قد يبدو الحديث عن التهريب من وإلى سوريا خلال الفترة الحالية “بلا معنى” في ظل الفوضى العارمة التي تعيشها البلاد، وفلتان الحدود، واستمرار الاقتتال والأعمال العسكرية بين قوى متصارعة تهدف إلى كسب السيطرة وتقاسم النفوذ، لكن عمليات التهريب على جانبي الحدود مع دول الجوار لمواد وسلع ضرورية انتعشت خلال سنوات الحرب، وباتت مصدر رزق للكثيرين.
كانت سوريا قبل العام 2011 مصدرًا أساسيًا لتهريب المنتجات إلى دول الجوار وخاصة لبنان والعراق، وكانت شبكات متخصصة تأخذ على عاتقها تهريب المحروقات بأنواعها، والسكر، والسجائر، والمواشي، وأحيانًا قطع تبديل السيارات، وكان المهربون يتقاضون مبالغ كبيرة لقاء تمرير هذه البضائع إلى الجانب المقابل من الحدود، فهذه المواد منخفضة الأسعار في سوريا، ومرتفعة جدًا في الدول المجاورة، ويشكل الحصول عليها من سوريا فائدة كبيرة لسكان دول الجوار وخاصة المناطق الحدودية.
بعد العام 2011، تغيّرت المعادلة ويمكن القول إن “الآية انقلبت”، فالمنتجات السورية التي كانت تهرّب وبكثافة، أصبح السوريون في الداخل بأمس الحاجة لها، فقد أدت سنوات الحرب الخمس إلى تراجع معدلات الإنتاج بحدود 75% وخاصة المواد المصنعة، وساهمت العقوبات على النظام السوري في تكبيل التجار والحكومة معًا، وهذا ساهم في تنشيط أعمال التهريب من وإلى سوريا، وبصورة مختلفة عما كانت من قبل.
جزيرة الخير ليست بخير
في منطقة الجزيرة السورية، وخاصة محافظة الحسكة، والتي تمتد على مساحة 23 ألف كيلومتر مربع، وتعد ثالث أكبر محافظات سوريا مساحةً، ينتشر التهريب من العراق بكثرة وفق شهادات مواطنين ومهربين تواصلت معهم عنب بلدي.
الوصف الذي أتى عليه المؤلف العربي الشهير ياقوت الحموي، في كتابة “معجم البلدان” عندما وصف منطقة الجزيرة بالقول “مجاورة للشام، تشتمل على ديار مضر وديار بكر، وهي صحيحة الهواء جيدة الريح والنماء، واسعة الخير، بها مدن جليلة”، أصبح في غير محله الآن، ويبدو أنه تلاشى خلال الحرب الطاحنة التي تدور في سوريا، فالحالة الصعبة التي وصل إليها سكان منطقة الجزيرة لجهة انتشار الفقر وانعدام وجود المواد الغذائية وتراجع الزراعة، جاء بسبب عدة عوامل أبرزها التضرر من الصراع بشكل رئيسي، فقد أغلق تنظيم “الدولة” الطرق المؤدية إلى عمق المحافظة من العمق السوري، في حين تم إغلاق المعابر الحدودية من قبل دول الجوار، وقد تسبب هذا في تدهور الوضع الإنساني بشكل كبير.
ويتهم مواطنون في المحافظة حكومة النظام السوري بتجاهل الوضع، في وقت تتقاسم فيه مع قوات “الإدارة الذاتية” السيطرة على المحافظة وإدارتها.
وكانت آخر رحلة جوية إلى المحافظة من دمشق وصلت القامشلي في 27 تموز الماضي، ونقلت نحو 30 ألف سلة غذائية، لكن الحكومة السورية تقول إن قطع الطرقات وحصار المسلحين للمحافظة أدى إلى تراجع أداء المؤسسات الخدمية وخلق واقعًا صعبًا أثر على السكان.
ويكشف ممثل برنامج الغذاء العالمي في سوريا، جاكوب كيرن، في تصريحاته لصحيفة “الوطن” المقربة من النظام، في 27 تموز، عن حجم المساعدات الغذائية “الجيد” الذي قدمه البرنامج لأهالي المحافظة خلال العام الماضي، والذي وصل إلى 285 ألف سلة غذائية إلا أن وصول هذا المساعدات خلال 2016 تراجع بشكل ملحوظ.
أدوية عراقية المنشأ في الحسكة
في منطقة الجزيرة، “السلة الغذائية لسوريا” لسنوات طوال، لما تشتهر به من مزروعات استراتيجية وأراضي خصبة، ينشط خلال هذه الفترة مهربون على جانبي الحدود مع العراق ويدخلون وفق رأي مواطنين لعنب بلدي “المواد الغذائية والطبية من العراق تهريبًا، خصوصًا من مناطق جنوبي اليعروبية والعامرية”، هناك يمكن أن تشاهد المنتجات العراقية التي دخلت بطريقة ما، وأصبحت في متناول أيدي السوريين وهي مجهولة المصدر، وغير خاضعة للمواصفات القياسية السورية لجهة الجودة والسلامة الصحية وغيرها.
ويقول أحد المواطنين (رفض الكشف عن اسمه) إن “الحصار المفروض على الجزيرة السورية، وعلى محافظة الحسكة، جعل التهريب الحل الأساسي لتوريد المواد إلى المنطقة، وساهم في توليد فرص عمل للمهربين الذين يتقاضون مبالغ كبيرة لقاء تهريبيهم البضائع”.
تهريب السيارات وقطعها
كان لانتشار مستويات الفقر إلى نسب مرتفعة جدًا، ووصول نحو 90% من السوريين إلى خطر الفقر، وارتفاع مستويات البطالة لأكثر من 70% بسبب انعدام فرص العمل، الدور الأبرز في إيجاد فرص عمل بديلة إلى جانب القتال والإنضواء في صفوف الجيوش والكتائب المتحاربة.
ساهم الفقر في خلق فرص عمل “منبوذة” وتخالف المنحى الطبيعي لحياة وأعمال السوريين، بسبب تجريم القانون لها، لكن أعمال التهريب عبر الحدود السورية العراقية “جارية على قدم وساق”، على ما يخبرنا به مهرب من منطقة المحمودية في الحسكة. ويوضح لعنب بلدي أنه عمله يقوم على شراء سيارات من تاجر عراقي وإدخالها إلى الأرضي السورية كما يهرّب كميات كبيرة من قطع تبديل الغيار للسيارات، وأغلبها لسيارات تعمل على وقود الديزل (المازوت).
أما المواطن هيثم قادري، من قرية العامرية، فيقول لعنب بلدي، معلقًا على طبيعة المواد التي يتم إدخالها من العراق إلى منطقة الجزيرة بالقول إن “مئات الأطنان من المواد الغذائية تدخل الأراضي السورية، بشكل غير شرعي من ضمنها مواد الغذائية والأدوية، مشيرًا إلى أن شحنات كبيرة تدخل الحدود لتلاقي من ينتظرها في الطرف السوري، وتشحن هذه المواد إلى الداخل السوري.
ويعتبر مواطن آخر أن “منع النظام السوري لدخول الأدوية إلى المحافظة، دفع مهربي الحدود إلى استجرار الأدوية العراقية، وهذا جعل المواطنين يعتادون استخدام الأدوية العراقية”.
ولتوضيح هذه الظاهرة، ومدى انتشار أدوية “مجهولة” المصدر وغير خاضعة لرقابة جهات طبية سورية، مثل وزارة الصحة، قال الصيدلاني جاندي حميد، إن الأدوية العراقية غزت مؤخرًا الصيدليات بعد منع النظام من دخول شحنات الأدوية إلى المحافظة، وبحسب الصيدلاني فإن الأدوية العراقية معروفة بسوء الإنتاج، وهي غير مرخصة من شركات ذات جودة عالمية، “هذا ما يشكل خطرًا على حياة المرضى والمواطنين”، على حد قوله.
تهريب البشر
عدا عن الأدوية والمواد الغذائية تدخل المنطقة سيارات الدفع الرباعي، والشحن الصغيرة، ومختلف أنواع قطع الغيار ومستلزمات المركبات وذلك لتغطية النقص الحاصل في المنطقة.
وبحسب أحد التجار “باتت الحدود وإدخال البضائع عن طريق التهريب المنفذ الوحيد للهروب من الواقع الذي تمر به المنطقة”.
فالشاب جوان سينو، وهو أحد الفارين من الخدمة الإلزامية في صفوف قوات حزب الاتحاد الديمقراطي، في مناطق “الإدارة الذاتية”، يكشف لعنب بلدي، إنه دفع مبلغ 700 دولار لمهرب من المنطقة مقابل الوصول إلى إقليم كردستان العراق، ويضيف “كان معي أثناء السفر عشرات الشباب”.
واتهم سينو المهرب بالتحكم بالأسعار، ولم يستبعد اتفاقه مع قوات “الإدارة الذاتية”.
مساعدات أممية لا تكفي
تشير تقديرات برنامج الغذاء العالمي، ومنظمة الصحة العالمية، إلى أن محافظة الحسكة تضم حوالي 275 ألف شخص، يعيشون في مناطق مختلفة في المحافظة وهم بحاجة إلى المساعدات الإنسانية، “لكنهم كانوا قد انقطعوا عن الإمدادات الغذائية والإنسانية”.
ولتأمين متطلبات المحتاجين سعت الأمم المتحدة، منذ مطلع العام الجاري، إلى مد جسر جوي لإمداد السكان بالمحافظة بالمواد الضرورية بعد النقص الحاد الذي شهدته الأسواق، ففي 10 حزيران الماضي، حطت أول طائرة لبرنامج الأغذية العالمي في مطار القامشلي، وكانت محملة بحوالي 40 طنًا من المواد الغذائية بما فيها الأرز والبرغل والبقوليات والملح والزيت النباتي والسكر، إضافة إلى مواد خاصة لعلاج ومنع سوء التغذية لدى الأطفال.
ومن المتوقع أن تنقل الطائرة خلال فترة شهر واحد، نحو 25 رحلة على الأقل بين دمشق والقامشلي، لإرسال أكثر من ألف طن من المساعدات الإنسانية لمنطقة الجزيرة.