تفضي معظم الأخبار المتدفقة بتسارع من مدينة الحسكة إلى أن الهدنة التي أعلنها النظام السوري بين مقاتليه ومقاتلي الأكراد قد فشلت عمليًا، إذ تتجه الفصائل الكردية إلى حشر قوات الأسد والميليشيات الرديفة في المربع الأمني، وربما تطردهم في المرحلة المقبلة.
وفيما لو بسط الأكراد سيطرتهم الكاملة على المدينة، وطردوا النظام منها، فإن الحسكة ستكون ثالث المدن الكبرى التي تخرج عن سيطرة حكومة دمشق، بعد الرقة وإدلب. لكن المفارقة هنا تكمن في أن كل مدينة من تلك تخضع لسيطرة جهة مختلفة.
ما هي فرص خروج النظام من الحسكة؟
دخلت الاشتباكات بين قوات الأسد والفصائل الكردية يومها السابع، رغم محاولات التهدئة والاجتماعات المغلقة في مطار القامشلي، والذي تحول في الـ 72 ساعة الماضية إلى مقر مفاوضات بين الطرفين برعاية روسية، إلا أن كل ذلك لم يجدِ نفعًا.
فبعد أن أعلنت وكالة الأنباء الرسمية (سانا) عن وقف إطلاق نار يبدأ مع الساعة الخامسة من عصر أمس، اندلعت الاشتباكات مجددًا في المساء، واستمر الأكراد في تقدمهم، بل نفوا وجود قرار تهدئة بالأصل، ليبسطوا سيطرتهم الكاملة على حي غويران صباح اليوم، في مشهد يبدو أنه لا يسير في صالح الأسد، رغم بياناته التي حاول من خلالها الظهور منتصرًا.
غويران والنشوة الشرقية والزهور، ومعظم مؤسسات الدولة الخدمية والتعليمية في المحور الجنوبي للحسكة باتت تحت سيطرة وحدات “حماية الشعب” الكردية وقوات “أسايش”، وهما الذراعان العسكريتان لحزب “الاتحاد الديمقراطي”، والذي زعم النظام السوري أخيرًا بانتمائه لحزب “العمال الكردستاني” المحظور في تركيا.
بينما تقع الأحياء الشمالية والغربية والشرقية في المدينة تحت سيطرة الوحدات الكردية بالأصل، ومنها العزيزية، الصالحية، المفتي، وحي الناصرة، ليبقى النظام محصورًا في مربعه الأمني حيث مبنى المحافظة وبضع مؤسسات أمنية ومدنية أخرى في الوسط.
ولدى أكراد “الإدارة الذاتية” فرصة مواتية اليوم ليعلنوا الحسكة مدينة تابعة لهم كليًا، وتكون عاصمة الإقليم الفيدرالي المزمع (روج آفا)، إذ إن مواقع الأسد آخذة بالانحسار ولم يتبقَ له سوى مساحات ضيقة في المدينة، وقطعات عسكرية في جبل كوكب المطل على المدينة من الشرق، إلى جانب وجود مقبول حتى اليوم في مدينة القامشلي شمالًا. ما عدا ذلك فإن جميع مناطق الجزيرة السورية تخضع لنفوذ “الاتحاد الديمقراطي” الكردي وأذرعته العسكرية.
حاول النظام السوري تقليص المدّ الكردي بغارات جوية هي الأولى من نوعها منذ مطلع الاحتجاجات ضده، طالت أحياء ومراكز كردية في الحسكة، لكن حلفاء الأكراد كان لهم كلمتهم، وحيّدوا طائرات النظام بعد يومين على توالي الغارات، فحذرت واشنطن من تكرار ما حصل على لسان متحدثي وزارة الدفاع (البنتاغون)، كذلك خاطب التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية” روسيا، مطالبًا إياها بكفّ سلاح الأسد الجوي عن سماء الحسكة.
إن حرمان قوات الأسد من السلاح الأكثر نجاعة وتدميرًا طيلة مسيرة خمس سنوات من الحروب، وهو الطائرات الحربية والمروحية، سيؤدي حتمًا إلى تقهقر جنوده برًا.
وهو ما حدث على سبيل المثال حينما حاول النظام اقتحام الرقة من بوابتها الجنوبية، وفشل دون غطاء جوي روسي، الأمر الذي تكرّر في ريف حلب الجنوبي، إذ انقلبت المعركة هناك ضد المعارضة إلى “مجزرة” في صفوف قواته والميليشيات الرديفة.
مدن سورية كبرى تخضع لأطراف متنازعة
وكان النظام السوري خسر مدينة الرقة منتصف العام 2013، وخضعت لسيطرة فصائل إسلامية آنذاك (حركة أحرار الشام، جبهة النصرة)، إلى جانب وجود ضيق لتنظيم “الدولة الإسلامية”، الذي توسع تدريجيًا ليبتلع المدينة كلها، وتصبح منذ مطلع العام 2014 عاصمته في سوريا.
وفي آذار من العام 2015، أعلن تحالف “جيش الفتح” سيطرته على مدينة إدلب بالكامل وطرد قوات الأسد منها ومن الريف الغربي أيضًا، لتصبح المحافظة خارج نطاق سيطرة الأسد منذ ذلك الوقت، والمركز الرئيسي للمعارضة السورية (متعددة الأطراف والاتجاهات).
ولو جاز لنا استباق الأحداث، فإن الحسكة ستكون عاصمة “الإدارة الذاتية” بزعامة صالح مسلم، وهو ما يعزز نفوذها الكبير شمال شرق سوريا، ويقلص من سلطة الحكومة المركزية في دمشق، بعد خسارتها للمدينة الثالثة، ويهيء فعليًا لتكوين إقليم كردي متماسك ذو مساحة واسعة ودعم دولي معلن.
إن الأطراف المهيمنة على المدن الرئيسية الثلاثة الخارجة عن سيطرة النظام، يكمن فيما بينها عداء معلن وخلاف فكري وجوهري على بواطن الأمور وظواهرها. فالمعارضة لا زالت تردد ما تسميها بـ “الثوابت الأساسية”، وتتلخص في إسقاط الأسد وبناء دولة واحدة يحدد السوريون أنفسهم نظام الحكم فيها، بينما يرى أكراد “الإدارة الذاتية” أن سوريا ستكون “ديمقراطية” و”فيدرالية” دون هيمنة الحكومة المركزية، في حين ينسف مشروع “الدولة الإسلامية” كل ما سبق، إذ يرى “الشام” جزءًا من دولة “الخلافة”.