الفصل الجندري وتوسع التسلط الذكوري في سوريا
لمى قنوت ورهام قنوت رفاعي
تتقلص مساحات النساء بتنوعاتهن كلما توسع وتجذر حكم السلطة الجديدة في سوريا، وتُخصص لهن أحياز خاصة، مبنية على نظام فصل تمييزي حاد، باعتبارهن مصدرًا للغواية وأجسادًا تهدد الذهن الذكوري وتشتته، وبالتالي وجب عزلهن وإخضاعهن وتطويعهن ومراقبتهن كي ينطلق الذكور لمهامهم في بناء الوطن، وبذلك تعيد السلطة إلى أذهاننا نماذج حكم فرضت وصايتها الأيديولوجية على عموم الشعب بشكل عام، وعلى النساء بشكل خاص، خلال تحولات سياسية كبيرة مثل فترات الصراعات وما بعد الثورات، كالنموذج الأفغاني والليبي والإيراني على اختلاف السياقات.
سوريًا، ومنذ عام 2011، ثارت النساء بتنوعاتهن على الاستبداد، وكن في المقدمة، ثائرات يدافعن عن مواطنيتهن، وكانت الكثيرات منهن، وما زلن، قائدات في مجتمعاتهن ومعيلات لأسرهن، وخضن غمار النجاة بأنفسهن وبأسرهن وبمجتمعاتهن في مختلف المناطق تحت سلطات الأمر الواقع المتعددة، وقادت الكثيرات حراكات المحاسبة وتوثيق الانتهاكات وتوثيق الذاكرة من أجل دمقرطة التاريخ وجندرة مختلف الملفات السياسية والاجتماعية والدستورية والاقتصادية، كشريكات وفاعلات في بناء الوطن والمستقبل.
سياسة جس النبض
تلقي السلطة الجديدة “بالونات اختبار” (trial balloons)، وهي تكتيك يستخدمه صناع القرار عبر تسريب متعمد لمعلومات للإعلام لاستقراء الرأي العام حول قضايا مختلفة، ومثال على ذلك تسريب مسودة الإعلان الدستوري بعد ساعة من تكليف لجنة لصياغته، وتظهر عقلية الاختبار هذه أيضًا، في نمط سياسة إصدار قرارات والتراجع عنها حين يعلو الصوت ضدها، وفي غياب الشفافية والانفتاح السياسي التشاركي الحقيقي، تتسبب سياسات المد والجذر هذه في تشويش الرأي العام وحرف الحياة السياسية عن الحوار في جوهر القضايا والتحديات، وتُحول الطاقات نحو سجالات تصديق للشائعات أو القرارات ونفيها، فتتشرذم جهود المجتمع المدني والحقوقيين والمسيسين التقدميين، من النساء الرجال.
تتكثف مؤخرًا أخبار توسع جهود السلطة الجديدة والمتوافقين معها أيديولوجيًا بإحقاق الفصل الجندري (gender separation /segregation) في الفضاءات العامة المختلفة، وهو اصطلاحًا: الفصل الفيزيائي أو القانوني أو الثقافي للأشخاص بناء على الجنس البيولوجي أو الجندر ضمن منظومة ذكورية إقصائية مبنية على معيارية نمطية قطبية (gender polarization)، وتجدر الإشارة هنا إلى الجهود النسوية والحقوقية الساعية في حالات الفصل الجندري التي ترقى لمنظومة فصل عنصري شاملة (Gender apartheid) لإدراجها كجرائم ضد الإنسانية في القانون الدولي، مثل البنى الاجتماعية السياسية القائمة في أفغانستان وإيران، وسابقًا في السعودية.
ويتم اليوم في سوريا فرض هذه الإجراءات والفرمانات الجديدة تحت ذرائع مثل “الخصوصية الثقافية للأكثرية” و”حماية المرأة” و”ضمان المستقبل العلمي لشبان الأمة”، وغيرها من شعارات اليمين السياسي التي لطالما اشتبك الفكر النسوي معها وفكك أبعادها وتجلياتها التمييزية والاضطهاد الناتج عنها.
وبين سياسة جس النبض وحملات التهويل والتزييف الإلكترونية التي انتعشت عقب إسقاط النظام البائد، والسياسة المزدوجة للسلطة، يكثر التشكيك والتقليل من شأن الهواجس النسوية من هذه التوجهات الأيديولوجية ومآلاتها وانعكاسها على الحياة العامة والحريات الفردية والجماعية وحقوق الإنسان للنساء وفئات ومكونات مجتمعية أخرى من غير لون “هيئة تحرير الشام” ورجال الدين المُرَحب بخطابهم.
وفي تأكيد على أحقية هذه التحذيرات وجب النظر في فكر وتاريخ مَن تُعين السلطة الجديدة لرئاسة وزارة العدل، وهو مؤشر كافٍ لفهم الموقف الأيديولوجي لهذه السلطة، بعيدًا عن محاولاتها الرمزية (tokenist) للتوصل إلى مساومة توفق بين المطالب الأوروبية والأمريكية لرفع العقوبات وتطبيع العلاقات معها من جهة، ومن جهة أخرى، بين آمال السلطة وفئة من الشعب تعتبر أن “المكون السني” ومن يُحسب عليه من ليبراليين وعلمانيين ويساريين في سوريا، هم جميعهم عبارة عن كتلة صماء متجانسة تتطابق مع أيديولوجية وممارسات هذه السلطة.
“العدل” والنساء في فقه السلطة الجديدة
إن تعيين شادي الويسي، وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال الذي ظهرت له مقاطع فيديو وهو يعدم امرأتين ميدانيًا بتهمة “الزنا”، بحسب ادعائه، يعد بأقل تقدير علامة على تساهل هذه السلطة مع جرائم قتل النساء (Femicid) والعنف المبني على النوع الاجتماعي، ورؤيتها لشرعية ممارسة الدولة لدور شُرَطي على أجسادهن ووكالتهن عليها (Agency)، أما بالنسبة للطبيب مظهر الويس، وزير العدل الحالي في الحكومة الانتقالية، فكتابه “دورة في علم القضاء الشرعي” يطرح تساؤلات كثيرة عن فقه السلطة الجديدة تجاه “العدل” وشكل الدولة التي تَشرَعُ ببنائها.
يحدد الويس في كتابه صفات وشروط القاضي (ص 12)، ومنها أن يكون مسلمًا، وألا يكون “كافرًا”، فلا “تجوز ولاية الكافر على المسلم”، وأن يكون بالغًا، عاقلًا، ذكرًا، “فلا يجوز قضاء المرأة”، واعتبر الويس في كتابه أن قول الطبري وابن حزم في جواز قضائها، وبعض من “أجاز لها القضاء فيما تجوز فيه شهادتها”، وجواز حكمها في الأموال وليس في “الحدود”، هي جميعها أقوال ضعيفة، فبالنسبة للمدرسة الفقهية التي يتبعها الويس “العلّة في عدم جواز قضائها لعدم الاختلاط مع الناس، والأصل للمرأة أن تكون في بيتها، كما أن القضاء موضع للهيبة ولا هيبة للمرأة، وأيضًا فالقضاء لا بد له من فهم الواقع والاختلاط بالواقع، فالقول الصحيح إنه لا يجوز لها القضاء”، وأضاف إلى شروط القاضي بأنه يجب “أن يكون حرًا، فالمملوك ليس له ولاية على نفسه، فكيف يكون له ولاية على غيره”، وهذا يدفعنا للتساؤل: بأي إطار تأتي فكرة “المملوك” في هذا العصر؟ وأي حقوق إنسان نتحدث عنها في ظل هذه العقلية! وما تداعيات الوصم التكفيري لفئات من المجتمع، خصوصًا في ظل سلم أهلي هش!
هيبة القضاء ورهبة الحسبة
عند النظر في كتاب الويس عن “كيفية أداء الأمانة في المقاصد الشرعية الخمسة”، يتحدث عن تشريعات قضائية عقابية ردعيّة وُضعت “لمنع الانحراف” (ص 8)، كقتل المرتد وضرب المبتدع لحفظ الدين، وإقامة القصاص لحفظ النفس، و”إقامة حد الزنى وحد القذف، لحماية النسب والعرض”، وغيرها من الأحكام، ويركز الويس على هيبة القضاء ورهبة الحسبة، والحسبة هي مؤسسة موازية للقضاء “تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر”، مثل “الأمر بالحجاب وصلاة الجماعة إذا ظهر تركها، والنهي عن الفسوق والفجور والتبرج”، ويكون عمل الحسبة في الأسواق والشوارع، أي لمعاقبة “المنكرات الظاهرة”، حسب قوله، ومقام الحسبة “مقام الرهبة والردع الفوري”، ولا يجوز على “المحتسب المعيّن من والي الأمر أن يتستر على مرتكب الإثم في حدود الله، أما المتطوع فيستحب له أن يتستر على الحدود”. وهذا فعلًا ما أبرزته فيديوهات صورها أفراد محسوبون على السلطة تُظهر تعنيف أطفال وشبان وحلق رؤوسهم بغاية التشهير والعقاب لتحرشهم اللفظي بالنساء، وفي هذه الممارسات تقويض مباشر لبناء الدولة الحديثة، وترهيب للناس في الشارع، وليست “حلولًا” حقيقية لرفع الوعي الجمعي ومناهضة العنف المبني على النوع الاجتماعي.
إن المغالطات التي يقع فيها التقدميون في ترك الدفاع عن حقوق النساء بتنوعاتهن، والسكوت عن تهميشهن، والفصل الجندري الذي بدأ يستشري، ستطول كل من يختلف عن أيديولوجية هذه السلطة، عاجلًا أم آجلًا، وعليه فالوقوف معًا، وفي الصفوف الأمامية من أجل الدفاع عن الحريات والحقوق، هو واجب وضرورة كي لا نقول يومًا: أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :