عنب بلدي – نور عبد النور
12 ساعة، هي مدّة الرحلة التي قطعها المئات من سكان مدينة حلب خلال الأعوام الأربعة الماضية، للانتقال من حي تحت سيطرة النظام، إلى آخر تحت سيطرة المعارضة، بعد أن قسمها النفوذ إلى غربية وشرقية، وكسر معها صلات الدم والجيرة، وقواعد الانتماء الواحد.
فبعد سيطرة قوات المعارضة على أحياء حلب الشرقية عام 2012، اقتصر عبور المدنيين إلى باقي الأحياء على معبر “بستان القصر”، الذي ظلّ وسيلة الانتقال الوحيدة إلى أنّ تمّ رصده برصاص القناصة.
معبر بستان القصر.. “الحصار والبراميل“
الانتقال بين الأحياء الغربية والشرقية عبر “بستان القصر”، حمل طابعًا ثوريًا إضافة إلى زيارات الأهل والتبادل التجاري، فقد كان وسيلة انتقال المعارضين من أحياء سيطرة النظام إلى الأحياء “المحررة”، للتظاهر وعلاج الجرحى والمساهمة في الأنشطة الثورية، الأمر الذي وطّد العلاقة لفترة وجيزة، قبل أن يفرض النظام رأيه، بفرز السكان بشكل إجباري إلى موالين في الغربية، ومعارضين في الشرقية.
وفي حين رجحت الكفّة في ريف حلب الجنوبي، لصالح المعارضة في صيف عام 2012، أغلق طريق الإمداد الوحيد لمناطق سيطرة النظام، وتزامن الإغلاق مع رصد معبر “بستان القصر”، الذي أطلق عليه السكان حينها اسم “معبر رفح”، الأمر الذي ترك المدنيين في أحياء النظام دون طعام، وأسفرت محاولات العبور إلى المناطق المحررة عن مقتل العشرات برصاص القناصة.
الاتهامات للمعارضة برصد المعبر، والتي غذّاها إعلام النظام، روّجت لدى السكان في مناطقه، فكرة “الحصار المفروض من الأخوة”، وشغلهم عن مئات الضحايا في الأحياء الشرقية، التي خلّفها القصف بالبراميل.
بينما يؤكّد الناشط الإعلامي، في أحياء حلب المحررة، محمد ياسر، لعنب بلدي “خرجنا بعشرات المظاهرات لفتح معبر كراج الحجز ببستان القصر، الذي كان يغلق لفترات مؤقتة وطالبنا بإدخال المواد الغذائية لأهلنا بالمناطق المحتلة أو السماح لهم بالعبور للمناطق المحررة، الجيش الحر استجاب للأمر إلا أن النظام كان يستهدف المدنيين العابرين بالقناصات”.
الغارات الروسية وجرار الغاز
تعرّض الجزء المحرر من مدينة حلب خلال سنوات الثورة السورية إلى قصف مستمر من طيران النظام، والطائرات الروسية، جعل من أحيائه الأكثر دمارًا في سوريا، ما دفع مئات الآلاف إلى النزوح تاركين وراءهم منازلهم المدمرة، ورفات قتلاهم.
أحياء سيطرة النظام لم تكن بمنأى عن القصف، حيث تسببت قذائف الهاون، وجرار الغاز المتفجرة، والصواريخ محلية الصنع، بمقتل العشرات، واتُهمت فصائل المعارضة الموجودة في حيّ بني زيد، باستهداف المدنيين، ما أدى إلى عداء لدى نسبة كبيرة من سكان الأحياء الغربية، تجاه المعارضة.
هبة، وهي أمّ لطفلين، اضطرت لترك منزلها في حيّ شارع النيل شمال غرب حلب، بعد أن دمّر جزئيًا، وتؤكّد لعنب بلدي أنها لم تتمكن من تبرير قصف الحي بجرار الغاز، بعد أن حرمت من منزلها، وشهدت على مقتل ثلاثة من جيرانها.
وبينما يؤكد محمد ياسر أن المؤيدين من سكان حلب “يساهمون بتقوية النظام ودعمه، ويسكتون عن جرائمه بحق إخوتهم”، إلا أنه لا يبرر قصفهم.
ويضيف “المؤيدون الذين يعتبرون أنّ القذائف التي كانت تتساقط على المناطق المحتلة مصدرها حي بني زيد، هم أنفسهم كانوا يشتمون المتظاهرين عام 2011، وبرروا للشبيحة قمعهم”.
الجنائز والاحتفالات
ويعيش السكان في الأحياء الغربية حياة طبيعية نسبيًا، مقارنة مع سكان الأحياء الشرقية، رغم انقطاع المياه والكهرباء لفترات طويلة، والارتفاع الكبير في الأسعار في مناطق سيطرة النظام، إلا أنّ الرخاء المادي لأغلبهم، حافظ على مستوى من المعيشة، قريب لما كانت عليه الأوضاع قبل اندلاع الثورة السورية.
ويبرر الكثير من سكان الأحياء الغربية الأمر بأنه يندرج في سياق “استمرار الحياة ورفض الموت”، بينما يترك عند الأهل في الجانب الآخر، نوعًا من الحساسية، كون سكان المناطق الخاضعة للنظام “لا يراعون الأوقات المناسبة للاحتفال حتى لو تزامنت مع مجزرة في الطرف الآخر، وشهدنا حالات عدة من هذا النوع”، حسبما يشير محمد.
بينما ابتعد سكان الأحياء الشرقية، عن مظاهر الاحتفال إلا فيما ندر، نتيجة القصف المتواصل والدمار الكبير، فضلًا عن عدد القتلى الكبير، والمجازر المتكررة.
وشكّلت الاحتفالات التي شارك بها أهالي الأحياء الخاضعة للنظام، مع عناصر الدفاع الوطني، إثر سيطرة النظام على حيّ بني زيد، صدمة لدى المعارضين نهاية شهر تموز الماضي.
رنا، الموظفة في أحد البنوك الخاصة ضمن الأحياء الغربية، انتقدت أيضًا الاحتفالات التي أطلقها بعض السكان مع عناصر الدفاع الوطني، معتبرةً الأمر استفزازًا لـ “الطرف الآخر”، لكنها قالت إنّ السيطرة على حي بني زيد “أمر إيجابي لأنه سيعيد عشرات العائلات إلى منازلهم”.
حصار لفك الحصار
جسّدت الأحداث الأخيرة التي شهدتها مدينة حلب، تعميقًا للشرخ بين سكان المناطق الشرقية والغربية، إذ عمد النظام إلى محاصرة الأحياء الشرقية، بالسيطرة على طريق الكاستيلو، الأمر الذي دفع المعارضة إلى إطلاق معركة حلب، لفتح ممر من الريف الجنوبي نحو الأحياء الشرقية.
وبالسيطرة على حي الراموسة، قطعت المعارضة شريان الإمداد الرئيسي للنظام، الأمر الذي يهدد المدنيين في أحيائه بالحصار، نتيجة تعذر إدخال المواد الأساسية.
محمد ياسر، يرى أنّه في حال “أدى ذلك لحصار حلب المحتلة، ستتوفر حتمًا معابر لإخلاء المدنيين منها، أو لإدخال مواد غذائية، ولن يشمت أحد بحصار أهله”.
ولعبت وسائل الإعلام، وصفحات في “فيس بوك” دورًا كبيرًا في تعميق الهوة بين الحلبيين، متناسية أنّ عشرات النازحين من الأحياء الشرقية، يقطنون في مناطق سيطرة النظام، وبالعكس انتقل كثرٌ إلى مناطق “الجيش الحر” ليكملوا نشاطهم الثوري، وأنّ العلاقات بين السكان “تتجاوز القرابة والجيرة”، حسبما تؤكّد رنا، مضيفةً “نهاية الحرب ستنهي معها حالة التفكك، الدم الذي يجمع الحلبيين، لن يفرقهم”.