عبادة كوجان – عنب بلدي
دون رايات سوداء ألفها الأهالي منذ عامين ونصف، أو سيارات “حسبة” تجوب شوارعها، أو فتىً في مقتبل العمر مصلوبٌ بتهمة “الردة” في إحدى ساحاتها، أو غاراتٍ أجنبية عززت فرضية “الدم مقابل الحرية” خلال أشهر طويلة. كان ذلك صباح مدينة منبج في ريف حلب الشرقي، السبت 13 آب، عقب طرد فلول تنظيم “الدولة الإسلامية” منها.
نحو عشرة أسابيع، استمرت معركة منبج، وحققت فيها القوات المهاجمة تقدمًا سريعًا جعلها على أبواب المدينة خلال أسبوعين، إلا أن فصول المواجهة شهدت تأرجحًا منذ ذلك الحين، لتعقيدات “حرب الشوارع” فيها، واتخاذ التنظيم من الأهالي دروعًا بشرية، ما أعاق المسألة، إلى حين حُسِمت ظهيرة الجمعة.
من “الخلافة” إلى “الديمقراطية“
معلومات مهمة عن منبج
ثاني أكبر مدن المحافظة بعد مدينة حلب، إذ تبلغ مساحتها نحو ألفي هكتار، وبلغ عدد سكانها عام 2010 حوالي 150 ألف نسمة. أعدها الرومان مقصدًا دينيًا ومحجًا للسكان المحليين، قبل الميلاد، واحتضنت الآلهة “آثار غاتيس” السورية، وأطلق عليها مستشرقون لقب “فاتيكان الشرق”. افتتحها أبو عبيدة بن الجراح صلحًا عام 16 للهجرة، وأتبعت بمدينة قنسرين (العيس حاليًا) جنوب حلب. أوج المدينة كان في زمن الحمدانيين، حيث اقترنت باسم أميرها أبو فراس الحمداني، الذي جعل منها حاضرة إلى أن احتلها الصليبيون عام 1110 ميلادي وأسروا أميرها. تقترن المدينة أيضًا بشاعرين ولدا فيها، أحدهما يعتبر أبرز شعراء العصر العباسي، وهو الوليد بن عبيد بن يحيى التنوخي الطائي (البحتري)، والشاعر السوري الراحل عمر أبو ريشة. |
لا يصح إسقاط الواقع الذي تعيشه “دولة البغدادي” اليوم من تآكل لمناطق نفوذها في سوريا والعراق والتوافق الإقليمي والمحلي على ضرورة إقصائها عن المشهد، على دول اندثرت ورفعت شعار “الخلافة” سابقًا، كالعباسيين أو العثمانيين، فالحالة هنا مختلفة باعتبار أن غايات التنظيم وأدبياته المعلنة هي استجرار قوى “الكفر” لمحاربته على أرضه، وهو ما شهدنا آخر فصوله بسقوط حصنه المنيع منبج.
استمر حكم “الدولة” لمنبج حوالي عامين وثمانية أشهر، بعدما استبعد جميع فصائلها من “الجيش الحر” أو “أحرار الشام”، ووطد نفوذه شرقها وصولًا إلى ضفاف الفرات، وغربها باتجاه مدينتي الباب وجرابلس، وأضحت أكبر حصونه الاستراتيجية شرق حلب، وقضى على جميع خصومه داخلها بسلسلة إعدامات وفق ذرائع دينية أتقنها، كالردة والكفر والخروج عن طاعة “أمير المؤمنين”.
ومع دخول الصيف، مطلع حزيران الماضي، أجرت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها المحليون تغييرًا جذريًا في خطة معلنة حول هجوم واسع على مدينة الرقة (عاصمة الدولة في سوريا)، لتوجّه أسرابها الجوية إلى منبج، بالتوازي مع حشد حلفائها “قوات سوريا الديمقراطية” و”المجلس العسكري لمنبج وريفها” نحو ثلاثة آلاف مقاتل لإتمام المهمة، سبقها جولات مكوكية لجنرالات ومسؤولين أمريكيين إلى شمال الرقة ومدينة عين العرب (كوباني).
حسم “الحلفاء” معركتهم في غضون عشرة أسابيع، وباتت المدينة خارج سيطرة التنظيم، بينما لا يزال محافظًا على بعض الجيوب شمالًا وجنوبًا، على وجه التحديد، لكن ذلك لا ينفي صفة “الخسارة” لقواته ولا يزعزع من ثقة “الانتصار” للحلفاء، فيراهن الطرف الأخير على إعادة الاستقرار لمنبج، مستبقًا معركته بتأسيس مجلسين، مدني وعسكري، قد يقودان المرحلة المقبلة بإشراف مباشر من “الإدارة الذاتية”، المعلنة من قبل الأكراد، ما يرجّح تأهيلها لتصبح “كانتونًا” خامسًا في إقليم مزمع الإنشاء شمال سوريا.
عودة الحياة إلى منبج وتأهيلها على غرار ما حدث في تل أبيض (شمال الرقة) سابقًا، يصطدم بمعوقات عديدة، أبرزها نزوح الآلاف عنها باتجاه مناطق أكثر أمنًا، سواءً كانت تحت سيطرة التنظيم أو “سوريا الديمقراطية”، عدا عن توجّس بعض ناشطيها ومسؤولي المعارضة من تهجير قسري قد تلجأ إليه الفصائل الكردية لأهالي قرى بأكملها، كما جرى في منطقة الجزيرة وريف الرقة أيضًا، بحسب تقارير دولية.
ورغم رفض طيف واسع من ناشطي ومثقفي سوريا لمشروع الإقليم الكردي الممتد من الجزيرة وحتى شمال حلب، وفق رؤية صالح مسلم ومسؤولي “الإدارة الذاتية” من خلفه، إلا أنهم يجدون الواقع الجديد في منبج مطمئنًا إلى حد ما، كون التنظيم قد غدا خارجها، والطائرات متعددة الجنسيات لن تغير عليها ثانية، ومراهنين على العيش المشترك بين مكوناتها عربًا (ذوو الغالبية فيها)، وأكرادًا يقطنونها منذ عشرات السنين.
ما هو مصير “الدولة” في محافظة حلب
تتفق جميع الآراء على أن تنظيم “الدولة الإسلامية” تلقّى صفعة مؤلمة بخسارته منبج، وانكفاء قواته نحو جرابلس المحاذية للحدود
قالوا في منبج
“تحرير منبج خطوة راسخة نحو بناء سوريا حرة ديمقراطية” صالح مسلم- رئيس حزب “الاتحاد الديمقراطي” الكردي – “انتصاراتنا وتحرير شعبنا وأرضنا من ظلم داعش والإرهابيين هو هدفنا. استمروا بنفاقكم وسنستمر بانتصاراتنا وتحريرنا” العقيد طلال سلو- المتحدث باسم قوات “سوريا الديمقراطية” – “نبارك لأهلنا في مدينة منبج تخلص مدينتهم من إرهاب داعش.. وننتظر الأيام القادمة لنقول هل هو تحرير أم استبدال قناع بقناع آخر” العميد أحمد رحال- خبير عسكري واستراتيجي – “مسلسل الدواعش انتهى بالأمس في منبج لصالح الاحتلال وأدواتهم.. خرافتهم باقية وتتمدد على حساب مناطق الثوار ليمارسوا دور التيس المستعار” أحمد موفق زيدان- صحفي وإعلامي سوري – “بعد آلاف الغارات الجوية التحالف يسيطر على منبج ويسلمها للوحدات الكردية والأخيرة تبسط احتلالها على كافة أحياء المدينة الاستراتيجية” موسى العمر- صحفي وإعلامي سوري |
مع تركيا، والتي قد تشهد بدورها معركة مقبلة تهدف إلى طرده منها، وهو ما تشير إليه جميع التحليلات والتقارير الغربية والمحلية.
ولا يزال التنظيم يحتفظ بمساحات واسعة في ريف حلب، تتصل بمناطق سيطرته في محافظة الرقة عن طريق شريان وحيد، وهو الطريق الواصل بين مدينة الباب وبلدة مسكنة القريبة من الحدود الإدارية للرقة، إلا أن وجوده بات مقتصرًا على مركزين رئيسيين فقط، وهما مدينتا جرابلس والباب، إلى جانب العديد من القرى والبلدات التابعة شرق وشمال حلب.
إن رغبة “الإدارة الذاتية” وفصيلها المدعوم أمريكيًا (قوات سوريا الديمقراطية) بالاستحواذ على الجزء الشمالي من سوريا، من أقصى الجزيرة وحتى شمال غرب حلب، ليكون إقليم “روج آفا” الموعود، والذي يتغنى به الأكراد، ووضعوا خارطته في مكاتب “الإدارة الذاتية” داخل وخارج سوريا، يجعل من مدينة جرابلس هدفًا محتملًا للهجوم قبل مدينة الرقة.
كما أن الهجوم على جرابلس يأخذ طابعًا عسكريًا واستراتيجيًا مهمًا، كونها منفذ حدودي مع الجارة تركيا، وتحاصرها القوات الكردية من الشرق (كوباني) والجنوب (منبج)، ما يجعل معركتها أخفّ وطأة من معركة الرقة، وسريعة الحسم نسبيًا لصغر مساحتها بالمقارنة مع الجارة الجنوبية منبج. وتشير المعطيات الميدانية إلى أنه لا مستقبل لتنظيم “الدولة” في حلب، وربما تشهد هذه المنطقة تغيرات ملحوظة حتى نهاية العام الجاري.
خلال ستة أشهر، خسر تنظيم “الدولة” أربع مدن في سوريا، اثنتان في محافظة حمص (تدمر والقريتين) أمام قوات الأسد المدعومة روسيًا وإيرانيًا، وواحدة في الحسكة (الشدادي) والأخيرة في حلب (منبج) أمام قوات “سوريا الديمقراطية” المدعومة من الولايات الأمريكية ودول “التحالف الدولي” بشكل عام، دون دعم دولي لفصائل المعارضة يجعل لها نصيبًا من كعكة “داعش”.