لم يعد بإمكان عائلة سوريّة متوسطة الدخل أن تقصد مستشفىً حكومية بالسهولة التي اعتادتها قبل الحرب، رغم كل ما شاب عمل ونظام المستشفيات العامة قبل الثورة. تغيّر الواقع كثيرًا خلال السنوات الخمس الماضية، إذ تراجع أداء المراكز الطبية والمستشفيات والمستوصفات، التابعة للقطاعين العام والخاص.
كان النظام الطبي في سوريا يقوم بشكل أساسي على “حرية الوصول والرعاية المجانية في المستشفيات العامة”، باستثناء تلك العسكرية المخصصة لعاملين في الجيش السوري، وهو ما أتاح الرعاية الطبية لشريحة واسعة من السوريين بعد أن بلغ عدد المستشفيات 482 مستشفى تحتوي حوالي 30206 سريرًا، منها 117 مستشفى عام، وبالمجمل شكلت مستشفيات الحكومة نحو 65% من الطاقة الاستيعابية لعدد السكان البالغ 23 مليون نسمة، وفق إحصائيات العام 2010.
وبعد أن كانت سوريا مركزًا إقليميًا لتدريب أطباء منظمات الأمم المتحدة والعالم، يقصدونها بهدف التعرف على الخطط والبرامج الفصلية والسنوية لمواجهة الأمراض والأوبئة، باتت الآن بحاجة لكل شيء متعلق بالطبابة من أدوية وأجهزة ومعدات مخبرية وغيرها.
أرخت الحرب وتبعاتها وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين السوريين بظلالها على الخدمات الطبية في مختلف المناطق السورية وخاصة تلك التي لا تزال تحت سيطرة حكومة النظام السوري، ونال المستشفيات جزء من الضرر أيضًا لحق بالأجهزة الطبية المركزية التي تشكل قوام هذه المؤسسات الطبية، وأدى تراجع السيولة لدى وزارة الصحة وكذلك العقوبات الأوروبية إلى الحد من إمكانية إدخال أجهزة طبية حديثة وجعل من المستحيل إصلاح المتعطلة بسبب غياب قطع الغيار وتحكم جهات خاصة بالاستيراد وتراجع السلطة الرسمية بعد أن قيدتها العقوبات، وبالتالي أصبحنا أمأم عشرت الأجهزة الطبية والمعدات “باهظة الثمن” لكنها تحولت إلى “خردة” لا قيمة لها بعدما تعذر إنعاشها.
أسعار “كاوية” تمنع الاستشفاء
وفي الوقت الذي تشهد مدنٌ مثل دمشق، وطرطوس، والسويداء، نزوحًا سكانيًا إليها من مناطق ساخنة مجاورة، بقيت الخدمات الطبية المقدمة عبر مستشفياتها الحكومية كما هي، ولم تواكب النمو السكاني الكبير، تاركةً المجال للمستشفيات الخاصة المجال للتفرد على الساحة بالخدمات وبأسعار لا يقوى المواطنون على تحملها.
الكشفية الطبية التي كانت بحوالي 200 ليرة (4 دولار، حين كان الدولار يعادل 47 ليرة)، في أي عيادة أو مركز طبي متوسط الخدمات والشهرة، أصبحت اليوم نحو 3 آلاف ليرة (6 دولار إذ يقابل الدولار 500 ليرة)، وهو رقم ما لا يقوى الكثيرون على دفعه في ظل الضغوط الاقتصادية التي يعيشونها وجمود معدلات الدخل الشهري عند 30 ألف ليرة، كمتوسط دخل شهري، في حين كان نسبة كبيرة من السوريين يستفيدون من خدمات المستشفيات الحكومية المجانية ويجدون فيها ما يريدون ولو بنسب متباينة.
أحد العاملين في القطاع الطبي في محافظة درعا (رفض الكشف عن اسمه)، علّق على حالة المستشفى الوطني في المدينة وقال لعنب بلدي “شهدت منطقة المستشفى اشتباكات بين الثوار والنظام وخرجت عن الخدمة بشكل كامل لأكثر من عام، ثم عادت للعمل لاحقًا”، مشيرًا إلى أن النقص الحالي في الخدمات الطبية “ليس سببه غياب الدعم فقط بل تحوّلها لثكنة عسكرية من جهة وخروج عدد من الأقسام بشكل نهائي أيضًا”.
أجهزة طبية “معاقبة”
يعاني مستشفى درعا الحكومي الذي يقع على بعد 20 مترًا فقط من خط التماس بين قوات النظام والمعارضة، من نقص في عدد كبير من الأجهزة المتخصصة والنادرة والتي تحتاج إلى أموال طائلة لتوفيرها، إذ لا يوجد حاليًا جهاز تصوير قوسي، وجهاز للتصوير الطبقي المحوري، فقد خرج هذا الجهاز عن الخدمة، ويحتاج لصيانة ربما تكلّف أكثر من 300 مليون ليرة.
قبل العام 2011، كانت هناك أجهزة طبية تستورد من قبل شركة أجنبية، لكنها غادرت مع جملة الشركات التي قاطعت سوريا في تلك الفترة، وكان هناك أجهزة قيد التركيب بقت على حالها، وإلى الآن لم يستمل تركيبها ووضعها في الخدمة.
وحول الطاقة الاستيعابية وعدد العمليات التي لا تزال المستشفى تقدمها للمواطنين خلال الظروف الحالية، قال “قبل الثورة، كانت المستشفى تجري باليوم الواحد حوالي 50 عملية جراحية، واليوم لا يتجاوز عدد العمليات الاثنتين، بسبب نقص المعدات والتجهيزات، ما دفع السكان للتوجه إلى مستشفيات القطاع الخاص”.
هجرة الخبرات تغيّر المعادلة
شكّل استمرار الإقبال على المستشفيات الحكومية ضغطًا كبيرًا على الخدمات المقدمة، ما دفع بالكثير من الباحثين عن الاستطباب إلى التوجه للقطاع الخاص من أجل إجراء عمليات جراحية باهظة التكاليف، لكن تراجع هذه المستشفيات خدميًا حوّلها إلى مستوصفات “وفرغها من دورها الاستراتيجي”.
وأشار الطبيب من درعا إلى أن النظام السوري حريص على بقاء هذه المستشفيات “كنوع من الوجود السيادي الشكلي”.
ووفق شهادات مواطنين لعنب بلدي لا يمكن مقارنة تكلفة العمليات الجراحية والكشفيات الطبية في القطاع الخاص بتلك التي لا تزال تقدمها المستشفيات الحكومية، إذ تبلغ تكلفة عملية جراحية (إزالة مرارة 300 ألف ليرة، والقثطرة القلبية حوالي مليون ليرة)، ووصلت تكلفة العمليات المعقدة المتعلقة بالأورام الخبيثة والغدد والأعصاب حوالي 3 إلى 5 ملايين ليرة. في وقت يعزو فيه الأطباء الارتفاع المتواتر للأسعار إلى نقص الخبرات وهجرة الأطباء وتراجع سعر الليرة.
يقول الدكتور علي الخالدي، من المستشفى الميداني في حي الوعر في حمص، إنّ ارتفاع أسعار وتكاليف العمليات سببه غياب التجهيزات لأن أغلب الأجهزة الموجودة في المستشفيات “منسقه منذ زمن”، في حين تم إصلاح بعض منها من قبل فنيين وأخصائيين.
ويلجأ العالمون في القطاع الطبي في المستشفيات التي تقع في المناطق المحاصرة إلى الاعتماد على نقل القطع من جهاز إلى آخر بقصد إبقاءها على قيد التشغيل وفي الخدمة، لكن انقطاع الكهرباء الطويل وعدم انتظام التيار يضران كثيرًا بهذه المعدات التي لا تقدر بثمن خلال هذه المرحلة.
وزارة الصحة.. تصم آذانها
الدكتورة جوليت كابي، أخصائية أمراض القلب في الحسكة، أوضحت لعنب بلدي أن مستشفيات المحافظة تعاني من نقص كبير في الأجهزة الطبية، وخصوصًا أجهزة جراحة القلب وتركيب الشبكية والقثطرة، ويضطر المريض إلى الهجرة لإقليم كردستان العراق وتركيا بداعي العلاج لأن أجهزة القلب متوفرة فقط في مستشفى واحدة بالقامشلي، ما يجعل المريض عرضة للاستغلال.
وبحسب كابي، تكلف العملية الواحدة أكثر من مليون ليرة، وقد يتعرض المواطنون إلى الخطر خلال العمليات “لأن المونتور الخاص بوقف النزيف خلال العمليات غير موجود في المحافظة، وفي حال حدوث نزف أثناء تركيب الشبكية يؤدي ذلك بحياة المريض”.
وإلى جانب هذه الأجهزة، تعطل جهاز الرنين المغناطيسي والطبقي المحوري في المشفى الوطني بقامشلي منذ أكثر من سنة.
وبحسب الطبيبة فإن “أحدًا لا يبالي بالأمر، فقد أعلمت المستشفيات مديرية الصحة، التابعة لحكومة النظام، بتعطل هذه الأجهزة لكن دون طائل”.
وأشارت إلى أن تعطل جهاز الغسيل الكوي في مستشفى القامشلي، يجعل المريض مضطرًا للعلاج في مسشتفى خاصة بالقامشلي، وبأسعار “رهيبة”.
أهم الأجهزة في طرطوس خارج الخدمة
منذ سبعة أشهر تقريبًا، دخل جهازا القثطرة القلبية و”المرنان” في مشفى الباسل بطرطوس بعطل “عصي على الحل” حتى الآن، ونقلت وسائل إعلام محلية تابعة للنظام، 1 آب الجاري، أنه “ليس من الطبيعي أن تبقى الأجهزة المعطّلة دون إصلاح لفترة طويلة خاصة وأن الحاجة ماسة لعملها من أجل المرضى وتحديدا الفقراء وذوي الدخل المحدود منهم حيث يضطرون للذهاب إلى القطاع الخاص في المحافظة أو إلى محافظات أخرى في حال عدم توفر تلك الأجهزة عند القطاع الخاص ما يحملهم أعباء ونفقات باهظة لا قدرة لنسبة كبيرة منهم عليه”.
وتستوعب مدينة طرطوس حاليًا نسبة كبيرة من أعداد النازحين والمهجرين من مناطق ومحافظات سورية، وهم بحاجة لخدمات طبية رخيصة تتماشى مع وضعهم المعيشي، لكن خروج أبرز الأجهزة الطبية عن الخدمات في المستشفيات العامة جعل أوضاعهم “صعبة”، في وقت لا تملك وزارة الصحة أي حلول، بل يمكن القول أن هذا الأمر خارج عن إرداتها فلا العقوبات رفعت عن سوريا، ولا الأموال متوفرة لجلب البدائل.. ويبقى المواطن المتضرر الأكبر.
كتب أحد المواطنين، على صفحته في “فيس بوك” يعلق على الحالة التي وصلت إليها المستشفيات الحكومية، “الطبيعي بهكذا ظروف أن تطالب وزارة الصحة بدعم مستشفى الباسل، وزيادة عدد الأجهزة بكل اختصاص نظرًا لوضع تزايد السكان فيها”، وكتب آخر “أستغرب لماذا تجد المستشفيات الخاصة قطع الغيار للأجهزة وتورد المعدات ولا تتمكن وزارة لاصحة من ذلك”.