إن زرت دمشق وريفها، أو حمص أو حلب أو أي مدينة سوريّة، فلا بد وأنك شاهدت أسرابًا من طيور الحمام تحوم فوق المدينة، تتمايل إلى اليمين واليسار، هبوطًا وارتفاعًا على إشارات شخص يقف على أحد الأسطح.
يحمل بيده عصىً طويلة برأسها قطعة قماش سوداء أو بيضاء، يلوّح بها وكأنه يقول للسرب المحلّق في الهواء ارتفع أكثر أو انخفض نحوي، وغالبًا ما يخرق “صفير” الشخص الأجواء، ويعتبر ذلك بمثابة لغة متبادله بينه وبين طيوره التي تطيعه في كل ما يقوله ويرمي إليه، ومنها مصطلحات لا يمكن فهمها، مثل “كش كش”، “تع تع”، “بر بر بر”.
ولربما مررت بشارع أو سوق شعبية أو كنت على سطح، فتسمع عن مشاجرة بين شخصين أو مجموعتين، سببها وقوع “طير” (حمامة) في يد أحدهما، كان قد خطفها بحرفته ومهنيته، فترتفع الأصوات وتصل أحيانًا إلى الضرب بأدوات حادة كالسكاكين والعصي، من أجل استردادها، وينتهي الأمر بالطرفين في السجن، فالمعلم الشاطر لا يخسر أيًا من طيوره، لصالح “حميماتي” آخر من المنطقة.
لا يوجد إحصائيات رسمية دقيقة حول عدد طيور الحمام في سوريا، ولا عدد العاملين في هذه المهنة، ما يجعل حصر أماكن تواجد هؤلاء صعبًا، ويبعدهم عن أي دراسات أو نقاش جاد.
“كشاش” يعني “كذاب”
في سوريا، يجب التفريق من يربي الحمام أو الطيور بقصد الزينة، وبين من يمارس مهنة “الكش”، وهو ما يعرف صاحبها إصطلاحًا بـ “الكشاش”، أي تطيير الحمام في أسراب تسمى محليًا “كشات”، ويعرف الحميمياتي بأنه “كذاب”، أو “يكش” بحسب العبارة الدارجة محليًا، فهو لا يعترف بأنه استولى على طيور غيره، ومستعد ليقسم على ذلك.
“الحميماتي”، أو “الحمائمي”، مهنة من لا مهنة له، كما تنظر إليها الشريحة الأكبر من المجتمع، وغالبًا ما يعمل بها أشخاص ذوو مزاج خاص، فهي تحتاج إلى أوقات فراغ، وذهن صاف، “وكاريزما” محددة، وأن يكون الشخص مستعد لتحمل تبعات كلام من حوله عنه، فمن هذا الذي يرغب بأن يطلق عليه لقب “كشاش” وبالتالي “كذاب” بالعرف التقليدي المحلي، أو من هذا الذي يستعد لأن يوصم بلقب “حميماتي”، لما للكلمة من دلائل على أن “لا شغلة ولا عملة لديه”، “متسكع”، “عواطلي”، وهي مصطلحات غالبًا ما ترافق المهتمين أو العاملين في هذا المجال، رغم أن من قابلتهم عنب بلدي من العاملين في المهنة يقولون “إنها هواية وليست مهنة، ولقد نالت منها الحرب الكثير، فلم يعد هناك لا طيور ولا كشاشين”.
هل تتزوجين حميماتي؟
يتخذ الحميماتي من على أسطح البيوت مسرحًا لهوايته ومهنته، التي ينظر إليها نسبة كبيرة من السوريين بعدم الارتياح، فمن ترضى أن تتزوج من “حميماتي”، ومن ترضى بأن يكون أخوها أو والدها كذلك؟
لقد شكّل العمل فيها معيارًا للتمييز المجتمعي، رغم أنه لا نص قانوني أو خطر حقيقي يمكن أن يتسبب به من يعمل في تطيير الحمام، كما يقول عاملون في هذا المجال.
العرف المجتمعي يقول إن “الحميمياتي” لا تقبل شهادته في المحاكم لأنه يكذب كثيرًا، لكن بمراجعة عنب بلدي لنصوص قانونية وسؤال متخصصين تبين أنه لا يوجد نص يجرّم الحميمياتي أو يعتبر شهادته غير مقبولة في المحكمة، بل يجرّم القانون الأفعال الصادرة عنه بالمادة 744 من قانون العقوبات السوري، وفرض غرامة مالية في حال أصدر “الكشاش” ضوضاء ورمى حجارة وأجسام صلبة على البيوت وفي الأجواء.
طقوس غريبة
ينظر المجتمع المحلي إلى “الحميماتية” على أنهم عنيفون ومن أصحاب المشاكل، لكثرة المشاجرات التي يخوضونها فيما بينهم من أجل طير، أو كشة، رغم أنهم يتعاملون مع الحمام بوصفه يرمز إلى السلام والأمان، فقد أنصفت الأمثال الشعبية الحمامة ورمزت إلى سلميتها. يقول المثل إن فلان “قلبه مثل الحمامة” في إشارة إلى طيبته، وهناك الكثير من الأمثلة الشعبية التي تتحدث عن الطيور بأنواعها وتربطها بالمجتمع والحياة اليومية.
لكن للحميماتية طقوس غريبة تكاد لا تكون معروفة للجميع، فمن يستحوذ على طير ليس ملكه، عليه أن يصمت وألا يخبر أحدًا عنه حتى يسأل عنه صاحبه في الوسط، ولا يجوز له أن يتصرف به أو يبيعه، أما من فقد الطير فيعيش حزينًا لأن حميماتيًا آخر “علّم عليه”، وهذا يؤثر على مسيرته المهنية.
لكن هذه المهنة، الذكورية بامتياز، يحكمها قواعد، كما أن خطف الطيور الأخرى له أسس لا يتقنها إلا “الحريفة”، فما أن تعلو الكشة حتى تختلط مع طير ما، ربما يكون لطرف آخر، فينضم إلى المجموعة ويصبح وسط السرب، وهنا يبدأ الحميماتي بالتلويح بشدة للكشة حتى تحط في مكانها على السطح إلى جانبه ويكون معها الصيد الجديد، وهنا يتكتم الحميمياتي على ما جاءه ولا يستطيع من فقد طيره إثبات أنه كان ضمن كشة زميلة، وهنا يقف لا حول له ولا قوة، ينتظر جولة جديدة ليسترد طيره أو يخطف آخر من الذي سلبه طيره.
تراث سوري “مهدد”
هواية أو مهنة لا فرق، المهم أنها شغلت جزءًا لا بأس به من المواطنين السوريين قبل الحرب، وكانت خلال السنوات الخمس الماضية من الهوايات أو المهن التي تشارف على الإندثار، وبالتالي خسارة المجتمع السوري لـ “تراث” مجتمعي، مهما تفاوتت النظرة إليه، سلبية كانت أم إيجابية.
فالحميماتية الذين كانوا يملؤون الأسطح، وخاصة في الأحياء الشعبية والمناطق العشوائية، خفت صوتهم مع استعار المعارك، ولجأ كثير منهم للبحث عن مصادر رزق أخرى بعدما أصبحت الهواية من الماضي، وكثير منهم كانوا قبل الحرب يعتاشون من هذه المهنة عبر بيع الطيور بعد تسمينها وتربيتها، وتبادلها فيما بينهم، أو اللجوء إلى عرضها في أسواق مخصصة كسوق العتيق في منطقة السنجقدار والزبلطاني بدمشق، والجمعة في دوما وحماة، وغيره من الأماكن في عموم المدن السورية.
إطعام الطيور عبء جديد
حاليًا صار “كش الحمام” هواية أكثر منها مهنة لأسباب كثيرة، يقول أحد العاملين في هذا المجال من مدينة درعا لعنب بلدي، ويضيف بأن “الحرب والقصف والمعارك والتهجير الذي أصاب الحميماتية، إضافة إلى التكاليف المادية المرتفعة من إطعام الطيور والاهتمام فيها، أدى إلى تراجعها بشكل كبير”.
ويشير إلى أن سوق الطيور المشهور في مدينة درعا، لم يعد كما كان عليه في السابق، “لم يعد هناك طيور، انخفضت أعداد الحمام بنسب كبيرة جدًا، لذلك من يستمر في هذا المجال هم أصحاب الهواية فقط”.
الشاب الدرعاوي يلفت إلى أن الطيور بشكل عام تتعرض إلى مخاطر كبيرة خلال هذه الفترة، منها “انتشار أنواع من القوارض تهاجم الطيور، وقد انتشرت بسبب المعارك والتهجير وعدم وجود مكافحة لها، وغالبًا ما تتواجد في بيوت مهجورة، تتكاثر فيها بكميات كبيرة، وهذا أكبر خطر يهدد هذا النوع من الحيوانات”.
لصّ الحمام في ألمانيا
أحد اللاجئين السوريين، الذي فروا من ويلات الحرب، وصل إلى ألمانيا، كان يمتهن “تربية الحمام” وتطييره، ونظرًا لغرابة هذه المهنة عن المجتمعات الأوروبية، ظن الشاب أنه سيخسرها إلى الأبد، لكنه وجد في الحمامات التي تنتشر في الساحات العامة ضالته، فقد روى ناشطون سيرة هذا الشاب الحموي، وكيف أنّ حبه لمهنة “كش الحمام” جعله مراقبًا من قبل الشرطة الألمانية التي لحقته إلى بيته واكتشفت شيئًا غير متوقع.
الشاب الحموي كان ينزل إلى الحدائق والساحات العامة يرش القمح والحبيبات للحمام ، وعندما بقترب “الطير” منه، كان يأخذه ويذهب به إلى بيته، ولم يكن الشاب يعلم أنه مُراقبٌ من قِبَل الشرطة التي ظنت أنه يأخذها ليذبحها ويأكلها.
وبعد تكرار حالات أخذ الحمامات من الساحات العامة، داهمت الشرطة المنزل، وتفاجأت الشرطة بالمكان الذي كان مخصصًا من قبل الشاب للحمامات “بحرة، وزينة، وتنظيف واعتناء كامل”. وهنا اعتبرت الشرطة الشاب صديقًا للبيئة، وعيّن مشرفًا في إحدى حدائق برلين.
“سوسة” المشاهير
عبدالله رجب، فلاح من الغوطة الشرقية، ومربي حمام، يؤكد أن مهنته ليست مقتصرة على الحميماتية، بل هي “سوسة” وهواية، تمارسها شخصيات مرموقة في المجتمع، جاء عددٌ منهم قبل الثورة إليه ليشتروا الحمام، منهم الفنان حسام تحسين بك، ومحمد أوسو (كسمو)، وباسم ياخور، إلى جانب أطباء ومهندسين وغيرهم، بحسب ما ينقله لعنب بلدي.
ويعتبر رجب أن الطيور حاليًا وسيلة معرفة في الغوطة الشرقية، يتعرف المربون على بعضهم عبرها. ويؤكد أن أسعار طيور الحمام ارتفعت بشكل كبير، ويصل سعر الجوز حاليًا إلى مليون ليرة، وهناك أنواع منها “الأبلأ” و”المسوّد”، و”المشمشي” و”البيرملي” و”العرجاني” و”النحاسي” وتتفاوت الأسعار حسب النوع.
ومن أهم معايير تقييم أسعار طيور الحمام، وفق رجب، وقفة الطير ووجهه، وعيونه، ولون ريشه، وطوله، وقصره، مشيرًا إلى أن “وقفة الطير” من أهم المعايير.
ويشرح رجب بعضًا من خفايا هذا العالم، وكيف أثرت الحرب الحالية على مهنة تربية الطيور و”كش الحمام” بشكل عام، فلم يعد الطعام متوفرًا كما كان عليه من قبل، ما أدى إلى موت كثير من الطيور، فضلًا عن ارتفاع أسعار القمح والذرة والأعلاف فقد قفز سعر كيلو الذرة من 17 إلى 500 ليرة.
يقول رجب “في مجتمع الحميماتية هناك قوانين أصعب من قوانين الدولة، فإن كان شخصان من أعز الأصدقاء، سرعان ما تجدهما في حالة حرب، بمجرد أن يقع طير لأحدهم فريسة في شباك صديقه، وهنا يجب على من خسر طيره أن يسترده بشتى الوسائل التي يتيحها عرف الحميمياتية، بعيدًا عن الموانة وتبويس الشوارب”.