حسام المحمود | حسن إبراهيم
ورثت الإدارة السورية الجديدة عن نظام الأسد، إلى جانب البلد المدمر والاقتصاد المتآكل والعزلة السياسية التي تعمل على كسرها، مجموعة من الملفات السياسية العالقة والعلاقات المشوهة مع دول الجوار والمشكلات التي تعامل معها الأسد خلال فترة حكمه بمنطق الدحرجة والتأجيل، لا مواجهة المشكلة والبت النهائي بها.
ومن هذه الملفات التي برزت بوضوح بعد الإطاحة بالأسد، ترسيم الحدود البرية والبحرية بين سوريا ولبنان، فالبلد الجار وجد بالتغيير السياسي في سوريا فرصة للتعامل مع هذا الملف، بعد مطالب عدة قدمها السياسيون في لبنان لنظام الأسد من أجل هذا الغرض، لكنها قوبلت بالتجاهل.
ووضعت مجموعة من المتغيرات الأمنية والسياسية الملف حاليًا في صدارة الأولويات، فتوترات حدودية بين البلدين ومحاولات متكررة لتهريب السلاح والمخدرات، إلى جانب انفلات الحدود والمعابر غير الشرعية، كلها عوامل دفعت إلى اتصالات على أعلى المستويات ووساطة إقليمية وجهود دولية للمضي قدمًا بترسيم الحدود.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف جهود ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان، ومعوقاتها، وفرصها، كما تناقش مع مجموعة من الباحثين مستقبل هذا الملف وإمكانية تحقيق تقدم ملموس فيه، بعد بقائه عالقًا لعقود من الزمن حكمت فيها عائلة الأسد سوريا.
الحدود.. حالة أمنية غير مستقرة
منذ آذار الماضي، تصاعدت وتيرة الاشتباكات على الحدود بين سوريا ولبنان، ودارت اشتباكات بين قوات تتبع لوزارة الدفاع السورية وعناصر يشتبه بانتمائهم لميليشيا “حزب الله” اللبناني، وتحديدًا في قرية حوش السيد علي بريف القصير، غربي حمص، على مقربة من الحدود مع لبنان، ما أسفر عن مقتل ثلاثة عناصر من الجيش السوري، إثر اختطافهم وتصفيتهم داخل لبنان.
“حزب الله” نفى تورطه بالاشتباكات، والجيش اللبناني تدخل بالمسألة، وانتهت القضية بشكل مؤقت باتفاق بين الجيشين السوري واللبناني. لكن هذا لا يعني النهاية، ففي 25 من نيسان الحالي، ردت قوات الجيش السوري على قذائف أطلقتها مجموعات من “حزب الله” اللبناني، على الحدود.
ونقلت الوكالة السورية الرسمية للأنباء (سانا) عن مصدر في وزارة الدفاع، أن ميليشيات “حزب الله” أطلقت عدة قذائف مدفعية من أراضي دولة لبنان، تجاه نقاط الجيش العربي السوري في منطقة القصير غربي حمص، موضحًا أن قوات الجيش السوري ردت على الفور باستهداف مصادر النيران، بعد رصد المواقع التي خرجت منها القذائف الصاروخية البالغ عددها خمس قذائف.
الإعلام اللبناني الرسمي تحدث عن إصابة ثمانية لاجئين سوريين جراء انفجار سيارة مفخخة في قرية حوش السيد علي الحدودية، أما الجيش اللبناني فقال إن تبادل إطلاق نار حصل في منطقة الهرمل عند الحدود اللبنانية- السورية، بعد إطلاق نيران من الجانب اللبناني باتجاه الأراضي السورية نتيجة خلافات حول أعمال التهريب، كما أجرت قيادة الجيش اتصالات مكثفة مع السلطات السورية، ما أفضى إلى احتواء التصعيد.
وإلى جانب التوترات الأمنية، فإن محاولات تهريب السلاح من سوريا نحو لبنان لا تكاد تتوقف، وفق إعلانات متكررة للجيش اللبناني بهذا الصدد، منها ما جاء في 11 من نيسان، عن توقيف لبناني لإقدامه مع آخرين على تهريب أسلحة وذخائر من الداخل السوري.
كما نفذت دورية من مديرية المخابرات اللبنانية بالتعاون مع وحدة من الجيش في اليوم نفسه، عملية دهم في بلدة عيحا مرج التوت، التابعة لمحافظة البقاع الحدودية، أسفرت عن توقيف مواطنين لبنانيين اثنين، وضبط أسلحة حربية وعتاد عسكري وكمية من الذخائر.
هذه العمليات المخلّة بالاستقرار والتي تأتي كحلقات في مسلسل مستمر منذ سقوط نظام الأسد، واستهداف الإدارة السورية الجديدة لانفلات الحدود وتهريب المخدرات والسلاح عبر جانبيها، دفعت نحو تحركات سياسية للتوصل لاتفاق يؤطر المسألة، وبناء عليه زار رئيس الحكومة اللبناني، نواف سلام، دمشق والتقى الرئيس السوري، أحمد الشرع، في 14 من نيسان.
وفي نهاية الزيارة قال سلام، إن الهدف منها كان فتح صفحة جديدة في مسار العلاقات بين البلدين على قاعدة الاحترام المتبادل واستعادة الثقة وحسن الجوار والحفاظ على سيادة سوريا ولبنان، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، لأن قرار سوريا للسوريين وقرار لبنان للبنانيين.
كما ذكر أنه جرى البحث في ضبط الحدود والمعابر ومنع التهريب وصولًا إلى ترسيم الحدود برًا وبحرًا، انطلاقًا من لقاء جدة بين وزيري دفاع البلدين، برعاية سعودية.
وجرى أيضًا بحث تسهيل عودة آمنة وكريمة للاجئين السوريين إلى أراضيهم ومنازلهم، بمساعدة أممية، بالإضافة إلى البحث في مصير المفقودين والمعتقلين اللبنانيين في سوريا، ومطالبة السلطات السورية بالمساعدة في تسليم المطلوبين للعدالة في لبنان.
وفي 27 من آذار الماضي، استضافت السعودية اجتماعًا بين وزيري الدفاع السوري مرهف أبو قصرة، واللبناني ميشال منسى، بمشاركة نظيرهما السعودي خالد بن سلمان بن عبد العزيز.
وجرى حينها توقيع اتفاق أكد خلاله الجانبان الأهمية الاستراتيجية لترسيم الحدود بين البلدين، وتشكيل لجان قانونية ومتخصصة بينهما في عدد من المجالات، وتفعيل آليات التنسيق بين الجانبين للتعامل مع التحديات الأمنية والعسكرية لا سيما فيما قد يطرأ على الحدود بينهما، كما تم الاتفاق على عقد اجتماع متابعة في السعودية خلال الفترة المقبلة.
قوات الجيش العربي السوري قبل التوجه لطرد عناصر “حزب الله” من قرية حوش السيد علي بريف القصير غربي حمص – 17 آذار 2025 (سانا)
برًا.. فرصة بغياب المعطلين
375 كيلومترًا هو طول الحدود البرية بين سوريا ولبنان، وتتخللها نقاط كثيرة متداخلة على طرفي الحدود، مع وجود معابر غير شرعية لا تحصى أيضًا، وارتباطات عشائرية بين السكان على الجانبين، وكلها عوامل تسخر لخدمة عمليات التهريب بالاتجاهين.
وفي أيار 2006، أصدر مجلس الأمن القرار “1680”، وهو مكمل للقرار “1559”، القاضي بانسحاب القوى الأجنبية من لبنان، وقد شجع القرار الجديد نظام الأسد على الاستجابة لطلب لبناني بتحديد حدود البلدين، لكن نظام الأسد لم يلقِ بالًا لهذه المطالب.
المبعوث الأمريكي السابق إلى سوريا، فريدريك هوف، في مقال نُشر في 7 من نيسان 2021، عن اجتماع أجراه مع بشار الأسد، في 28 من شباط 2011، قال إن الأسد تمسك باعتبار مزارع شبعا وتلال كفر شوبا أراضي سورية، رغم تصدير “حزب الله” اللبناني قضية هذه المناطق المحتلة كذريعة للاحتفاظ بسلاحه، بعد انسحاب إسرائيل من لبنان عام 2000.
في تلك الفترة، أطلق “حزب الله” شعار “المقاومة لم تنتهِ بعد” في إشارة إلى المطالبة بالقرى الشيعية السبع التي فُصلت في شمالي فلسطين عن المجتمعات ذات الصلة، من خلال ترسيم الحدود الأنجلو- فرنسية لفلسطين ولبنان الكبير.
وحين قامت الأمم المتحدة بالتحقق من اكتمال الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في حزيران 2000، ادعى “حزب الله” أن قطعًا من الجولان تحتلها إسرائيل تتضمن عدة مزارع ومراعٍ يملكها سكان قرية شبعا اللبنانية، وهي أراضٍ لبنانية.
ولأن نظام الأسد يريد استمرار “المقاومة”، اتفق مع رواية “حزب الله”، بحسب ما ورد في اتصال هاتفي بين وزير الخارجية السوري في ذلك الوقت، فاروق الشرع، والأمين العام للأمم المتحدة الأسبق، كوفي عنان، في 16 من أيار 2000.
بعد أكثر من عقدين على هذه الحالة، قال وزير الخارجية اللبناني الأسبق، جبران باسيل، إنه أرسل أكثر من 20 كتابًا رسميًا للمعنيين بالقضية في سوريا ولبنان، منذ عام 2010 وحتى عام 2017، لحثهم على حل الخلاف، دون التوصل إلى جواب.
ومع سقوط نظام الأسد وتشكيل حكومة جديدة في لبنان، وتراجع نفوذ “حزب الله” وحضوره السياسي، يقود لبنان جهودًا حثيثة لتحقيق تقدم في ترسيم الحدود.
القيادي اللبناني في تيار “المستقبل” اللبناني، مصطفى علوش، أوضح لعنب بلدي، أن مسألة الحدود شائكة ومتعددة الإشكاليات لأسباب تاريخية وجغرافية وسياسية واجتماعية واقتصادية، وكلها تحتاج إلى حوار وتعاون بين البلدين لضمان الحقوق والمصالح بشكل ودي، بعد أن زالت نظريًا الأسباب السياسية التي منعت تلك التفاهمات سابقًا.
وبرأي علوش، فالوصول إلى نتيجة سيتطلب صبرًا وعناية لا تنحصر بالمسائل الأمنية، بل بإيجاد مصالح مشتركة في ضبط الحدود وترسيمها وخلق البدائل الاقتصادية والإنمائية على طرفي الحدود، كما أن السعي للتعاون الاقتصادي بين البلدين وتعزيز التعاون الأمني والسياسي بشكل ندي للحصول على الاستقرار المطلوب، يتطلب أيضا ترسيمًا وديًا للحدود مع الحفاظ على حقوق السكان عبر جانبيها.
أي تفاهم بين الطرفين يتطلب إبداء حسن نية، وهذا لم يكن موجودًا خلال حكم البعث، بل كانت هناك محاولات الضم والاستتباع السياسي والاستغلال الأمني والمالي، ومن جهة لبنان، فإن الواقعية السياسية والمصلحة الوطنية والاقتصادية تستدعي حسن النية من قبل قيادته الجديدة بعد الحد من هيمنة الميليشيات الإيرانية على القرار.
مصطفى علوش
قيادي في تيار “المستقبل” اللبناني
ومن المؤكد أن الحكم اللبناني الجديد لديه رغبة وأمل في التخلص من وصمة “الحزب الإيراني” (في إشارة إلى حزب الله)، وفق مصطفى علوش، ليس فقط من أجل علاقات طبيعية مع سوريا، بل لإصلاح العلاقات مع المحيط العربي والعالم، مع ضرورة التعاون الجدي وبثقة مع الدولة السورية الجديدة لحلحلة ما هو عالق، وتسليم المطلوبين للعدالة وضمان عدم تنفيذ اعتداءات من أي بلد ضد الآخر.
وتحدث علوش عن فرصة “غير مسبوقة” لتسوية ما كان عالقًا لعقود، وضرورة استغلال هذه الفرصة دون تأخير.
“في غير محله”
الخبير العسكري اللبناني ناجي ملاعب، أشار في حديث لعنب بلدي، إلى وجود سبع قرى في الأراضي السورية أهلها لبنانيون وبعضهم يحمل هويتي البلدين، والانتقال بين طرفي الحدود لأهالي هذه القرى يومي، وهي حالة استغلتها عصابات تهريب منظمة، قبل صناعة “الكبتاجون”، وكان التهريب حينها قائمًا على حاجات كل بلد.
وما بعد العقوبات الأمريكية على نظام الأسد كان هناك دور كبير لعصابات التهريب برعاية “حزب الله” والعشائر، تشكلت “جنة من التهريب” لنظام الأسد، قوامها السلاح و”الكبتاجون”، وكان الحكم في لبنان يتماهى مع سلطة الدويلة التي كان يمثلها “حزب الله” وكانت أقوى من الدولة، ولا سيما أن الرئيس السابق، ميشال عون، جاء إلى السلطة بتحالف مع “حزب الله”، وفق ملاعب.
ويأمل لبنان أن يصل إلى معالجة أساس مشكلة الحدود في مزارع شبعا وتلال كفر شوبا، أي انسحاب إسرائيل من التلال الخمس ومن مزارع شبعا وتلال كفر شوبا، عملًا باتفاقية الهدنة عام 1949 بين إسرائيل ولبنان، وهي مدرجة في القرار “1701” الذي يقضي بانسحاب كل الجيوش الأجنبية من لبنان.
النظام السابق في سوريا تعاطى بعدم اهتمام مع ترسيم الحدود، وكان بحاجة دعم “حزب الله” في قتاله ضد المعارضة السورية، واليوم في سوريا وضع جديد، وتدخلات جماعات إيران لم تعد مقبولة، والمطالبة اللبنانية بترسيم الحدود في غير محلها، فما زال هناك لاجئون من سوريا بكثافة في شمال لبنان والبقاع، وهم قوة ضغط كبيرة، ولا بد من معالجة الكثير من القضايا قبل البحث في ترسيم الحدود، ومنها السلاح الخارج عن سيطرة الدولة في لبنان، وتحديدًا سلاح “حزب الله” الذي لا يزال متمسكًا به.
قوات الجيش العربي السوري قبل التوجه لطرد عناصر “حزب الله” من قرية حوش السيد علي بريف القصير غربي حمص – 17 آذار 2025 (سانا)
بحرًا.. تداخل إقليمي معقد
ترسيم الحدود البحرية السورية يعد من الملفات الإقليمية الشائكة والمعقدة، بسبب تداخل المناطق الاقتصادية ومشاريع التنقيب عن النفط والغاز في البحر الأبيض المتوسط، وتقاطع وتضارب مصالح الدول وحلفائها.
في 2010، قدرت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية (USGS) متوسط الاحتياطي القابل للاستخراج من منطقة حوض الشام من البحر المتوسط، والتي تطل عليها مصر ولبنان وسوريا وفلسطين وتركيا وإسرائيل، بـ1.7 مليار برميل من النفط، و122 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي.
وفي عام 2005، أجرت شركة “INSEIS” النرويجية، باتفاق مع الشركة السورية للنفط، عمليات المسح “السيزمي ثنائي الأبعاد” الذي شمل 5000 كيلومتر طولي، غطت مساحة 10000 كيلومتر مربع، وفي 2011، أصدرت شركة “CGG Vertitas” الفرنسية التي استحوذت على “INSEIS” تقريرها حول هذا المسح.
وجاء في التقرير أن سوريا البحرية منطقة معقدة جيولوجيًا، تقع فوق الحدود التكتونية بين الصفائح الإفريقية والأوراسية، مؤكدًا وجود ثلاثة أحواض رسوبية في الساحل السوري، وأن نتائج التحليل المسحي “مشجعة”، بوجود مكامن للنفط والغاز.
وتعد اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982 هي النظام المعترف به عالميًا، الذي يتناول جميع المسائل والقضايا المتعلقة بقانون البحار، ولم تصدّق سوريا وتركيا وإسرائيل عليها.
أبرز السمات لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار:
-
تمارس الدول الساحلية السيادة على مياهها الإقليمية التي لها الحق في تحديد عرضها حتى حد لا يتجاوز 12 ميلًا بحريًا، ويُسمح للسفن الأجنبية بـ”المرور البريء” عبر تلك المياه.
-
يسمح للسفن والطائرات التابعة لجميع البلدان بـ”المرور العابر” عبر المضائق المستخدمة في الملاحة الدولية، ويمكن للدول المطلة على المضائق تنظيم الجوانب الملاحية وغيرها من جوانب المرور.
-
الدول الأرخبيلية، التي تتكون من مجموعة أو مجموعات من الجزر المترابطة بشكل وثيق والمياه المترابطة، لها السيادة على منطقة بحرية محاطة بخطوط مستقيمة مرسومة بين النقاط الأبعد للجزر، وتعلن المياه بين الجزر مياهًا أرخبيلية حيث يجوز للدول إنشاء ممرات بحرية وطرق جوية تتمتع فيها جميع الدول الأخرى بحق المرور الأرخبيلي عبر هذه الممرات البحرية المحددة.
-
تتمتع الدول الساحلية بحقوق سيادية في منطقة اقتصادية خالصة تمتد لمسافة 200 ميل بحري فيما يتعلق بالموارد الطبيعية وبعض الأنشطة الاقتصادية، وتمارس الولاية القضائية على أبحاث العلوم البحرية وحماية البيئة.
-
تتمتع جميع الدول الأخرى بحرية الملاحة والتحليق في المنطقة الاقتصادية الخالصة، فضلًا عن حرية وضع الكوابل وخطوط الأنابيب البحرية.
-
تتمتع جميع الدول بالحريات التقليدية في الملاحة والتحليق والبحث العلمي وصيد الأسماك في أعالي البحار، وهي ملزمة باعتماد التدابير اللازمة لإدارة الموارد الحية والحفاظ عليها، أو التعاون مع الدول الأخرى في اعتماد هذه التدابير.
-
تلتزم الدول بمنع التلوث البحري والسيطرة عليه وتتحمل المسؤولية عن الأضرار الناجمة عن انتهاك التزاماتها الدولية بمكافحة هذا التلوث.
-
تلتزم الدول بتعزيز تطوير ونقل التكنولوجيا البحرية “بشروط وأحكام عادلة ومعقولة”، مع مراعاة جميع المصالح المشروعة.
-
تلتزم الدول الأطراف بتسوية نزاعاتها المتعلقة بتفسير أو تطبيق الاتفاقية بالوسائل السلمية.
-
يمكن إحالة النزاعات إلى المحكمة الدولية لقانون البحار المنشأة بموجب الاتفاقية، أو إلى محكمة العدل الدولية، أو إلى التحكيم.
تركيا تحرك الترسيم وتثير المخاوف
ملف الترسيم حرّكته تركيا بعد سقوط نظام بشار الأسد بأسبوعين، عبر وزير النقل والبنية التحتية، عبد القادر أورال أوغلو، الذي أكد عزم بلاده بدء مفاوضات مع سوريا لترسيم الحدود البحرية في البحر المتوسط، معتبرًا أن مثل هذه الصفقة ستسمح للبلدين بتحديد منطقة نفوذهما في استكشاف الطاقة.
وربط أورال أوغلو إمكانية العمل على اتفاقية بوجود سلطة في سوريا أولًا، مؤكدًا أن أي اتفاق في المستقبل سيكون متوافقًا مع القانون الدولي، في حين لم تقابل تصريحاته برد رسمي سوري.
الإعلان التركي أثار اعتراضات ومخاوف من قبل اليونان وقبرص، وخلق لديهما حالة تأهب واستعداد للتعاون داخل أوروبا لمعالجة سيناريو محتمل يتضمن ترسيم منطقة اقتصادية خالصة بين تركيا وسوريا، خاصة أن تركيا أبرمت اتفاقًا بحريًا مماثلًا مع ليبيا في 2019، اعتبره حينها الاتحاد الأوروبي انتهاكًا للقانون الدولي، ما صعّد التوترات حينها بين أنقرة وأثينا.
واعتبرت حكومتا اليونان وقبرص أن أي اتفاق بين تركيا وسوريا يجب أن يستند إلى القانون الدولي، ولا سيما اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وتقودان حاليًا “جهدًا دبلوماسيًا منسقًا بعناية”، وتسعيان إلى جذب اهتمام الاتحاد الأوروبي حول الاتفاق المحتمل بين تركيا وسوريا، معتبرتين أن الاتفاق يتجاهل الحقوق السيادية لقبرص.
أما إسرائيل، فلا تعد طرفًا مباشرًا في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية سواء بين سوريا ولبنان أو سوريا وتركيا، ولم يصدر أي تصريح رسمي عنها، بينما تثار المخاوف من تنامي النفوذ التركي في سوريا.
ووفق مقال للضابط الإسرائيلي أميت ياغور (رئيس الساحة الشمالية في المخابرات البحرية)، اعتبر أن التدخل التركي في سوريا يحمل تهديدًا لإسرائيل، ومنه نيات بدء مفاوضات إنشاء حدود بحرية معها، لأن من المرجح جدًا أن تتضمن خطط الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إحياء الحلم التركي وتحويل تركيا إلى مركز لتسويق الغاز لأوروبا.
مرونة في لبنان.. أكثر من تركيا
لم يصل نظام حكم الأسد أو الحكومات اللبنانية المتعاقبة إلى حل الخلاف على ترسيم الحدود البحرية بين سوريا ولبنان، وجوهره المنطقة الواقعة ضمن “البلوك رقم 1” في المنطقة الخاصة بسوريا، وهي تتعارض مع الخرائط اللبنانية بمساحة 750 كيلومترًا مربعًا، لأنها متداخلة مع “البلوك رقم 1″ و”البلوك رقم 2” من الجانب اللبناني.
الخلاف يعود إلى الواجهة مع أي تحرك من الطرفين عبر تصريحات أو منح تراخيص لشركات للتنقيب عن النفط أو الغاز في المياه الإقليمية بالبحر المتوسط، ومنها حين منح الجانب السوري ترخيصًا لشركة “كابيتال” النفطية الروسية للتنقيب عن النفط في آذار 2021، وهو الثاني من نوعه، إذ جرى أول اتفاق مع روسيا للاستكشاف والتنقيب في كانون الأول 2013.
لبنان اعتبر الأمر “تعديًا على سيادته البحرية”، واتهم رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، النظام السوري السابق بـ”قضم” 750 كيلومترًا مربعًا من حدود لبنان البحرية، وهدد باللجوء إلى محكمة العدل الدولية إذا فشلت المفاوضات الودية.
أما رئيس “التيار الوطني الحر” في لبنان (وزير الخارجية الأسبق)، جبران باسيل، فقال في نيسان 2021، إنه أرسل أكثر من 20 كتابًا رسميًا للمعنيين بالقضية في سوريا ولبنان، منذ عام 2010 وحتى عام 2017، لحثهم على حل الخلاف، دون التوصل إلى جواب.
الجانب السوري كان أقل حماسة في ملف الترسيم، وكانت مواقفه متباينة بين تجاهل رسمي للتصريحات اللبنانية، واعتراض على مقترحات، وإبداء العمل على الترسيم، وإجراء اتصالات مع مسؤولين لبنانيين في هذا الصدد، دون أي تقدم ملموس.
في 2022، توصلت لبنان وإسرائيل إلى اتفاق لترسيم حدودهما البحرية، بعد وساطة أمريكية دامت عامين، وقد وصفت إسرائيل هذا الاتفاق بـ”التاريخي”، لأنه سيسمح للطرفين بالتنقيب عن الغاز والنفط في المنطقة المتنازع عليها بالمياه الإقليمية.
حينها، رحّبت سوريا بالاتفاق وكانت على علم بمختلف تفاصيله، وبات الترسيم البحري مع لبنان “ممكنًا”، وبالتالي تسهيل مسألة استخراج الغاز السوري من “البلوكات” البحرية المتنازع عليها مع لبنان، وفق تقرير لصحيفة “الجمهورية” اللبنانية، لكن الترسيم بين البلدين لم ينجز، واعتذرت دمشق عن عدم استقبال الوفد اللبناني لبحث قضية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، بسبب “ارتباطات مسبقة“.
تواصلت عنب بلدي مع مكتب العلاقات العامة في الحكومة السورية للحصول على توضيحات حول موقف الحكومة من الدعوات التركية لترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وعن تحركاتها في هذا الاتجاه، وعن آلية التنسيق بين سوريا ولبنان في ملفي ترسيم الحدود البرية والبحرية، واتخاذ أي خطوات في هذا الصدد، لكنها لم تتلقّ ردًا حتى لحظة نشر هذا الملف.
الباحث السوري بمجال الإدارة المحلية والاقتصاد السياسي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” أيمن الدسوقي، لا يعتقد أن ترسيم الحدود البحرية على أجندة الإدارة السورية الانتقالية، نظرًا إلى تشابك المصالح وتضاربها بين دول شرق المتوسط، والخشية من ارتدادات سلبية على علاقات سوريا الخارجية وأولويات الإدارة السورية حاليًا جراء التحرك في هذا الاتجاه.
وقال الدسوقي لعنب بلدي، إن عدم تبلور رؤية استراتيجية متكاملة بعد للإدارة السورية في سياستها الخارجية، عامل مهم وينعكس على ملف ترسيم الحدود البحرية.
ما سبق، لا يلغي انفتاح الإدارة السورية الانتقالية تجاه الانخراط في صيغ إقليمية أو ثنائية لمناقشة مسألة ترسيم الحدود البحرية دون عقد اتفاقيات حاليًا، ففي ذلك تعزيز لشرعيتها عبر حجز مقعد لها على طاولة المناقشات، واستطلاع لمواقف الدول ومصالحها تجاه ملف ترسيم الحدود البحرية، واستخدام المناقشات والمفاوضات كساحة للمناورة وإن كانت صعبة لتحصيل مكاسب ما، على أن يساعدها ذلك في تأمين أرضية مناسبة للتحرك حينما يقتضي الأمر ذلك، وفق الباحث.
وأضاف الدسوقي أن ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وسوريا قد يكون أمرًا في متناول اليد مقارنة بالاتفاق مع تركيا، فهذه الخطوة قد لا تثير مخاوف كبيرة لدى دول شرق المتوسط، فضلًا عن أن هناك تغيرًا سياسيًا في كلا البلدين وإرادة للعمل المشترك على حلحلة القضايا الخلافية ومنها ملف الحدود، إلى جانب دور إقليمي لا يمكن تجاهله ممثلًا بالمملكة العربية السعودية لمساعدة كلا البلدين على وضع إطار مشترك لتجاوز خلافاتهما السابقة.
عقبات قانونية
الباحثة اليونانية المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط إيفا كولوريوتيس، ترى أن الحكومة الحالية في سوريا لا تزال تعتبر حكومة انتقالية من الناحية القانونية، أي أنها لا تملك الصلاحيات الكافية للمضي قدمًا في خطوة ترسيم الحدود البحرية مع تركيا أو أي من دول الجوار، وحتى في حال تجاوز هذا التفصيل، فبموجب القانون الدولي، لا يُعترف بأي تفاهم بين دولتين بشأن حدودهما البحرية إذا كانت هناك دولة ثالثة متأثرة بهذا التفاهم ومعترضة عليه.
ولفتت كولوريوتيس إلى وجود دولتين معنيتين في قضية الحدود البحرية بين سوريا وتركيا، هما قبرص ولبنان. كما لم تتوصل نيقوسيا بعد إلى تفاهمات شاملة مع شمال قبرص تتضمن المستقبل السياسي والجغرافي للجزيرة، في ظل تبني الحكومة الحالية بشمال قبرص قرار الانفصال، وهو ما ترفضه نيقوسيا.
وقالت كولوريوتيس، لعنب بلدي، إن هذا الوضع الضبابي في قبرص يعطل حل الملفات الخلافية مع تركيا، بما فيها الحدود البحرية، دون إمكانية التوصل إلى تفاهمات منفصلة عن المستقبل السياسي للجزيرة. لذلك، من المرجح أن تُقابل أي خطوة في ملف ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وسوريا برفض من نيقوسيا، وستدعم أثينا هذا الاعتراض.
وفق الخبيرة كولوريوتيس، تدرك الحكومة التركية هذه التعقيدات، لكن رؤيتها تقوم على الحصول على مذكرة تفاهم مع دمشق مماثلة لتلك التي وقعت مع ليبيا أواخر عام 2019، وتم تسجيلها لدى الأمم المتحدة في أيلول 2020، على الرغم من الاعتراضات اليونانية.
وترى كولوريوتيس أنه من خلال مذكرة التفاهم بين أنقرة ودمشق، يمكن لتركيا تحسين موقفها التفاوضي تجاه اليونان وقبرص في ضوء أي محادثات مستقبلية لترسيم الحدود بين الدول الثلاث.
الباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر، ذكر أن احتياطيات الغاز في شرق المتوسط كبيرة، وهي من حق عدة دول، منها سوريا وتركيا واليونان وقبرص ولبنان ومصر، ويمكن أن تكون هناك حقوق اقتصادية لليبيا أيضًا.
واستبعد الباحث حاليًا تحديد حصة كل دولة من احتياطيات الغاز شرق المتوسط، كما لا يمكن البدء بالتنقيب قبل ترسيم الحدود البحرية بين الدول ذات الصلة، لافتًا إلى وجود عدة عقبات، أهمها أن تكون كل الدول موقعة على اتفاقية قانون البحار، لأن الاتفاقية من شأنها تحديد المياه الإقليمية والاقتصادية لكل دولة.
العقبة الأخرى هي الخلاف التركي اليوناني على الحدود البحرية، وهذا الخلاف قد يحول دون بدء سوريا بأعمال التنقيب عن الغاز، لأن الخلاف يحول دون عملية ترسيم الحدود في كامل المنطقة، وفق السيد عمر.
اجتماع خماسي.. “ملف معقد”
في آذار الماضي، كان الحديث عن ترسيم الحدود البحرية حاضرًا في اجتماع هاتفي خماسي جمع الرئيس السوري أحمد الشرع، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والرئيس اللبناني جوزيف عون، والرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدز، ورئيس وزراء اليونان كيرياكوس ميتسوتاكيس.
وكان من مخرجات الاجتماع دعم الجميع لترسيم الحدود البحرية لسوريا على أساس القانون البحري الدولي، بما في ذلك اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، مع مراعاة مصالح الدول الأوروبية المجاورة، والالتزام بإنشاء لجان مناسبة لتحقيق هذا الهدف.
الثروة الغازية السورية في شرق المتوسط من شأنها تقديم قيمة اقتصادية واستراتيجية للدولة، لكن في المدى القريب تبدو الظروف غير مهيأة لبدء الاستثمار في هذه الثروة.
يحيى السيد عمر
باحث في الاقتصاد السياسي
الباحثة اليونانية المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط إيفا كولوريوتيس، ترى أن التوصل إلى اتفاق مع الدول المعنية في شرق البحر الأبيض المتوسط، أمر بالغ التعقيد، لأن ملف ترسيم الحدود بين اليونان وتركيا، رغم وجود تفاهمات تعود إلى معاهدة “لوزان” عام 1923، عاد إلى الواجهة بين البلدين قبل نحو عقدين، ورغم جولات المفاوضات العديدة، التي انتقلت من جنيف إلى فيينا ثم إلى المفاوضات المباشرة، لا يزال الملف عالقًا ويعود للظهور بين الحين والآخر.
رغم كل هذه التعقيدات، ومع افتراض حل هذه القضايا، وترسيم الحدود البحرية بين تركيا وسوريا وقبرص ولبنان، فإن الأهمية الاقتصادية والجيوسياسية للمنطقة بأسرها بالغة الأهمية، إذ تؤكد جميع الأبحاث المتعلقة بهذه المنطقة وجود كميات كبيرة من الغاز الطبيعي، مما قد يجعل هذه الدول أطرافًا مهمة في سوق الغاز العالمي، كما سيسهل الترسيم إنشاء خطوط أنابيب الغاز بين الشرق الأوسط وأوروبا، وفق الباحثة.
على دمشق التعامل مع قضية ترسيم الحدود البحرية بطريقة عملية وحساسة لتجنب جعلها سببًا للتوتر في العلاقات بين دمشق والدول الأخرى. إن قضية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وسوريا عامل مباشر يؤثر على موقف هذين البلدين، بعد أن تحدث المسؤولون الأتراك مرارًا عن جهود أنقرة للمضي قدمًا في ترسيم الحدود مع دمشق.
إيفا كولوريوتيس
باحثة متخصصة في شؤون الشرق الأوسط
الباحث السوري بمجال الإدارة المحلية والاقتصاد السياسي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” أيمن الدسوقي، يرى أنه في حال تم التوصل لترسيم الحدود البحرية بين سوريا وتركيا ولبنان، وإن كان يحمل منافع ومكاسب اقتصادية لسوريا، يبقى تحققها مثار شكوك في ظل الوضع المعقد بشرق المتوسط والانقسام الحاصل، إلا أن دلالاتها الجيوسياسية ستكون أوضح لجهة تعزيز حضور تركيا كلاعب في معادلات غاز شرق المتوسط، وارتدادات ذلك على سوريا وعلاقاتها بدول شرق المتوسط.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :