محمد إبراهيم – درعا
يعلن حرس الحدود الأردني بشكل شهري تقريبًا عن عمليات ضبط لتهريب المخدرات من الجنوب السوري باتجاه الأراضي الأردنية، وتثير الأرقام “الكبيرة” التي تعلنها السلطات الأردنية للمضبوطات حالة من الاستغراب والتساؤل عن الحجم الضخم لتجارة وتصنيع المخدرات داخل الحدود. فهل تنتشر المخدرات في الجنوب السوري بهذه الضخامة فعلًا ؟
يثير الحديث عن ظاهرة انتشار المخدرات في الجنوب السوري عمومًا، ودرعا خصوصًا، الحساسية أحيانًا والغضب أحيانًا أخرى، فيبدو أن تورط جهات عديدة في هذا الملف جعل الأطراف الراغبة بالصمت عنه أكثر من تلك الراغبة بالخوض فيه، حتى وصلنا إلى تلك المرحلة التي تحولت فيها المخدرات في الجنوب إلى شيء أكبر من مجرد تجارة وعمل بالسر، بل ربما هي اليوم أقرب لأن تكون بؤرة تجميع وتصدير إلى الدول المحيطة.
الفوضى تنعش المخدرات
غياب الهيئات الحكومية وانتشار فوضى السلاح لم تنعكس سلبًا على الحياة الاجتماعية والمعيشية فقط، بل ساهمت كذلك بانتعاش واضح في قطاع “تجارة المخدرات”، في ظل تجاهل الهيئات الجديدة في المناطق المحررة لهذا القطاع، سواء عن قصد أو غير قصد.
الشيخ بلال المصري، إمام وخطيب مسجد في ريف درعا الشرقي، أوضح في حديثه مع عنب بلدي أن “التحرير السريع” للمناطق من قبضة قوات النظام، مع غياب البديل القادر على فرض القوانين وحفظ الأمن، كان العامل الأبرز في فوضى انتشار المخدرات “ولا ننسى أن النظام عمل جاهدًا من أجل إغراق المناطق المحررة بالفوضى والدمار لإثبات أنه كان ضامن الأمان فيها”.
وليست المخدرات وحدها التي انتعشت في هذه الأجواء، فالفوضى تعتبر الجاذب الأقوى لجميع مظاهر الفساد في المجتمع، حسبما أوضح الشيخ المصري، “تجارة المخدرات، السرقة، الخطف، تجارة الأسلحة، وغيرها من المظاهر الفاسدة التي ظهرت في المناطق المحررة بفعل هذه الفوضى”، رافضًا إلقاء اللوم فقط على الفعاليات الثورية في المناطق “المحررة”، وموضحًا أن “حجم التحديات التي واكبت تحرير المناطق أكبر من القدرة على معالجتها خلال فترة قصيرة”.
رقابة أسرية وندوات توعوية
مع غياب السلطة الحكومية في مكافحة تجارة وتعاطي المخدرات، كان لا بد من بديل يقوم بما عجزت عنه هذه الهيئات، فكانت الرقابة الأسرية هي الأهم. عنب بلدي في بحثها بملف المخدرات في درعا وصلت إلى السيد “أبو إياد”، وهو من أهالي مدينة جاسم في ريف درعا، وكان له دور في إقلاع ابنه عن تعاطي المخدرات، بعد أن تم استدراجه لها.
وأوضح أبو إياد أن أواخر العام 2013 وبدايات العام 2014 شهدت انتشارًا واسعًا لظاهرة تعاطي المخدرات، بالتزامن مع توسع المعارك ضد قوات الأسد، “استغل تجار المخدرات الفوضى السكانية، وفوضى النزوح واللجوء بسبب المعارك، لإنعاش تجارة المخدرات وزيادة ترويجها”.
واعتبر أبو إياد أن نشاط تجّار المخدرات في تلك الفترة وصل لأن يصبح علنيًا ومكشوفًا، “مخطئ من يظن أن الحصول على المخدرات في درعا كان أمرًا بتلك الصعوبة”، فالصورة النمطية المعروفة عن العلاقة بين مروجي ومتعاطي المخدرات لم تعد صحيحة بحسب “أبو إياد”، الذي أضاف “بإمكانك بطرح بضع الأسئلة والاستفسارات الوصول إلى مروج للمخدرات، أو متعاطٍ لها على أقل تقدير”.
وروى أبو إياد ما حصل مع ابنه، بعدما بدأ يتردد إلى أصدقاء جدد، “مع ملاحظتي لبعض التصرفات الغريبة عليه، وسماعي لقصص عن انتشار تجّار المخدرات في منطقتنا، أصبح لدي شك كبير بتعاطي ولدي للمخدرات”، مؤكدًا أنه وبعد أن تأكد من شكوكه، كان حزمه على “إنقاذ” ولده هو العامل الأبرز في توقفه عن التعاطي، “التعامل مع الحادثة بحزم شديد كان الحل، وهذه هي المشكلة مع الأهل الذين يكتشفون تعاطي أبنائهم ولا يتعاملون معهم بحزم، فهم يسهمون بقتلهم”.
ونظرًا لأهمية نشر هذه الثقافة التي أشار إليها أبو إياد، برزت عدة نشاطات قامت بها هيئات أهلية محلية، كعقد ندوات توعوية لخطر تعاطي المخدرات، أسهمت في نشر الوعي الشعبي بين فئات الشباب خصوصًا، وكانت ندوة “لا تقتل نفسك”، التي عقدها المجلس المحلي في بلدة تسيل، واحدة منها.
دار العدل تعد بأقصى العقوبات
ومع تشكيل محكمة “دار العدل” في درعا، وتعيينها كجهة قضائية وتنفيذية وحيدة في المحافظة، اتجهت الأنظار نحو المحكمة للقيام بدورها في مكافحة المخدرات.
الشيخ عصمت العبسي، رئيس المحكمة، أوضح في ندوة إعلامية سلطت الضوء على عمل المحكمة، أن “دار العدل” سنّت قانونًا لمكافحة المخدرات، يقضي بأقصى العقوبات على مروجيها، مضيفًا أن تجارة المخدرات تعتبر “إفسادًا في الأرض”، وأن المحكمة لن تتردد في إيقاع عقوبة “القتل تعزيرًا” بمرتكبيها.
وأكد العبسي أن الدور الذي قامت به “دار العدل” في الوقوف بوجه تجارة المخدرات ساهم بالحد منها بشكل كبير، معتبرًا أن “ملاحقة المحكمة لتجار المخدرات وإلقائها القبض على أعداد منهم أسهم في تخفيف نشاط الكثير من المروجين”.
بؤر المخدرات محصنة
ورغم تهديدات “دار العدل” وقوانينها الصارمة، إلا أن تجارة المخدرات مازالت تلقى رواجًا في كثير من المناطق، ولعل السبب الأبرز في ذلك وجود بؤر تنشط فيها هذه التجارة بشكل كبير.
الشيخ بلال المصري أوضح أن القوة التي يحظى بها كبار تجار المخدرات في مناطق محددة ساهمت في تأخير القدرة على المكافحة، “تعتبر صحراء السويداء التي تنتشر العشائرية فيها بشكل كبير، بالإضافة لبعض مناطق اللجاة بؤرًا كبيرة لترويج وتوزيع المخدرات، وتحظى تلك المناطق بانتشار كبير للسلاح”.
ويلعب تداخل خطوط الاشتباكات في تلك المنطقة وتوزعها بين “الجيش الحر” وقوات الأسد وتنظيم “الدولة الإسلامية”، دورًا مساعدًا في تنمية هذه البؤر. يضيف الشيخ المصري “هناك أطراف مسؤولة في النظام متورطة في هذه التجارة وتساهم في تنميتها، وكذلك أطراف محسوبة على الفصائل المسلحة”، وهذه الأطراف، بحسب المصري، تمنع الحسم تجاه تجار المخدرات عبر دعمهم الكبير بالسلاح وتوفير الحماية لهم، أو عبر تأخير ومنع أي أطراف راغبة بالحسم ضدهم من اتخاذ أي خطوات جادة.
وفي ظل انشغال الجهات القائمة على المناطق “المحررة” بمحاولات إعادة بناء الدولة، وسط استمرار المعارك التي تخوضها الفصائل المسلحة، والفوضى التي كرستها التدخلات الخارجية، لا يبدو أن تجارة المخدرات ستشهد مكافحة حقيقية في القريب العاجل، ويبدو تحت هذه الظروف أن التعويل على الرقابة الأسرية هو الحل الأمثل حاليًا، ريثما يدرك أصحاب القرار أن مكافحة المخدرات ليست بأقل أهمية من مواجهة البراميل المتفجرة.