مجادلات دستورية

tag icon ع ع ع

غزوان قرنفل

لا أنكر أنه كان لدي نصف أمل في أن يكون الإعلان الدستوري مساحة حقيقية للتعبير عن التوافق الوطني المأمول، لنتمكن جميعًا كسوريين من لم شمل وطن مبعثر ومواطنين منقسمين، كل فريق منهم يغلبه شعور بالتفوق والغلبة على أقرانه، بما يدفعه لتجاهل مسألة غاية في الأهمية، وهي أن هذه المساحة الجغرافية التي اسمها سوريا لا تخص فئة بعينها، بل هي لكل السوريين على قدم المساواة، ولا يحق لأي طرف الاستئثار أو حتى محاولة الاستئثار بها، فإما أن نعيش معًا داخل نطاقها بوئام وسلام، وإما أن نحترب وندخل النفق المظلم الذي عندما يخرج الناجون منه لن يجدوا لأنفسهم وطنًا اسمه سوريا.

والحقيقة أن نصف الأمل هذا قد تبدد لدي حقًا، ذلك أني من المؤمنين أن الدساتير، الدائمة منها والمؤقتة، هي كالمرآة، يجب أن يشاهد كل مواطن نفسه وحقوقه فيها، وهذا مع الأسف لم يحصل في الإعلان الدستوري الصادر في 13 من آذار الحالي، وكان من الممكن حتى لو كان مجرد إعلان دستوري لمرحلة مؤقتة وانتقالية أن يتضمن ذلك ويؤسس لما بعده.

وعلى الرغم من تأخر نشر وتداول النص النهائي لهذا الإعلان، فإن ما تسرب منه، وما أدلي بشأنه من تصريحات صحفية عن بعض أعضاء اللجنة وتقديمهم لتفسيرات بعض من مواده، أثار حفيظة الكثير من الحقوقيين ورجال القانون والمهتمين من المشتغلين بالشأن العام ممن خبروا آليات تصنيع الطغاة والنظم السلطوية، وأنا منهم، وأزعم أن تخصصي العلمي وخبرتي العملية التي تتجاوز ثلث قرن يؤهلانني لتكوين رأي بشأن مضامين هذا الإعلان والأثر الاجتماعي والسياسي والوطني الذي سيترتب عنه، وبحكم ذلك ورغم وجود نصوص إيجابية وضرورية فيه، فإن ذلك لا يجعله إعلانًا دستوريًا يؤسس لشراكة وطنية، أو حتى يخلق مساحة لتلاقٍ وطني في ظل ظروف غاية في التعقيد يمر بها بلدنا، بل أراه حقيقة مجرد دسترة للتفرد والاستئثار، ولمقولة “من يحرر يقرر”، وبالتالي هو يرسل رسائل سلبية تجاه بقية السوريين ويحطم المرآة التي يتعين أن يرى كل السوريين أنفسهم فيها.

وإذا ما حاولنا الدخول في صلب الموضوع أكثر فيمكن القول إن هذا الإعلان الدستوري مشوب بالتركز الكبير للسلطة بيد رئيس الدولة، ودون وجود آليات لمحاسبته عن أعماله أو مساءلته فيما إذا غالى في ممارسته لتلك السلطة أو أساء استخدامها، ومن المهم أن ندرك أن “السلطة المطلقة مفسدة مطلقة” حقًا، خصوصًا إذا ما اقترن امتلاك السلطة مع غياب آليات وأدوات للمراقبة والمحاسبة، فالحاكم أو الرئيس ليس ظل إله تم تفويضه بتلك السلطات من الله، لأن الشعب هو مصدر السلطات، وهو الذي يمنح ويمنع ويفوض ويحجب، وما يدعو للغرابة أن هذا الكلام تحديدًا (الشعب هو مصدر السلطات) لا وجود لنص له في الإعلان الدستوري.

الرئيس هنا يملك السلطة التنفيذية بكل أدواتها وتبدياتها ومفاصلها، دون أن يكون مسؤولًا عن أعمالها حتى أمام برلمان هو يعيّنه، برلمان لا يملك حق استدعاء وزير لمساءلته، بل لسؤاله فحسب!

والرئيس الذي يعيّن أعضاء مجلس الشعب مباشرة أو مناورة، حجب عن هذا المجلس حق التصويت على قبول أو رفض التشكيلة الحكومية أو بعض أعضائها، كما حجب عن المجلس الحق في الاشتراك مع مجلس القضاء الأعلى في اختيار وتسمية أعضاء المحكمة الدستورية واستأثر بها لنفسه، علمًا أن هاتين المسألتين موجودتان في النظام الرئاسي أيضًا، فالنظام الرئاسي وفصل السلطات لا يكونان بالشكل الذي قدم شروحاته ومبرراته بعض أعضاء لجنة الإعلان الدستوري لوسائل الإعلام، وكأنه فصل صارم في الدور والصلاحيات يحجب عن كل سلطة حق الرقابة والمساءلة عن السلطة الأخرى بينما تستأثر السلطة التنفيذية وحدها بكامل السلطات والصلاحيات، وكأننا نصنع فرعون لا رئيس دولة.

وفي سياق نصوص أخرى لا بد أيضًا من القول إن نص الفقرة 1 من المادة 3 التي تنص على أن “دين رئيس الجمهورية الإسلام، والفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع” تثير إشكالية مزدوجة، أولًا لجهة أن دين الرئيس هو الإسلام، وهو ما يناقض مبدأ “المساواة في المواطنة والحقوق والواجبات من دون تمييز بينهم في العرق أو الدين أو الجنس أو النسب”، المنصوص عليه في المادة 10 من نفس الإعلان الدستوري، وكذلك يهدر مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين في تولي الوظائف العامة (ورئاسة الجمهورية واحدة من الوظائف العامة).

وأما الإشكالية الثانية في هذه الفقرة أيضًا فتتمثل في اتخاذ الفقه الإسلامي مصدرًا رئيسًا للتشريع، وهذا المسمى فقهًا ليس أكثر من رأي أو اجتهاد بشر، وفي كثير من أحكامه يتعارض ويتناقض بعضه مع بعض، حتى إن هذا التناقض بلغ في بعض الحالات حد العداء والاقتتال بين أنصاره، وهو في جميع الأحوال رأي لبشر عاشوا قبل ألف سنة كتبوا وقرأوا الأحداث والنصوص وفق أدواتهم المعرفية في زمانهم، فيما نحن اليوم، في الألفية الثالثة، نلجأ إليهم ليشرّعوا لنا قوانين وضوابط لحياتنا المعاصرة، وكأننا مجتمعات مؤممة العقل والرشد! وبالتالي لا أعتقد أن هذا الفقه يصلح مرجعًا تشريعيًا، وكان يمكن الاستعاضة عن ذلك بأن تكون القيم العامة لدين الله هي مصدر إلهام تشريعي، وتكون الإرادة الحرة للناس مصدرًا رئيسًا للتشريع بما لا يحل حرامًا ولا يحرّم حلالًا.

وكذلك فإن الإصرار على التمسك بالعروبة اللفظية لاسم الدولة لا موجب له، خصوصًا أن اسم الدولة في دستور عام 1950 كان “الجمهورية السورية”، وهو الدستور الذي برر أعضاء اللجنة اتخاذهم نص المادة المتعلقة بدين الرئيس منه، كحل وسط بين دين الدولة وعدم ذكر ذلك، فلماذا استلهموا نص دين رئيس الدولة من دستور 1950 ولم يستلهموا نص اسم الدولة “الجمهورية السورية” من نفس الدستور!

بطبيعة الحال، هناك الكثير من النصوص التي نراها معيبة، ولكن مساحة الكتابة المتاحة لا تفسح المجال لتفنيد كل شيء، وهناك بالمقابل نصوص جيدة ومهمة ونشكر أعضاء اللجنة على وجودها، لكن في جميع الأحوال أختم بالقول إنه في حال تعذر التعديل على الإعلان، ولا أعتقد أنه متعذر، فإننا نأمل تجاوز كل ذلك عند الشروع بكتابة الدستور الدائم للبلاد، وأن نحرص حينها ألا نكتب دستورًا على مقاس نعل الحاكم، أي حاكم، وإنما على مقاس السوريين بكل تلاوينهم وانتماءاتهم دون جنف أو حيف وعلى قاعدة المساواة التامة في المواطنة والحقوق.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة