في 25 تموز الماضي، أصدر مصرف سوريا المركزي قرارًا يقضي بتفعيل دور المصارف العاملة في سوريا، لتمويل عمليات سوق القطع الأجنبي للغايات التجارية وغير التجارية، ومنها عمليات تمويل المستوردات، بعدما كان ممنوعًا على البنوك التدخل في هذه العملية، وبقيت حكرًا على شركات الصرافة.
القرار الجديد (رقم 1199) سيسمح للمصارف بتمويل المستوردين، عبر مراكز القطع التشغيلية لديها والمغذاة من الحوالات الخارجية بالعملة الصعبة، بالإضافة إلى الموارد (القطع الأجنبي) المشتراة من الأفراد والمؤسسات المالية، والعمليات فيما بين المصارف.
ينظر إلى القرار الذي جاء مع تسلّم حاكم مصرف سوريا المركزي الجديد، دريد درغام، وظيفته، خلفًا لنظيره السابق، أديب ميالة، على أنه أوّل قرار يصدره درغام على أمل أن يخلق تأثيرًا في سوق تمويل المستوردات ويضرب بيدٍ من حديد في السوق السوداء ومضاربيها. وهو ما لم يفلح به نظيره السابق ميالة، الذي راهن طيلة سنوات الحرب على إبقاء سعر الصرف عند حدود “مقبولة”، لكن تراجع الليرة عاكس رغباته، ووصل سعر الصرف إلى 500 ليرة للدولار الواحد.
قرار غير مريح
بعين “الريبة” تنظر شركات الصرافة، أو ماتبقى منها، لمثل هذه القرارت، وتعتبرها “تجربة” في السوق، و”وصفة” جديدة من الحاكم تلبية لدعوات اقتصاديين، مفادها ضرورة إغلاق شركات الصرافة لدورها في “تحطيم الليرة”، على اعتبار أن دورها “غير مفهوم”، في السوق حتى الآن.
في حين برّر درغام القرار بأنه “انتقال في التركيز على تلبية القطع الأجنبي، من شركات الصرافة إلى المصارف المرخص لها، لضمان الاستقرار النسبي في سعر الصرف”، وأشار إلى أنّ القرار سيضمن استقرار سعر الصرف خلال فترة قريبة، مع التأكيد على استمرار شركات الصرافة بتأدية الدور المنوط بها، لجهة تنفيذ الحوالات والقيام بأعمال الصرافة من خلال مواردها الذاتية.
وأضاف أن “جوهر القرار هو توسيع مروحة تمويل المستوردات، عن طريق المصارف وضبط استقرار سعر الصرف عند مستويات توازنية مقبولة”.
آلية غير مفهومة
بين المصارف السورية الحكومية، ومصارف القطاع الخاص، التي تعود ملكيتها غالبًا إلى مصارف لبنانية مقرها في بيروت، سيبقى المستورد ومعه المواطن السوري يسأل عن مدى تجاوب هذه المصارف مع قرار المركزي الجديد، وهل فعلًا ستمول العمليات التجارية وغير التجارية، في وقت أعلنت هذه المصارف انكفاءها منذ اندلاع الاحتجاجات في 2011، بأوامر من إداراتها العليا، فأوقفت معظم عملياتها بسبب ارتفاع المخاطر، وأغلقت فروعًا في محافظات ساخنة.
إلى الآن، لم يوضح القرار طبيعة التدخل أو الآلية التي سيتم تفعليها والاعتماد عليها، من قبل هذه المصارف لتلبية احتياجات المستوردين. لكن مستوردين وتجار تحدثت إليهم عنب بلدي أكدوا “أنه ليس من الضروري أن ندقق على مصدر التمويل (سواء بنك أو شركة صرافة)، لكن من الضروري استمرار تمويلنا لاستيراد البضائع إلى الداخل في ظل أوضاع اقتصادية صعبة”.
ومن المتوقع أن يؤثر القرار سلبيًا على شركات الصرافة، ويخشى أن تمارس أعمال مضاربة في السوق، إذ ساهم القرار بسحب البساط من تحت قدميها، بعدما لعبت خلال السنوات الخمس الماضية دور الوسيط بين المستوردين والمركزي السوري.
ويوجد في سوريا 14 بنكًا خاصًا، ثلاثة منها إسلامية، وخمسة بنوك تملكها الحكومة أكبرها المصرف التجاري السوري يليه العقاري، أما البنوك التي يديرها القطاع الخاص ويملك رأسمالها بالكامل فهي: بنك عودة- سوريا، بنك بيمو السعودية الفرنسي، فرنسبنك سوريا، المصرف الدولي للتجارة والتمويل، بنك سوريا والمهجر، بنك قطر الوطني– سوريا، بنك بيبلوس، البنك العربي، بنك الشرق، بنك الأردن- سوريا، بنك سوريا والخليج، بنك البركة، بنك الشام، بنك سوريا الدولي الإسلامي.
تضييق على شركات الصرافة
خلال السنوات الخمس الماضية، ضيّقت حكومة النظام السوري على عمل شركات الصرافة، التي يبلغ عددها للعام 2011 نحو 65 مكتب وشركة، واتهمتها بشكل مباشر في التسبب بتدهور سعر الصرف، متجاهلةً الأسباب التي أدت إلى تدهور الاقتصاد السوري ككل.
ولم يكن وضع هذه الشركات، التي يقدر عدد العاملين فيها بنحو ثلاثة آلاف موظف وفق تقديرات رسمية، بأفضل حالًا من المصارف التي توقفت عن ممارسة دورها في العمليات البنكية والمالية لأسباب أمنية بحتة، ودرءًا لأي مخاطر ربما تهدد كينونتها.
ومنذ 2011، اعتمد المركزي السوري على شركات الصرافة “الموالية” لقراراته، في كثير من العلميات التجارية وعلى التدخل في سوق القطع لضبط سعر الصرف، إذ تنص المادة 16 في القانون 24 لعام 2006، الخاص بتنظيم مهنة الصرافة في سوريا، على أن “يعهد بالرقابة على مؤسسات الصرافة إلى مصرف سوريا المركزي، وعلى مؤسسات الصرافة أن تتقيّد بالتدابير التنظيمية التي يتخذها المصرف، وبالإجراءات التي يفرضها حمايةً للزبائن المتعاملين معها”.
مصدر في إحدى شركات الصرافة أوضح لعنب بلدي أن “القرار سيفرض على المصارف تمويل عمليات المستوردات، بعد الحصول على إجازات الاستيراد من وزارة الاقتصاد، وستمول البنوك من مخزونها الخاص، على أن يرممه المركزي بعد كل عملية”.
القرار الجديد، بحسب أحد المحللين، لم يوجد حلًا نهائيًا لتأمين القطع في السوق بأريحية، بل أوجد مصدرًا جديدًا فقط بدلًا من المصدر السابق (شركات الصرافة)، وسيبقى نزيف القطع الأجنبي مستمرًا في ظل تراجع الموارد المالية، وبعد أن أشار صندوق النقد الدولي في وقت سابق إلى أن احتياطي المركزي السوري من القطع “جف” أو يقارب، وهو ما نفاه المركزي وقال إنه يقاطع الصندوق ولا يمده بأية معلومات.
“حيتان” السوق
نظرًا لصعوبة الشروط التي تفرضها إجراءات الحصول على إجازة استيراد، لجأ عدد من المستوردين للاستيراد بأسماء وهمية، من أجل تلبية الشروط المتعلقة بعدد العمالة لدى التاجر أو المستورد وحجم نشاطه، لتقتصر عمليات الاستيراد على عدد محدود من التجار، باتوا يسمون بـ “الحيتان” وعددهم محدود، وفق ما كشفت مصادر في وزارة الاقتصاد في حكومة النظام.
وتذهب النسبة الأكبر من عمليات تمويل الاستيراد إلى هؤلاء المستوردين، ويتركز نشاطهم على استيراد السكر والبن والشاي والأعلاف، وغيرها من المواد الغذائية.
وبعد صدور القرار ستصبح علاقة “الحيتان” مع البنوك بشكل مباشر، وهو ما سيخلق لهم مزيدًا من الأريحية في التعامل، كون كبار رجال الأعمال السوريين مساهمون ومالكون بشكل أو بآخر لمعظم البنوك الموجودة في سوريا حاليًا.
أما وضع شركات الصرافة فسيبقى محصورًا بتلقي الحوالات وتسليمها للمواطنين، سواء داخل سوريا أوخارجها، وبانتظار المزيد من قرارات المركزي وحاكمه الجديد، والتي يقول أصحابها إنها ستجعل نهايتهم قريبة.