من الوطن إلى الوطن..
تركمان سوريا والعودة إلى الجذور
حنين النقري – عنب بلدي
أمام منزل ريفيّ تجلس ثريا، تُثبّت الخرز الملوّن على مشغولة يدويّة، تتبادل الحديث أثناء الحياكة مع جارتها، مؤكدة بكل كلمة وخرزة انتماءها لمكان لم تعش فيه، رغم مئات القصص التي رواها والدها عنه. لم تتخيل ثريا أن ترى بعينيها الأماكن التي وصفها لها والدها في طفولتها، ورغم تعلمها اللغة التركية منه وتعليمها لأبنائها إلا أنها لم تتوقع أن تعود لاستخدامها كلغة أمّ، بكل حريّة ودونما قيود عليها.
ثريّا سيدة في أواخر الستينيات، من تركمان سوريا، أجبرتها الحرب والملاحقات الأمنية من قبل عناصر الأسد لعائلتها أن تخرج من سوريا، كملايين السوريين الآخرين، إلا أنه وفي حين ينزح السوريون من أوطانهم، فقد نزحت ثريّا إلى وطنها مجددًا.
فرارًا بالحرية الدينية
تقول ثريا بلغة عربية سليمة “في العشرين من عمره كان والدي عندما خرج من تركيّا، وهو من المسلمين المتلزمين دينيًا عندما استلم مصطفى كمال أتاتورك الحكم، ولم يكن بوسعه تقبّل القوانين التي فرضها آنذاك من خلع الحجاب ومنع الأذان وتشديد على ممارسة كافة الشعائر الدينية، وهو ما دفع والدي للفرار بدينه إلى مدينة حلب”.
اشترى والد ثريّا أرضًا في حلب، وبنى عليها فندقًا أداره وأقام فيه، “كان الفندق الذي أسسه والدي لاستقبال الحجاج الأتراك أثناء رحلتهم للأراضي المقدسة، في تلك الفترة تزوّج أمي وهي سورية تركمانية أيضًا، وأنجبت هناك خمسة ذكور وخمس إناث، عشنا في شقة مرفقة بالفندق واستمر والدي بالعمل فيه حتى توفّي”.
جذور قويّة رغم القوانين
علّم والد ثريا أبناءه جميعهم اللغة التركية، إضافة للغة العربية، وحرص على تقوية انتمائهم بجذورهم الأصلية عن طريق تزويجهم من تركمان، تتابع ثريّا “تزوّجت شابًا من عائلة أمي التركمانية، وأقمت معه في المهاجرين، أنجبت منه صبيين وبنتين وبدأت بمتابعة مسيرة والدي في تعليمهم التركية، لكن الأمر لم يكن بالسهولة ذاتها إذ كان من الممنوع علينا التحدث علنًا بلغتنا، أو حيازة مطبوعات باللغة التركية، كان علينا أن نندمج تمامًا بالعرب وهو ما حاولت التحايل عليه لئلّا يؤثر على انتماء أبنائي لبلدنا الأصليّ”.
استمرت حياة عائلة ثريّا على الوتيرة ذاتها، كانت تتواصل مع أقارب لها في تركيا لكنها لم تزرها أبدًا “لا أدري لمَ لم أزر تركيا سابقًا، لكننا أسسنا في سوريا حياة وعائلة ولزوجي عمل مستقر فلم السفر؟ كان هذا قبل الثورة، لأن كل شيء بعدها اختلف”.
ناشطون في ثورة الحرية
مع بداية الثورة لم يكن أبناء ثريّا استثناءً عن الشعب السوريّ، إذ شاركوا في المظاهرات السلمية ونشطوا ضد نظام الأسد، رغم خوف أمهم وتحذيرها لهم “كنتُ أحذرهم على الدوام فنحن لسنا سواء مع بقية السوريين وصفحتنا ليست بيضاء عند النظام الذي لطالما اعتبرنا طابورًا خامسًا، لذا لن يتوانى عن التنكيل بأي تركمانيّ يشارك بالثورة، لكنهم بالطبع لم يستجيبوا لرجاءاتي واستمروا في نشاطاتهم الثورية، وازداد إيمانهم بالثورة مع استشهاد صديق لهما برصاص النظام”.
كان نشاط ابن ثريّا البكر مرتبطًا بعمله كصيدلاني في تأمين الأدوية والمشاركة بإسعاف الجرحى “كان حريصًا على إخفاء هويته، لكن يبدو أن أحد أصدقائه ممن اعتقلوا قبله وشى به تحت الضرب”.
الحذر لا يمنع القدر
عام 2012، وتحديدًا في شهر شباط استيقظت ثريّا على أصوات مداهمة لمنزلها، وتقول “كانت من أسوأ اللحظات في حياتي عندما وجدت عناصر الأمن في بيتي فجأة، كانوا يبحثون عن ابني البكر لأنه يدعم الإرهابيين حسب قولهم، لم يجدوه في المنزل فاستعاضوا عنه باعتقال أخيه الأصغر، هكذا أخذوه من أمامي دون أن أتمكن من فعل شيء، لم تشفع دموعي ورجاءاتي لقائد فرقة المداهمة في إنقاذ ابني، لو كنت أعلم أنه مطلوب لاتخذت إجراءات تحول دون اعتقاله، لكن الحذر لا يمنع القدر”.
في اليوم التالي اعتقل الأمن ابن ثريّا البكر أيضًا، وهنا انهارت قوى زوجها السبعيني “خلال أربع وعشرين ساعة اعتقل النظام ابنينا، لم يستطع زوجي تحمل هذا الخبر فأصيب بسكتة قلبية وتوفّي بسببها خلال شهر”.
خسارة بالجملة
وجدت ثريّا نفسها فجأة أرملة، وأمًا لمعتقلين تجهل مكانيهما “حاولت كثيرًا لأخلص ابنيّ من قبضة الأمن ودفعت الكثير من الرشاوى لكنني لم أستطع، كانت خسارتي لعائلتي بالجملة ودعوت الله أن يخفف عني، بعد ثلاثة أشهر قُرع الباب لأجد ابني الأصغر أمامي، شعرت أن عودته عوض من الله على صبري”.
يقول ابن ثريّا إنه لم يكن مطلوبًا للنظام لكنهم اعتقلوه للضغط على أخيه “عندما وصلنا للفرع سأل العنصر الضابط: شو نعمل فيه لهاد، فأجاب: الحشوه جوا، وهكذا بقيت (جوّا) ثلاثة أشهر دون أن يحقق معي أحد أو يسألني أحد ما اسمي حتى، كان أسوأ سيناريو بالنسبة لي أن ينسوا وجودي وهو ما حدث فعلًا طيلة الأشهر الثلاثة، إلى أن أطلقوا سراحي فجأة، كما اعتقلوني فجأة”.
إلى تركيا.. مجددًا
عندما خرج ابن ثريّا من المعتقل، اتخذت قرارها بالسفر إلى تركيّا للنجاة بمن بقي من عائلتها “لديّ بنت عازبة وابن معتقل سابق، لست مستعدة لأن يتعرضا لأيّ مكروه، لذا حسمت أمري وقررت السفر إلى موطني الأصلي، تواصلت مع أقربائي هناك وشجعوني على ذلك، وهكذا سلّمت منزلي لصديق زوجي وتوجّهت شمالًا، إلى تركيا”.
لم تكن لحظات لقاء ثريّا بأقربائها بسيطة كما تقول، “مشاعري عند دخولي تركيا كانت معقّدة جدًا، خرج منها أبي فرارًا بحريته، وها أنا أخرج من سوريا وأعود لأرض أبي فرارًا بحريتي وحرية أبنائي أيضًا، تمنيت على الدوام أن أعود إلى أرضي لكنني لم أتخيل أن تكون ظروف عودتي لها سيئة بهذا الشكل، الحمد لله على كل حال”.
في تركيا استلمت ثريّا أرضًا زراعية تعود ملكيتها لوالدها، وكان في انتظارها شقّة مجهزة بأثاث كامل من قبل أقربائها، وهو ما خفف من وطأة شعورها الثقيل “صحيح أنني أنتمي لهذا البلد لكنني عشت كل حياتي ما بين حلب ودمشق، وكذلك أبنائي، أن تتأقلم مع حياة جديدة وأنت في أواخر الستينيات ليس بالأمر الهيّن، علاوة على أني لا أعلم شيئًا عن ابني البكر منذ أربعة سنوات، وهو ما ينغّص عليّ أي محاولة للسعادة هنا”.
التركمان السوريّون في سطور
|
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :