بعيدًا عن أصوات المعارك التي تملأ الأجواء السورية، واقترابًا من المجتمع وحياة السكان سواء في مناطق سيطرة المعارضة أو النظام، أملًا باكتمال الصورة ووضوحها بشكل أكبر، ثمة حياة أخرى تواكب ضجيج الحرب، شخصيات أبعدتهم زحمة الأحداث وتدفق الأخبار عن وسائل الإعلام وجعلتهم يعملون في الكواليس، ولا يزال وجودهم حتى الآن يخلق آريحية في نفوس الكثيرين.
في الوقت الذي يسعى فيه السوريون للبحث عن ملاذ آمن بالسفر خارج البلد أو النزوح داخلها إلى أماكن آمنة، يجد عمال النظافة في الواقع شيئًا مغايرًا، إذ تختلف قراءتهم للمشهد، فهم يعتقدون أن البقاء في البلد هو الأصل، ودونه استثناء، وذلك رغم شظف العيش وصعوبات التنقل وخطر العمل، حت وقع القصف اليومي واحتدام القتال على الجبهات، التي غالبًا ما تكون الأحياء السكنية والتجمعات البشرية في الأرياف والمدن مسرحًا لها.
قبل العام 2011، كان عمال النظافة في سوريا في حالة “لا يحسدون عليها”، وبالتأكيد هم الآن كذلك، كما يقول رؤساء مجالس محلية وعمال نظافة لعنب بلدي.
لا الرواتب تكفي، ولا يحظون بالرعاية الصحية الكافية التي كانوا يستحقونها لقاء الأوبئة والأمراض التي يتعرضون لها بحكم طبيعة عملهم. وكانت النظرة العامة لهؤلاء العمال “دونية” بامتياز، ما جعل هذه الطبقة من المجتمع منزوية على نفسها، إلا في حالات نادرة عندما كان هؤلاء يعيشون في أماكن تتسم بالبساطة، والبساطة هنا يقصد بها “الفقر المدقع”.
“غير متعلم” و”أمي” و”ذو احتياجات خاصة”، وأحيانًا “مختل”، هي بعض سمات من كان يعمل في مجال لم القمامة والإشراف على النظافة في الحارات والأحياء، بعد أن يجري تعيينهم من قبل البلديات وفق مسابقات “شكلية”، غالبًا ما يقبل كل من يتقدم إليها.
إلا أن ذلك لا يعني عدم وجود أشخاص طبيعيين لم يجدوا إلا هذا المجال للعمل به، في وقت انعدمت به الفرص في مجالات أخرى. فلا شروط قد تمنعك من القبول لأنه لا شروط بالأساس، إذ يكفي أن تكون قريبًا من الحي الذي يجب أن تنظفه وأن “لا يكون محكومًا عليك” في جرم أو تحاكم بقضية ما.
الشريحة الأكبر من قوة العمل
رغم عدم وجود إحصائيات دقيقة لعدد العاملين في حقل النظافة في سوريا، للعام 2011 وما قبله أو خلال السنوات الخمس الماضية، إلا أن عدد العاملين في مجال الخدمات والتي تشمل بطبيعة الحال عمال البلديات وورش الصيانة وغيرها، تعد من أعلى نسب العمالة في سوريا، ويشكلون نحو 28% من حجم قوة العمل للعام 2011، يليهم العاملون في مجال الفنادق والمطاعم بنسبة 17.9%، ثم العاملون في حقل الصناعة بشقيها العام والخاص وبنسبة 16%.
مكرمات “القائد”
العمل في مجال النظافة “أمر عظيم” ولا يحط من شأن صاحبه، بل على العكس ينظر إليه في المجتمعات المتقدمة على أنه ركيزة أساسية في المجتمع لا يمكن الاستغناء عنها، إلا أن عاملين هذا المجال في سوريا بقيت أوضاعهم “صعبة” للغاية، فلا يتذكرهم “القائد” إلا خلال موائد إفطار رمضان، ولا يكرمون إلا في المناسبات الدينية، وكأن العطف والتكريم لا يهبط إلا في المناسبات الرحمانية، للفت الانتباه إلى هؤلاء الجنود المجهولين.
استمر من بقي منهم يكابد المعاناة حتى بعد اندلاع الثورة، لأسباب كثيرة، أبرزها عدم وجود المعدات وضعف الأجور وتراجع الطبابة والرعاية الصحية وتعرضهم للقتل في أحيان كثيرة.
أبو قاسم، عامل نظافة من درعا، لم يكن يعمل بهذه المهنة من قبل، لكنه بسبب الحرب وانعدام فرص العمل في الزراعة لجأ للعمل في مجال النظافة، ويشكو بشكل أساسي من ضعف راتبه، الذي لا يتناسب مع ارتفاع الأسعار، لكنه مقتنع إلى حد كبير في هذا العمل لأنه “عمل حلال” يمكنه من تأمين الطعام لأولاده وأسرته، التي تنتظره كل يوم مساءً بعد انتهاء دورة العمل التي تبلغ حوالي 8 ساعات يوميًا.
تغير نظرة المجتمع
بين الفترة الحالية ومرحلة ما قبل 2011 تغير واقع أبو قاسم كثيرًا، التشجيع المعنوي الذي يحظى به الآن من سكان الحي الذي ينظفه ويشرف عليه لم يكن يجده من قبل كما يقول، فقد كانت نظرة الناس إليه على أنه “عامل قمامة”، تجر معها كل ما يخطر على البال من سلبيات وإيجابيات.
لكن خلال المرحلة الحالية ينظر إليه على أنه “جهة غير منخرطة بالنزاعات العسكرية، وكذلك السرقات والمشكلات الاجتماعية، التي تمر بها المنطقة التي يعمل بها”.
ويضرب مثلًا بأنه لدى مرور سيارة عسكرية تتبع لأحد الفصائل العاملة على الأرض، يدفع هذا السكان للكلام عن المارين سواء بالسلب أو الإيجاب، لكن “عندما تمر سيارة قمامة تفتح لها الناس الطريق وتنظر لها باحترام كبير، لأن عملها واضح لا يختلف عليه اثنان”.
ويشكو أبو قاسم من انتشار الأمراض والأوبئة في منطقته بدرعا البلد، كما أن عدم التزام المواطنين برمي القمامة في موعدها يصعب عليه المهمة، مع زملائه الذين يؤكدون على المضي بهذا العمل، إذ لا يمكن لهم حمل السلاح.
منظمات تمول الأجور
في حين يشرح رمزي أبو نبوت، مدير الهيئة العامة للخدمات في المجلس المحلي لمحافظة درعا، عن دور الهيئة في تنظيم العمل وتحسينه، بالقول “تعمل الهيئة في مشاريع النظافة وترحيل الردم الذي ينتج من مخلفات القصف العشوائي في الأحياء السكنية، رغم الإمكانيات المحدودة أمام حجم العمل الكبير، وتملك الهيئة بعض الآليات المتنوعة بين الثقيلة والخفيفة، إذ يبلغ عدد الآليات التي تعمل في كافة المناطق 31 آلية، وعدد العمال والسائقين 124 عامل، و10 مشرفين في مختلف المناطق”.
تحاول الهيئة، التابعة للحكومة السورية المؤقتة، ومن أجل ضمان استمرارية عملها، التعاقد مع عمال بموجب عقود شهرية وبرواتب يتفق عليها الجانبان وتمولها منظمات مجتمع مدني، ويبلغ في الوقت الحاضر أجر العامل 200 دولار (100 ألف ليرة تقريبًا).
يؤكد أبو نبوت أن الهيئة “لا تتقلى أي أجور، وتقدم الخدمات بالمجان 100% حيث يمنع أي عامل من تلقي الإكراميات، ومن يقبل بذلك يفصل مباشرة”.
ورغم ذلك لا يخلو الأمر من معاناة يومية للهيئة وكوادرها مثل “عدم وجود دعم ثابت لمشاريع الهيئة، بالإضافة إلى أن الآليات قديمة وبحاجة للتجديد والصيانة، وهو أمر مكلف جدًا، وهناك قطع غيار غالية الثمن لعدم توفرها بالأسواق”.
تنظيم العمل لمواجهة حصار الوعر
لا يختلف الوضع كثيرًا بالنسبة لعمال النظافة في حي الوعر المحاصر، عن نظرائهم في درعا وحلب وبقية المناطق التي تخضع لسيطرة المعارضة السورية، ففي الحي الذي يعد آخر معقل للمعارضة السورية في مدينة حمص، يقسم عمل عمال النظافة إلى قسمين الأول: يعمل بالتنظيف لمدة ثلاث ساعات متواصلة، والثاني: يقوم بعملية إعادة تكرير أو حرق أو تكديس ما تم جمعه من مخلفات وقمامة لمدة 4 ساعات يوميًا بشكل تقريبي.
وما يزيد صعوبة العمل لدى العمال في الحي المحاصر، هو عدم وجود آليات نظافة يمكن عبرها التجول على الحاويات وجمع القمامة بها، وبدلًا عن ذلك يسير العمال يوميًا على أقدامهم يجولون الحي بحاراته وأزقته من أجل تنظيفه.
ويذهب محمد أبو علي، أحد العمال، بوصف المعاناة إلى أبعد من ذلك، بقوله إن “النظام يمنع إخراج القمامة من الحي إلى مناطق سيطرته أو مناطق أخرى، ما يجبرنا على إتلافها هنا، وهذا يسبب أزمات بيئية وصحية للسكان المحاصرين”.
ويضيف العامل (رافضًا كشف اسمه) “أبرز الصعوبات تكمن في نقص المعدات وخصوصًا الوقائية منها، والعمل تحت ظروف خطرة جدًا، فقد كانت هناك عدة استهدافات مباشرة من قبل القناصين أو رماة المدفعية للعمال أثناء تنظيف الشوارع، أدت لإصابة بعض العمال”.
وبالمقارنة مع أجور عمال نظافة آخرين وإداريين في مناطق أخرى من سوريا، يتضح أن هناك تباينًا كبيرًا وفرقًا بين الأجور من منطقة إلى أخرى، ما يبرز الحاجة إلى ضرورة وجود جسم واحد ينظم الأدوار ويتعاون مع المجالس المحلية ومجالس المحافظات.
ويبلغ معدل راتب العامل الآن في حمص نحو 40 دولار (18 ألف ليرة)، وبحسب العامل محمد أبو علي “لا يكفي الراتب لأسبوع واحد في ظل غلاء الأسعار وندرة المواد الغذائية”. لكنها “أفضل من اللاشيء في ظل البطالة، وانعدام فرص العمل”.