حذام زهور عدي
لاحق الفشل ملالي إيران كما لاح أمام عيني بوتين، ولم يستطع الاثنان رغم المعارك الضارية على الأرض، والقصف الهمجي الروسي من السماء، أن يحسما الأمر عسكريًا لصالح النظام الأسدي.
المرشد الإيراني توعد على لسان سفيهه اللبناني حسم الأمور خلال أشهر، وأعطاها ساخرًا مدة سنة، والرئيس الروسي وعد شعبه ألا يطول وجوده في سوريا أكثر من أشهر أربعة، لكنّ حساب البيدر لم يتطابق مع حساب الحقل، وخاب فأل الاثنين بالانتصار المرتقب.
أما الملالي فقد كان ردّ فعلهم العناد، بدل الانسحاب التدريجي والسعي للتوصل إلى تسوية توفر عليهم الاستنزاف المادي والبشري، وتترك في قلوب السوريين -كما يُقال- “مطرحًا” للمصالحة والمسامحة، لكنّ عنادهم دفعهم إلى زيادة الضخ البشري للمقاتلين، سواء أكانوا من النجباء العراقيين، أو حزب الله اللبناني، أو نخبة الحرس الثوري، أو بعض ألوية الجيش الإيراني النظامي، ثم استنجدوا بالروس وسهلوا احتلالهم لسوريا وظنوا أنهم سيحققون بهم الانتصار، لكنهم لم يفهموا أن إرادة الشعوب من إرادة الله وأنها لا تُقهر مهما اشتدت المصائب.
وهاهم اليوم يرون الهزائم التي تلاحقهم الواحدة تلو الأخرى، فيهرعون إلى الروس مرة ثانية يستنجدون بهم ويقدمون لهم التنازلات المتتالية، وآخرها، وليس الأخير، السماح لهم باستخدام قاعدة همدان الجوية الحربية.
ولأن بوتين ليس أقل عنادًا من الملالي، وكونه ضاق ذرعًا بالثوار السوريين وتحديهم لإرادته، فقد أراد أن يُنسق مع الإيرانيين ويُبرز عضلاته مسلطًا أحدث قاذفاته المقاتلة على هؤلاء “المتمردين الإرهابيين”، مستخدمًا سياسة الأرض المحروقة، علّها تشفي ثأره مما أصابه في حلب، فاقترح على الملالي توظيف قاعدة همدان لإقلاع طائراته النووية التي لا تتسع قاعدة حميميم لضخامتها ووزنها.
وهكذا خرق الملالي الدستور الإيراني الذي يحرم استغلال الأراضي الإيرانية لصالح أي جهة أجنبية، وبخاصة تأجير القواعد أو السماح باستخدامها، بموافقته على دخول الروس إلى همدان.
همدان لمن لا يعرفها مدينة تقع في الشمال الغربي من إيران، وتبعد حوالي 363 كيلومترًا عن طهران، لا يتجاوز عدد سكانها 700 ألف من أصول كردية، وهم الأغلبية، وآذرية وتركية وأقلية فارسية.
وتعتبر قاعدتها العسكرية من أهم القواعد الإيرانية لموقعها الجغرافي- السياسي، ولم يسمح الإيرانيون لأحد باستخدامها حتى أيام الشاه، وعندما كان الحلفاء ينقلون المساعدات إلى روسيا أثناء الحرب العالمية من خلال إيران، كان الإيرانيون يتولون النقل.
أما بوتين فالمسألة عنده ليست الثأر السوري أو مساعدة حلفائه الملالي فقط، إنما يحاول من خلال تلك القاعدة أن يحقق امتدادًا لنفوذه، يقطع طريق الأحلام الغربية في استثمار الموارد الإيرانية الآتية من الاتفاق النووي، كما يقطع الطريق على أي محاولة إيرانية لإغراق سوق النفط بالإنتاج المهرب، ويحول دون مد أنابيب الغاز الإيراني عبر سوريا إلى البحر المتوسط، ويجعل القاعدة الهمدانية مقابل قاعدة إنجرليك الأمريكية- التركية، والقاعدة الأمريكية الحديثة في منطقة الرميلان الواقعة في أقصى الشمال الشرقي من سوريا.
ثم إن سماء سوريا المفيدة، هي أفضل ميدان لتدريب تلك القاذفات على اللحم الحي لأطفال سوريا وشعبها الأعزل البريء.
بالطبع، السلك الدبلوماسي العالمي كله يعرف القدرة الإيرانية على إجراء الاتفاقات والمهارة في المفاوضات، وهم بالتأكيد ليسوا بغباء الأسد الذي أعطى بوتين شيكًا مفتوحًا على بياض ليكتب فيه ما تريده مصالحه.
لكن ثعلب الكرملين أيضًا ليس بهذه البساطة التي تجعله يضع ثماني من أحدث قاذفاته في قاعدة همدان، فقط للقضاء على الثورة السورية وتحقيق ما يريده الملالي من بقاء الأسد. ومع أنه من الصعب معرفة بنود الاتفاق الروسي- الإيراني ذاك، إلا أن المعرفة بطريقة تفكير بوتين الذي يتسلل متخفيًا إلى حيث يريد، والذي استثمر رأس الأسد حتى الثمالة ومايزال يفاجىء العالم كل يوم بالجديد، والذي رآه المجتمع الدولي في أوكرانيا والقرم وتركيا، ودخل سوريا من خلال قاعدة بسيطة في طرطوس ثم ابتلع الساحل والجبل والسهل السوري.
وخلافًا لما وعد شعبه والعالم به فقد مدد بوتين الأشهر الموعودة إلى أن انتهت السنة الأولى، وها هي أشهر السنة الثانية تمر ثم يبلغ مندوبوه في لقاءاتهم مع معارضين سوريين ينتقونهم أن عليهم الإبقاء على الوجود الروسي والمصالح الروسية كما اتفق عليها مع الأسد، إن أرادوا حلًا للمقتلة السورية، بالطبع مع شروط أخرى تلغي الثورة وتُحوّل تضحيات أبنائها إلى هباء منثور، هذا عدا عن المراوغة بالكلام والتناقض في التصريحات.
لقد أدخل الإيرانيون الدب الروسي إلى الكرم الشامي فعاث فيه فسادًا وانقلب في حالات متعددة عليهم، وعامل رئيس النظام، الذي يدافعون عنه، والذي أعطاه صك ملكية سوريا، بإهانة واحتقار يستحقه، وشهّر به كذيل الكلب حين اختلف معه، فهل يظنّ ملالي إيران أنهم الثعالب الذين لن يغلبهم ثعلب الكرملين، وأنهم لن يفرطوا بسيادة الدولة الإيرانية من أجل الدفاع عن الأسد؟ وهل يضمنون زحزحة أقدام الدب الروسي في كرمهم الذي أدخلوه إليه؟ وهل يستحق رئيسٌ فاشلٌ قَتل شعبه تلك التضحية من ملالي إيران؟ ننتظر ونرى.ل