حنين النقري – عنب بلدي
في السنوات الأولى من ثورة آذار توقّفت حياة السوريين بشكل شبه كليّ، تأثرًا بممارسات النظام الأمنية، وترقبًا وانتظارًا لنصر لن يتأخر وفقًا للنماذج العربية السابقة. لكن الحال لم يستمر كذلك، فمع كل رقم يضاف إلى عداد سنوات الثورة، وكل نور يغيب بصيصه في نهاية النفق، تزداد محاولات السوريين للتأقلم مع الظروف التي يعيشونها، والتوجه لحلول تمنحهم مساحة عيش أقل بؤسًا بالإمكانيات المتوفرة، ولسان الحال يقول “إلى متى نعطّل حياتنا ونرهنها بانتظار المجهول؟“
التوجه للاصطياف في أماكن أكثر برودًا هو حلّ بدأ السوريون بالعودة إليه، للتغلب على ارتفاع درجات الحرارة، التي باتت “لا تطاق”، بصحبة ارتفاع الأسعار وانقطاع الماء والكهرباء، فما هي الجهات التي ما زال بإمكان السوريين قصدها للاصطياف؟ وما هي تكاليفها؟
الحدائق: الوجهة الشعبية الأولى
كحل أوليّ لا يحتاج للتنقل، تتوجه العائلات إلى الحدائق والمتنزهات القريبة، وتقول السيدة سمية من سكان مدينة دمشق، ” كنا في السابق نخرج إلى بساتين الغوطتين ومتنزهاتها لكن اليوم لا يوجد الكثير من الخيارات خارج دمشق، كما أن متنزهات الربوة وسواها صارت أغلى من المستوى المادي لمعظمنا، لهذا فالحدائق هي الوجهة المجانية الوحيدة لـ (شمّ الهوا)”.
وكون الحدائق الوجهة المجانية الوحيدة، يترجمه الواقع باكتظاظها بالناس بشكل كبير، بدءًا من ساعات العصر وحتى أوقات متأخرة ليلًا، تقول سمية “يجب أن تذهبي باكرًا لحجز مكان للعائلة، ولا أقصد هنا الجلوس على الكراسي وإنما لتجدي مكانًا على بقعة خضراء، ذهبت لحديقة النيربين الأسبوع الفائت الساعة العاشرة ليلًا فلم أجد موضعًا أجلس فيه”.
لا حدائق في حمص
إن كان للحدائق دور في دمشق فإن ذلك عائد لكثرة عددها، وهو أمر غير مشابه لحال المحافظات الأخرى مثل حمص، تقول ريم، وهي موظفة في شركة خاصة، “عندما نذهب لدمشق نتفاجأ بالفارق بينها وبين حمص، المساحات الخضراء لدينا تكاد تختفي من المدينة، الحرب دمّرت الحدائق القليلة أساسًا هنا، والسهر في الحدائق أمر لا نعرفه”.
أما في حماة فيتعذر على معظم الأهالي قصد الحدائق لكونها ملاذًا للشبيحة ورجال الأمن، يقول الأستاذ وليد، المدرّس في حماة، “نسينا التوجه للحدائق لكثرة المشاهد اللاأخلاقية فيها، وخوفًا على أخواتنا من التحرش وعلى أنفسنا من الاعتقال. فبالإضافة للحر الخانق في حماة والرطوبة العالية نحبس أنفسنا في المنزل خوفًا من الشبيحة أيضًا”.
المسابح: الوجهة الثانية
تشكل المسابح مقصدًا جيدًا للتخفيف من الحرارة لمن لا يرغب الخروج من مدينته، لكن هل يمكن للجميع ارتيادها؟ الجواب هو “بالتأكيد لا”، حسب ولاء، المهندسة من دمشق، وتقول “أسعار دخول المسابح مرتفعة جدًا، أصحاب المسابح يعلمون حاجة الناس الماسة لها في ظل الحر وصعوبة الخروج من دمشق وانقطاع الكهرباء، ويعلمون كيف يستغلون هذه الحاجة تمامًا”.
وتشير ولاء إلى أن غلاء الأسعار غير مصحوب على الدوام بنظافة المسبح وجودة مرافقه “أرخص دخولية أعرفها للمسابح بـ 1200 ليرة سورية للشخص الواحد، وهنا نتحدث عن مستوى نظافة متدني ومياه عكرة كما هو الحال في مسبح بردى فدخوليته 1500 ليرة لكن مياهه غير مفلترة أو معقمة، وشهد عددٌ من مرتاديه الإصابة بالتهابات في العيون والجلد”.
تختلف أسعار المسابح بشكل كبير لكن بمعظمها خارج إمكانيات الناس المادية، تقول ولاء “عليك دفع ثلاثة آلاف ليرة لدخول مسبح الشيراتون، وبالنسبة لي دفعت اشتراكًا شهريًا بقيمة 5 آلاف ليرة للسباحة ساعتين ولثلاثة أيام في الأسبوع، وهو سعر منخفض مقارنة بالأسعار الأخرى، لكنه رغم ذلك خارج إمكانيات الكثيرين”.
التوجه للبحر: للخاصة
رغم محاولات وزارة السياحة تنشيط حركة المصطافين للساحل، والمهرجانات التي تعلن عنها من حين لآخر إلا أنها لا تستقطب إلا فئة قليلة جدًا، حسب الأستاذ وليد من حماة، “كنا قبل الثورة نشعر بوحدة حال مع كل مناطق سوريا ونلاقي ترحيبًا حيث حللنا، لكننا نخاف اليوم الذهاب لمناطق تأييد النظام، خاصة مع هوياتنا التي تشي بجذور معارضتنا وكرهنا له، لم يعد البحر لنا اليوم”.
تؤكّد ريم رأي وليد، فهي لا ترى وجودًا لها في الساحل مع حجابها والتزامها، وتضيف “كنا في السابق ننزل للبحر بحجاباتنا ونسبح فيه كالجميع، الشواطئ اليوم حسبما نقلت لي صديقاتي وأقربائي عبارة عن تفلت أخلاقي وعريّ، لن أتمكن من ارتيادها بحجابي لأنني سأبدو غريبة جدًا، البحر في سوريا لفئة خاصة فقط”.
شاليه شعبي بـ 15 ألف ليرة
ليست الغربة في الساحل غربة انتماء فحسب، وإنما غربة مادية أيضًا، هذا ما وضحته لنا السيدة سمية من دمشق “المشكلة في الأسعار بالدرجة الأولى، استفسرنا عن أسعار الشاليهات فوجدنا أن الشعبي منها، وغير المصنف من وزارة السياحة، يبدأ من 15 ألف لليلة الواحدة”.
وربما تصل الأسعار لـ 40 ألفًا لشاليه بغرفة نوم واحدة، وتتضاعف مع تحسن وضع الشاليه ووجود مولدة فيه، بحسب ريم، وتوضح أن “وجود مولدة أمر ضروري مع التقنين الكهربائي في اللاذقية الذي لا يحتمل أمام رطوبة البحر… الخلاصة أن الاصطياف في الساحل هو لخاصة الخاصة اليوم، فمن هي العائلة السورية التي تتمكن من تخصيص مبلغ 150 ألف ليرة سورية لثلاثة أيام غير متضمنة الطعام والتنقلات؟”.
غلاء وخطورة.. “فلنبق حيث نحن“
تزوّج نبيل ونور منذ شهر في حماة، وقررا توفير تكاليف حفل الزفاف ومستلزماته للخروج لمدة أسبوع إلى أحد المصايف، لكن الطرق جميعها أبقتهم في حماة أخيرًا، يقول نبيل “اخترت منطقة مشتى الحلو لجمالها وبرودتها، وتواصلت مع أحد الفنادق التي كنا نرتادها منذ سنوات لكنني فوجئت بأجرة الليلة 25 ألف ليرة سورية متضمنة وجبة الإفطار فحسب، وهو ما يعني أني سأدفع قرابة 40 ألف ليرة سورية يوميًا ما بين مبيت وطعام”.
لم يثن الغلاء نبيل عن نيته قضاء “أسبوع العسل” مع عروسه، لكن خطورة الطريق هي ما منعته “امتنع معظم من أعرفهم من السائقين عن اصطحابي للمشتى بسبب خطورة الطريق، بين كل محطة وتاليتها يوجد مجموعة من الشباب المسلحين يسلطون انتقامهم بمقتل أقربائهم في جيش النظام على سيارات المارة، هناك حالات خطف كثيرة على هذا الطريق وهو ما جعلني أتراجع عن قراري في النهاية، وقضينا شهر عسلنا في حماة خلافًا لكل خططنا السابقة”.
ماذا عن المزارع الخاصة؟
بعد ست سنوات من التزام المنزل وعدم الخروج من حمص، قررت السيدة أم عمار أن تبحث عن حل آمن يرفهها وعائلتها، تقول “قررت وزوجي أن نبحث عن إمكانية اصطياف ضمن محافظة حمص نفسها خوفًا على الأولاد من خطورة الطريق، وكان القرار الأمثل باستئجار مزرعة خاصة مزودة بمسبح”.
بعد البحث وجدت العائلة مقصدها في مزرعة لا تبعد عن مركز حمص سوى نصف ساعة “رغم غلاء سعرها وافقنا، طلب منا صاحبها 30 ألف ليرة سورية لليوم، فقررنا أن تكون نزهتنا عبارة عن يوم واحد، ومع تكاليف استئجار سيارة والغذاء كلفنا المشوار 50 ألفًا، لكننا غير نادمين والمهم أنني رأيت ابتسامة ابنائي”.
تستأنف أم عمار أن اللجوء لهذه الحلول لم يعد رفاهية رغم غلائها، “بل صار حاجة ملحّة لنتمكن من التقاط أنفاسنا والاستمرار بحياتنا وظروفها الصعبة”.