وهذه العادات لا تحكم الرجل الذي يباح له الزواج بعد أيام على وفاة زوجته”.
19% من المشاركين بالاستطلاع قالوا إن على الزوجة طلب التفريق في حال غاب زوجها لفترة طويلة، وهذا ما اتفق مع رأي أيمن نبعة، أحد سكان مدينة إدلب.
وبرأي أيمن “على الزوجة أن تنتظر زوجها ضمن المدة التي يحددها الشرع، وبعدها عليها أن تتزوج لتأمين احتياجاتها المادية والجسدية”.
“غياب المُعيل يُجبر زوجة المُعتقل على الزواج بآخر”
وعن الجهة المسؤولة عن زوجة المعتقل وأولاده، أجمع معظم المشاركين في الاستطلاع على أن أهل الزوج هم من عليهم تحمّل نفقاتها في حال لم يترك لها زوجها أي دخل مادي.
إلا أن أم عبد العزيز، التي تحدثت معها مراسلتنا، حثت زوجة كل معتقل على تحمّل المسؤولية بنفسها، وأضافت “بعد الزوج، على الزوجة أن تعتمد على نفسها وتعيل أولادها دون الحاجة إلى أحد، وذلك بإيجاد عمل ضمن إمكاناتها”.
وأشار المُشاركون بالاستطلاع إلى أن أكثر ما يُجبر المرأة على طلب التفريق عن زوجها، هو تردي وضعها المادي وغياب المُعيل الرئيسي لأسرتها.
وقالت أم يزن، أخت لمعتقلَين اثنين، إن علاقة الزوجة “السيئة” بزوجها وأهله قد تدفعها إلى طلب التفريق بعد غيابه عنها.
وهذا ما تطرقت إليه أم محمد، زوجة معتقل، بقولها “أحب زوجي كثيرًا ولا أتخيل نفسي مع آخر حتى لو اضطررت إلى انتظاره كل العمر”.
“الدعم النفسي” وسيلة الجمعيات النسوية لمساعدة زوجات المعتقلين
فتحت منظمات المجتمع المدني والجمعيات المختصة بشؤون المرأة في الأراضي السورية المحررة، الباب للنساء السوريات للمشاركة في أنشطة متنوعة والتعبير عن ذاتها من خلالها، إلى جانب اضطلاعها بدور الداعم الأساسي للمرأة على المستويين النفسي والاقتصادي.
وأولت هذه الجمعيات اهتمامًا كبيرًا لزوجات المعتقلين والشهداء نظرًا لعدم وجود معيل لهنّ، إذ حاولت توفير الدعم لهنّ عبر تشغيلهن في مشاريع صغيرة، أو تقديم المساعدات العينية، فضلًا عن الدعم النفسي والمحاضرات التوعوية.
مديرة “الهيئة النسائية لدعم المرأة والطفل بإدلب”، رولا شحادة، أكّدت لعنب بلدي، أن وضع زوجات المعتقلين والشهداء يعد من أكثر الأوضاع الحساسة التي تواجهها الجمعيات المهتمة بشؤون المرأة، لافتة إلى أنّ هذه الجمعيات لا تستطيع مساعدة النساء فيما يتعلّق بقضايا التفريق أو الخلع.
وأشارت شحادة، إلى أنّ الهيئة تقدّم الدعم لنحو أربعة آلاف امرأة من زوجات المعتقلين أو المفقودين، عن طريق دورات التوعية النفسية والدينية، كما تستهدف الهيئة إعداد النساء نفسيًا لمواجهة قرارات الأهل والمحيط التي لا تناسبها.
بينما أوضحت مديرة الهيئة أنّ 90% من زوجات المعتقلين والمفقودين اللواتي تقدم الجمعية الدعم لهنّ تمكّنّ من الحصول على الطلاق، بعد التقدّم بطلب التفريق من القاضي الشرعي، لافتةً إلى أنّ أغلبهن لم يثبّتوا الطلاق في محاكم النظام، ما يعني أنّهنّ على ذمّة الرجل الأول وفق الأوراق الرسمية.
وبحسب شحادة، فإنّ ما لا يزيد عن 1% من النساء المشمولات بخدمات الهيئة حصلن على “طلاق رجعي”، وهو الطلاق الذي يمكّنها من العودة إلى زوجها الأول في حال عودته.
كما أنّ أغلب هؤلاء النساء يتزوجن من رجال يكبروهنّ بالسنّ، وغالبًا ما تكون الزوجة الثانية أو الثالثة، فيما تفضل قلّة من النساء انتظار الزوج الأول متحدّين بذلك ضغوط المجتمع.
أما مديرة جمعية “فجر المرأة السورية حواء” في محافظة درعا، حياة العيد، فأشارت إلى أنّ النساء اللاتي يتقدمن بطلبات التفريق في المحاكم الشرعية غالبًا ما يكن ذوات سن صغير ولديهن عدد من الأطفال، ما يضعهنّ تحت ضغط من العائلة التي تجبرهن على الطلاق خوفًا من نظرات المجتمع.
وفي الوقت الذي لا تقدّم فيه الجمعيات حلولًا جذرية لقضية نساء المعتقلين والمفقودين، إلا أن آليات الدعم النفسي تعدّ ذات أهمية كبيرة في منح النساء القدرة على مواجهة المجتمع، فضلًا عن إمكانية توفير فرص عمل لهؤلاء النسوة ما قد يكون بداية حل لأزمة ترتبط بشكل مباشر بالعامل الاقتصادي لنساء يعلْن أسرًا بأكملها.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :