الفتنة التي سماها نصرالله إيران شريك أساسي فيها، والاستقتال في محاربة المعارضة السورية المعتدلة والدفاع عن بشار الأسد، هما أبرز مقدمات الفتنة هذه وأدواتها التي فجرت غضبا عربيا إسلاميا ضد هذا السلوك وضد أيديولوجيته التي استهانت بخيار الشعب السوري لصالح كذبة يعرفها الجميع في سوريا. كذبة أنّ بشار الأسد ونظامه معاديان لإسرائيل. لقد جرى تدمير سوريا وقتل المئات من الآلاف لأجل بشار الأسد. هذه هي الحصيلة التي يجب أن تكون واضحة للجميع. إذ أنّ هذه الحرب، التي استماتت إيران من أجل حماية نظام الأسد خلالها، باتت اليوم تدرك أنّ بقاءه ووجوده رهن اتفاق أميركي روسي، فيما إسرائيل التي دمر الإيرانيون وحلفاؤهم سوريا بحجة مواجهتها، باتت أقوى في قلب سوريا وبفضل شعارات المقاومة والرعاية الروسية. إسرائيل هذه تقصف ما تشاء في سوريا، ولا يتجرّأ لا الجنرال قاسم سليماني ولا السيد نصرالله على الرد، ولا نقول الأسد لأنّه يدرك أنّه تحت حماية ورعاية إسرائيل التي لم تزل بحاجة إلى المزيد من تدمير سوريا.
معركة حلب كشفت إلى حدّ بعيد كم أنّ حزب الله، الذي طالما ادّعى أنّه يرسم خارطة المنطقة الإقليمية بقوته، بات خارج المعادلة. يلتزم بما يقرره الضابط الروسي في المعركة، ويلتزم بحسابات السياسة الروسية. واللعب مع السياسة الروسية ليس مقبولا ولا مسموحا به. يعرف نصرالله جيدا أنّ روسيا هي من قدّم الضمانات لإسرائيل بعدم المسّ بمصالحها الاستراتيجية في سوريا. ليست واشنطن ولا أعداء إيران، بل حلفاؤها، وإسرائيل تستخدم وجود حزب الله لحماية حدودها الشمالية. هكذا يقول أعداء حزب الله في داعش والنصرة. لذا يمكن أن يصحّ الاتهامان بحق “داعش” و”النصرة” في خدمة الأميركيين لضرب “مشروع المقاومة” كما قال نصرالله. وحزب الله يحمي حدود إسرائيل، ويشكل حاجزا طبيعيا أمام كل من يريد أن يقاتل إسرائيل عبر الحدود اللبنانية، كما يتهمه خطاب التنظيمين المذكورين.
لكن يبقى السؤال: لماذا توجه نصرالله إلى هذين التنظيمين في رسالة تنطوي على دعوة للتعقل وعدم الاستغراق في “الفتنة”؟
ربما أدرك نصرالله أنّ التحولات الإقليمية ليست لصالح حليفه الأسد، وأنّ التلاقي الروسي التركي، كما مقدمات التقارب الإيراني التركي، ليست لصالح الأسد. وأنّ التسوية مهما كانت مجحفة بحق الشعب السوري لن تكون لصالح بقاء الأسد. أدرك نصرالله أنّ فكرة الانتصار لبقاء الأسد طويت من الحسابات الإقليمية والدولية التي راهن عليها، وبالتالي بدأ متأخرا في البحث عن مسار للحدّ من الخسائر. ولا سيما أنّ مئات الآلاف من السوريين في حمص وفي ريف دمشق وغيرهما، لا يزالون مشردين وفي اقتناعهم أنّ حزب الله سبب ما هم فيه فضلا عن نظام الأسد، وليس لدى نصرالله ما يقوله لهم وهو يطالب أعداءه بالعقلانية واستلهام سيرة النبي محمد (ص).
ما قاله نصرالله حول سوريا في خطابه الأخير هو تلميح إلى المصالحات والتسويات ووأد الفتنة بعد إدراكه استحالة الانتصار؛ هو خطاب انقلابي على كل ما قاله عن هذه الحرب المقدسة. وها هو يخاطب مسلحي داعش والنصرة وغيرهما حرفيا “إذا عندكم، حقا، مازال هناك شيء من الإسلام، هناك شيء من الحب للنبي، هناك شيء من العلاقة بالقرآن، أوقفوا هذا القتال لمصلحة أميركا في المنطقة، أوقفوا هذا القتال، ألقوا هذا السلاح، نتكلم بمصالحات، نتكلم بتسويات، ربما يكون هذا الكلام فيه مبالغة، نعم أنا أدعو اليوم كل أولئك الذين لا يزالون يحملون السلاح، ونحن نأسف عليهم ونأسى لهم… هذا ما ندعو إليه اليوم أمام كل المعارك الموجودة في المنطقة. العلماء الحكماء العقلاء الفهيمون، الناس الحريصون على هذه الأمة، الذي يستطيع أن يقول كلمة، الذي يستطيع أن يجري اتصالا، الذي يقدر أن يبذل جهدا، يجب أن تتوافر كل الجهود لوأد هذه الفتنة القائمة في الأمة وفي المنطقة”.
هل يكفي هذا الخطاب كي تتمّ الاستجابة له؟ يدرك حزب الله أنّ التئام الجراح يبدأ بالاعتراف بأنّه أخطأ، وغير ذلك فالعداء سيستمر والشرخ سيتعمق، وكل ذلك “كرمى” لنظام الأسد.