لماذا يتجنبه مروجو دعاية النظام 

 الاعتذار.. خطوة نحو الناجين وذوي الضحايا  

أهالي المعتقلين ينتظرون أي معلومات عن أبنائهم أمام سجن صيدنايا - 9 كانون الأول 2024 (عنب بلدي/ ديان جنباز)

camera iconأهالي المعتقلين ينتظرون أي معلومات عن أبنائهم أمام سجن صيدنايا - 9 كانون الأول 2024 (عنب بلدي/ ديان جنباز)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – حسن إبراهيم

خلال الأشهر التي تلت سقوط النظام السوري، تكررت النقاشات على وسائل التواصل الاجتماعي بضرورة أن يقوم من مجّدوا المنتهكين وشاركوا في دعايتهم بالاعتذار كخطوة تصالحية مع أنفسهم ومع السوريين بشكل عام.

وانتظر سوريون مواقف شجاعة ممن كانوا موالين للأسد وشهودًا على المجازر والانتهاكات الجسيمة التي وصفت بأنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، متطلعين لسماع اعتذار يساعد بتهدئة مشاعرهم المجروحة، وإقرار بحجم الظلم والقهر والأذى الذي طالهم، دون أن يمنح ذلك براءة ذمة لكل متورط بالدم السوري.

تلك الدعوات قوبلت بتخوف مشروع من تنميط قد يلحق بقسم من المعتذرين، أو يفسر اعتذار أي شخص بسبب صمته أو ارتكاب أشخاص من طائفته انتهاكات بمنزلة اعتراف له تبعات ومخاطر على المعتذِر.

وفي حين تشير وجهة نظر متخصصة إلى أن الاعتذار يشكل راحة لذوي الضحايا وللناجين، لكنه لا يعوض المجتمع عن تحقيق العدالة الانتقالية.

البعض يصرّ على الإنكار

خلال مقابلة له، رفض مدير المكتب الإعلامي والسياسي في الرئاسة السورية سابقًا، كامل صقر، الاعتذار للسوريين.

وردًا على سؤال حول شعوره أن السوريين يحتاجون إلى اعتذار منه، أجاب بأنه كان يؤدي “دورًا سياسيًا وإعلاميًا ليس فيه ما يستدعي منه الاعتذار”، لأنه لم يكن ليمارس الخطأ أو الإساءة بحق الوطن أو أفراده، بحسب تعبيره.

صقر الذي اعتبر نفسه “مجرد موظف يؤدي عمله”، بحسب تعبيره، قال إن المقربين من الرئاسة ذُهلوا بمشاهد السجون ومعامل “الكبتاجون”، في الوقت الذي كانت فيه حتى جدران سوريا تئنّ من هول الظلم والاستبداد المتراكم على مدار حكم الأسدين.

الحالة الأخرى التي استفزت مشاعر السوريين، كانت وصف الممثلة سلاف فواخرجي، بشار الأسد بأنه “شخص شريف“، “إنسان محترم بسيط”، و”إلى هذه اللحظة أراه شريفًا”، مؤكدة تمسكها بهذا الموقف “إلى أن يظهر عكس ذلك”.

وعن وقوع انتهاكات ومجازر في سوريا، قالت فواخرجي، إن “بشار الأسد لم يفعل ذلك بشكل شخصي”، وعن هروبه إلى روسيا قالت، “لا أعرف إن كان هرب من نفسه أو أُجبر على الهروب”، و”كنت أتمنى لو استشهد”.

تصريحات بعض الموالين لنظام الأسد أثارت جدالات إضافية على وسائل التواصل، لتتجاوز المسألة غياب الاعتذار إلى إنكارهم ماضي النظام وتاريخه الملوّث وجرائمه، وكذلك تورطهم في الترويج لدعايته وتأييده وتمجيد ودعم قواته، والصمت عن كل ما ارتكبه خلال تلك السنوات.

ومثال ما حصل في موقفي سلاف فواخرجي والمستشار السابق في قصر الأسد، استعراض مدير فريق “مدى التطوعي” بمدينة حمص لـ”مظلوميات” فريقه خلال حكم النظام السوري السابق، إذ لم يستطع الإعلامي السوري أبو بكر السقا أن يبقى صامتًا أمام الاستعراض، لا سيما أن منشورات المدير كانت “تشبيحية” لمصلحة الأسد وجنوده، فطالبه على الأقل بالاعتذار أولًا، وذلك خلال ندوة حوارية بالمركز الثقافي بمدينة حمص وسط سوريا.

حملة “أنا أعتذر”

يخشى بعض الأشخاص الاعتذار، حتى لو كان خطؤهم الصمت أو عدم اتخاذ موقف من الثورة السورية، أو من قمع النظام وقواته، لأنه يفتح باب إدانتهم وانتقادهم، أو يوقعهم في مرمى الصدام، خاصة مع موجة الغضب في الشارع السوري، وانتظار البدء بتطبيق العدالة الانتقالية.

المهندس بسام جمعة وهو معتقل سياسي سابق، أطلق حملة مفتوحة لمن أردا التوقيع عليها، بعنوان “أنا أعتذر”، وجاء في نصها: “نحن مجموعة من الأفراد الذين ينتمون إلى الطائفة العلوية ولادة، وإلى سوريتنا اختيارًا، نتقدّم إلى الشعب السوري بجميع أطيافه، وخصوصًا المكوّن السني، باعتذار بكل ما تحمله كلمة اعتذار من معنى”.

جاء في الحملة أربعة بنود، ملخصها البراءة من الطغاة (الأب والابن) ومن جرائمهم، ومن كل من أسهم في ارتكاب هذه الجرائم، ودعوة جميع أبناء الطائفة العلوية إلى عدم التستر على من تلطخت يداه بالدماء أو أسهم في سفكها، وعدم إعاقة عمل الأجهزة الأمنية الرسمية.

والاعتذار من كل أم وزوجة وأب وطفل، لعدم استطاعة حمايتهم أو منع الجرائم التي ارتُكبت بحقهم من قتل وتدمير وتهجير واعتقال، والاعتذار عن الصمت والخوف، وعن العجز عن منع بعض أبناء الطائفة من دعم النظام المجرم، وفق الحملة.

ودعت الحملة كل من تعاطف مع النظام البائد، تحت أي ذريعة، إلى مراجعة ذاتية نقدية، وتقديم الاعتذار للشعب السوري، مع التأكيد على أن الاعتذار لا يعني أن الأشخاص في الحملة كانوا يدعمون النظام السابق، لكن الاعتذار هو ضرورة أخلاقية وتاريخية في سبيل بناء سوريا جديدة، موحدة، يسودها العدل والمواطنة، وتحتضن جميع أبنائها، وفق نص الحملة.

رغم أهداف الحملة المعلنة، فإنها لقيت عدة انتقادات، منها أنها تلصق الذنب بالهوية وليس بالفعل، وهذا ظلم أخلاقي، وأنها تفتقر إلى العدالة الحقيقية، وتعيد إنتاج نفس المشكلة التي تحاول الحملة معالجتها.

لماذا لا يعتذرون؟

الاختصاصي النفسي والفيزيائي باسل نمرة، قال لعنب بلدي، إن الأشخاص الذين لا يقدمون الاعتذار لديهم علامات واضحة من اضطراب ضعف الشخصية، وكل إنسان لديه ضعف في الشخصية لا يمكن أن يقدم أي اعتذار عن أي خطأ ارتكبه، مهما كان هذا الخطأ سواء كان كبيرًا أو بسيطًا، وسواء كان باتجاه أقرب الناس إليه أو الغرباء عنه.

وأضاف أن الممانعة في الاعتذار تزيد كلما ضعفت صلة القرابة بين الأشخاص، لأنها تضاف إليها المكابرة أو التكبر، من مبدأ “شخص غريب لماذا أعتذر إليه”، مؤكدًا أنها نوع من أنواع ضعف الشخصية الذاتية.

وعن العوائق التي تمنع الناس من الاعتذار، ترى رئيسة برنامج علم النفس الاجتماعي بجامعة “بيتسبرغ”، كارينا شومان، (Karina Schumann)، أن الحاجز الأبرز هو عندما ينفصل الشخص أخلاقيًا عن أفعاله، ما يسمح للشخص بالقول، “حسنًا، لا يوجد ما يحتاج إلى تصحيح هنا، أنا على حق”.

وحتى عندما يدرك الشخص أنه أخطأ وأن الاعتذار قد يكون مبررًا، فهناك عائق أنه لا يهتم حقًا بالآخر، أو بالعلاقة بما يكفي لوضع نفسه في موقف حرج ويجعلها عرضة للخطر من خلال الاعتذار، أو بذل جهد إضافي لإصلاح العلاقة، وفق شومان.

الحاجز الثاني هو عندما يشعر الشخص أن الاعتذار سيهدده، وكذلك اعتقاده بأن الاعتذار لن يكون مفيدًا.

يحقق راحة أولية

الاختصاصي النفسي والفيزيائي باسل نمرة، يرى أن الضحايا والناجين بحاجة إلى سماع الاعتذار، لأن الاعتذار أول شيء وأقل شيء يواسيهم عن فقدانهم لأحبائهم، لافتًا إلى أنهم يطلبون ويريدون محاسبة الجناة، لكن باعتبار الوصول إلى العدالة الانتقالية يتطلب وقتًا، فهم يحتاجون إلى سماع الاعتذار.

ويرى نمرة أن الاعتذار يحقق راحة مبدئية مؤقتة للضحايا والناجين، لكن إذا لم يتبع الاعتذار محاسبة الجناة الذين ارتكبوا بحقهم وحق أبنائهم الانتهاكات والأذية، فسيتحول مفعول الاعتذار إلى سلبي تمامًا، ويصبح نقمة وأذية نفسية تضاف إلى الأذية الأساسية التي تعرضوا لها.

وفي 13 من آذار الحالي، وقّع  الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، مسودة الإعلان الدستوري بعد تسلّمه من لجنة الخبراء المكلفة بصياغته، متضمنًا المادة “49” التي حظيت بتفاعل كبير من السوريين، لأن جوهرها الأساسي قائم على اعتبار تمجيد نظام الأسد المخلوع ورموزه وإنكار جرائمه أو الإشادة بها أو تبريرها أو التهوين منها جرائم يعاقب عليها القانون.

وتضمنت المادة “49” من الإعلان الدستوري ثلاث فقرات هي:

  • الفقرة الأولى: إحداث هيئة لتحقيق العدالة الانتقالية تعتمد آليات فاعلة تشاورية مرتكزة على الضحايا، لتحديد سبل المساءلة والحق في معرفة الحقيقة، وإنصاف للضحايا والناجين، بالإضافة إلى تكريم الشهداء.
  • الفقرة الثانية: تستثنى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية وكل الجرائم التي ارتكبها النظام البائد، من مبدأ عدم رجعية القوانين.
  • الفقرة الثالثة: تجرّم الدولة تمجيد نظام الأسد البائد ورموزه، ويعد إنكار جرائمه أو الإشادة بها أو تبريرها أو التهوين منها، جرائم يعاقب عليها القانون.

اعتذار صادق علني حقيقي يمهد للعدالة

نور الخطيب

مديرة قسم التوثيق في “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”

 

الاعتذار خطوة رمزية لكنها ضرورية، خاصة إذا جاء من جهات أو أفراد كانوا جزءًا من منظومة القمع أو مؤيدين لها. ويكتسب الاعتذار أهميته عندما يكون صادقًا، علنيًا، ويعترف بالمسؤولية المباشرة عن الانتهاكات، وليس مجرد محاولة للتبرؤ من الماضي دون تحمل تبعاته.

لكن في الحالة السورية، كانت الانتهاكات ممنهجة وشملت جرائم ضد الإنسانية، لا يمكن للاعتذار أن يكون بديلًا عن العدالة. فبالنسبة للضحايا والناجين وذويهم، المسألة ليست مجرد كلمات، بل تتعلق بحقوق أساسية كالمحاسبة الجنائية، فالاعتذار لا يعفي من المسؤولية القانونية. من ارتكب أو شارك أو دعم الجرائم يجب أن يخضع للمحاسبة وفق القانون ومحاكمات عادلة تضمن عدم الإفلات من العقاب وجبر الضرر.

ويتطلب الاعتراف بالانتهاكات اتخاذ إجراءات فعلية لتعويض الضحايا، سواء من خلال التعويضات المادية، أو إعادة التأهيل، أو رد الاعتبار، أو ضمان عودة الحقوق المغتصبة.

وأخيرًا، من المهم تخلي المجتمع عن ثقافة التبرير، فجزء كبير من العدالة الانتقالية هو تفكيك الخطاب الذي سوغ القمع لعقود. وأي اعتذار فردي أو جماعي يجب أن يكون مدخلًا لإعادة بناء الوعي المجتمعي حول حقوق الإنسان والمواطنة.

حتى يكون الاعتذار ذا قيمة حقيقية، يجب أن يكون واضحًا وصريحًا، أي أن يتضمن اعترافًا كاملًا بالجرائم دون تبريرات أو محاولات لتخفيف المسؤولية، وكذلك أن يكون مصحوبًا بإجراءات ملموسة مثل التعاون مع لجان الحقيقة، أو تقديم شهادات موثقة، أو المساعدة في كشف مصير المختفين قسرًا وتقديم المتورطين للعدالة.

بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يكون الاعتذار جزءًا من عملية مجتمعية شاملة، فلا يكفي أن يعتذر بعض الأفراد، بل يجب أن يكون الاعتذار جزءًا من سردية وطنية تعترف بالمظلومية، وتعيد الاعتبار للضحايا.

الضحايا والناجون لا يبحثون فقط عن كلمات، بل عن ضمانات بعدم تكرار الانتهاكات. والاعتذار خطوة، لكنه لا يلغي الألم، ولا يعيد من فقدوا حياتهم، ولا يكشف مصير المختفين، ولا يصلح الضرر الذي لحق بمئات الآلاف من العائلات.

لهذا، لا يمكن للحديث عن “المصالحة وما تتضمنه من اعتذار” أن يسبق تحقيق العدالة. إذا طلب من الضحايا تجاوز معاناتهم دون حصولهم على حقوقهم، فإن ذلك لن يكون مصالحة حقيقية بل قفزًا على جراحهم لمصلحة الاستقرار السياسي فقط.

في النهاية، الاعتذار الحقيقي هو الذي يمهد للعدالة، وليس الذي يستخدم كبديل عنها. في سوريا، حيث كانت الانتهاكات واسعة النطاق وشملت كل مستويات المجتمع، فإن أي محاولة لطي الصفحة دون محاسبة حقيقية، وإصلاح جذري، وضمانات بعدم التكرار، ستكون تكرارًا لدورات العنف السابقة، وليست خطوة نحو مستقبل أكثر عدالة.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة