حنين النقري – عنب بلدي
“الجيش الحر.. الله يحميك“، ترددت هذه الصيحة في مختلف المدن السورية، أواخر العام الثوريّ الأول، احتفاءً بمن يرافقون المظاهرات لحمايتها. شبّاب ملثّمون بثياب مدنية، معظمهم من حملة الكتب لا السلاح، لكنهم قرروا أن يحموا المتظاهرين من هجمات الأمن، حرصًا على عدم اعتقال أحد، وبشكل خاص النساء، فكان اتخاذهم لهذا القرار رهنًا لحياتهم ومصيرهم ومتابعة تعليمهم بسقوط الأسد، ومازال رهنًا لذلك حتى اللحظة.
لكن يبدو أن سلسلة التضحيات لن تتوقف عند حد متابعة التعليم أو فراق الأهل، بل تتعداها إلى عقبات مثل الزواج وإنشاء أسرة، فمن يزوّج شباب الجيش الحر؟
تخرّج سراج من جامعة البعث كمهندس ميكانيك، وتابع دراساته العليا حالمًا بالدكتوراة، لكن مخططه قُطع قبل أن ينال شهادة الماجستير مع بدء الثورة، وهنا ترك كل شيء، وتفرّغ للعمل الثوريّ، “صرت أعود للمنزل في وقت متأخر مستهلكًا نهاري كلّه في النشاط ضد النظام، عملت بتغطية المظاهرات إعلاميًا في البداية، وعندما بدأ الشباب يشكّلون مجموعات حماية للمظاهرات عملت معهم”، يقول سراج.
استمرّ نشاط سراج الثوري في مدينة حمص ثلاث سنوات، “كنتُ حذرًا للغاية، وساعدني ذلك على حماية نفسي، لكنني كُشفتُ بعدها وانتقلت إلى إدلب إثر مداهمة منزل أهلي بحثًا عني”.
من تأجيل الزواج لما بعد التخرج الجامعي، وما بعد نيل الدراسات العليا، أجله سراج مجددًا حتى سقوط النظام، لكنه يستأنف “عمر الثورة طال، وكذلك عمري، وأهلي مازالوا في حمص وأنا أعيش وحيدًا هنا، لذلك طلبتُ من والدتي البحث عن زوجة مناسبة لي في محيطها”.
“لا أزوّج ابنتي لثائر مطلوب“
سعيدة بإعلان رغبته بالارتباط بدأت والدة سراج بالبحث عن شابّة وفق المواصفات التي أملاها عليها، “كان الشرط الأول عندي أن تكون متعلّمة وجامعية، بالإضافة لأخلاقها وسلوكها، لكنني فوجئت بالردود القاسية على طلبات أمي، فلا أحد يرغب بتزويج ابنته لثائر مطلوب للنظام، وجميع من زارتهنّ والدتي يرفضن سكن بناتهنّ في المناطق المحررة”.
يتحسّر سراج على إجابات الرفض من جميع البيوت التي قصدتها والدته، ويقول “عام ونصف وأمي تبحث، تخلّيت عن جميع المواصفات التي رغبت بها، وتجاوزت مسائل العمر والعائلة والدراسة الجامعية، بل وحتى الجمال، لكن ذلك كله لم يجعل الخيار أسهل، وكأنني أنا الذي اخترت لنفسي هذا المصير، وكأن الموت حكر على الثوار فقط”.
“الخاطبة” في خطر
سراج ليس الوحيد في جبهة بحثه عن عروس، إذ يشاطره محمود، مقاتل في الجيش الحر في المناطق الشمالية المحررة، نفس المشكلة، إذ طلب من والدته في حماة أن تخطب له فتاة تناسبه، يقول محمود “كنتُ أخاف على أمي وأطمئنّ عليها يوميًا، فعملية البحث عن عروس في حد ذاتها صعبة وخطيرة عليها، إذ لا يمكنها دخول أي بيت والتصريح بنشاطي ضد النظام، وهو ما يتطلب منها البحث بشكل كبير عن عائلات موثوقة ومعارضة للأسد”.
بقيت والدة محمود تخطب له أزيد من عامين، لكنه يبرر عدم إيجاد عروس مناسبة له بعدم قدرتها على توسيع دائرة بحثها، “أمي محصورة بمعارفنا وأقربائنا وأهالي أصدقائي، الخطبة ليست كما السابق، على الأقل بالنسبة لي، ولا مجال للخطبة بين عائلات لا تعرف بعضها، المساحة التي يمكن أن تتحرك فيها والدتي صغيرة جدًا، المحصّلة من عام ونصف من الخطبة أنه ما من شابة وافقت على الارتباط بي في ظل عملي الحالي”.
عروس في الخامسة عشرة
بعد بحث طويل وردود كثيرة بالرفض، قرر محمود خطبة فتاة حيث يقيم في إدلب، وهنا عاد الرفض من الجامعيات، “رغم أنني خريج كلية الهندسة إلا أن جامعية واحدة لم تقبل بالارتباط بي بسبب عملي، وكأنني جندي في جيش الأسد، وهكذا قررت أن أتخلى عن شرط التعليم وكان الخيار الوحيد المتاح هو الزواج من فتاة في الخامسة عشرة من ريف إدلب”.
بعد الزواج بدأت المتاعب بالظهور بين محمود وعروسه بسبب الفارق العمري والثقافي بينهما، حسب محمود، ويقول “لم أستطع التفاهم معها، ليس هناك لغة مشتركة بيننا، أنا خريج هندسة ولدي مستوى معين من الثقافة وهي فتاة بسيطة بالكاد تعرف القراءة”.
يعاني محمود من هوّة فكرية كبيرة بينه وبين عروسه، “تندلع المشكلات بيننا لأبسط سبب، لا ألومها على ذلك فهي صغيرة بالعمر، لم تنضج بعد، لكن لم يكن لدي خيار آخر، وخطبتها اضطرارًا لا اختيارًا”.
“وصلت المشاكل بيننا عدة مرات للطلاق”، يتأسّف محمود، ويتابع “ليس هذا ما كنتُ أرغب به، كنت أريد تكوين عائلة مع زوجة تفهمني وأفهمها”.
على الجانب الآخر: لماذا نرفض؟
تقدّم شاب من “الثوار” لخطبة غادة، وهي جامعية من حمص، ورغم كونها وأهلها من عائلة معارضة للأسد، ومشاركتها في المظاهرات، إلا أنهم رفضوا طلبه بالزواج، والسبب حسب والدة غادة “صار التنقل بين الشمال ومناطق النظام مكلفًا وصعبًا، ولم يعد بالسهولة التي كان عليها من قبل، لا أريد أن أُحرم من رؤية ابنتي وأن تفصل بيني وبينها حواجز وجيوش”.
بالإضافة إلى البعد الجغرافي وصعوبة التنقل، تشير والدة غادة إلى الصعوبات الأمنية، خاصة على الفتيات، “يجري معها تحقيق بشكل كامل، وإن لم يكن لدى العائلة واسطة سيكون التنقل أصعب، أضيفي إلى ذلك التكلفة، تصل المبالغ إلى 200 أو 300 ألف ليرة سورية على الشخص، فكيف يمكن تأمين هكذا مبلغ؟”.
بالنسبة لغادة، فأسباب رفضها تعود إلى عدم إمكانية التعرف على الخاطب، وتقول “خُطبت صديقتي منذ عامين لثائر، وخرجت عدة زيارات إلى الشمال أثناء فترة الخطبة ليتعارفا ومن ثم تزوّجا، أما الآن فلن أتمكن من رؤيته إلا عند الزفاف، كيف يمكن أن أتزوج شخصًا لا أعرفه؟”.
الأرواح جميعها “غالية“
تؤيّد ريم، وهي جامعية من حماة، كل ما ورد من صعوبات تواجه الثوار في الارتباط، وتضيف “لهذا السبب لم أرفض بشكل مباشر عندما طلبني عليّ، ودرستُ طلب الخطبة بناء على مميزات شخصيته بغض النظر عن المخاطر المحيطة به أو المكان الذي يقيم فيه حاليًا”.
طلب عليّ يد ريم عن طريق أخيها سعد، صديقه المقرّب، وهو ما كان له الدور الأكبر في موافقة العائلة، يقول سعد “أعرف أخلاق عليّ تمامًا، شاب متعلّم ومثقف، ملتزم دينيًا ومن عائلة محترمة، لم يخرج إلى المناطق المحررة إلا عندما طُلب للنظام، أخبرتُ أختي أنني عُرضة لأن أُطلب للنظام وأواجه مصير عليّ نفسه، فهل يجب أن ترفضني الفتيات لهذا السبب؟”.
بعد جولات من النقاش والدراسة، تمّت الموافقة وأخيرًا من عائلة ريم، بمساعدة سعد ومحاولاته للدفاع عن صديقه، تقول ريم “خرجتُ بصحبة أخي للتعرف على خطيبي في الشمال، وشعرت بالألفة معه على الفور، وهكذا وافقت واستمرّت الخطبة عامًا كاملًا زرته خلاله مرّتين”.
زُفّت ريم إلى عليّ في أواخر عام 2015، وتصف حياتهما اليوم بأنها سعيدة، وتضيف “ما يجري عليه يجري عليّ وعلى الجنين الذي في رحمي، لا يوجد روح أغلى من روح أخرى، والقدر سيصيبنا أينما توجهنا”.