من الطبيعي أن يثير ظهور أبي محمد الجولاني، زعيم جبهة النصرة وإعلانه فك علاقة جماعته بتنظيم القاعدة وتغيير اسمها، ردود فعل واسعة في أوساط السوريين، ولا سيما في أوساط المعارضة.
لكن هذا الإعلان، الذي حاول البعض الاحتفاء به ومنح جبهة النصرة صكّ براءة من كل ممارساتها التعسّفية ضد السوريين في المناطق التي خضعت لسيطرتها ومن ذلك مقاتلتها لجماعات من الجيش الحر ومحاولتها حرف الثورة عن مسارها لصالح رؤية ضيّقة تتغطى بالدين وتعتبر نفسها وصية على الإسلام والمسلمين، جاء مبتورا وساذجا.
هكذا فمن منطوق الإعلان بدا أن هذا التنظيم مازال يصرّ على تبني ذات المبـادئ المتطـرفة، ومـازال ينتهج القوة لفرض نمط حياة معين على السـوريين، ومازال لا يعتـرف بالثورة السورية ويشتغل على الضد من مبادئها المتعلقـة بالتغيير نحو دولة ديمقراطية مدنية، وبالضد من مؤسساتها وإطاراتها السياسية والعسكرية والمدنية.
أيضا، يفترض أن يفهم هؤلاء أن الجولاني في هذا الإعلان عن تغيير الاسم وفكّ الارتباط، لم يتنازل للشعب السوري وإنما للقوى الكبرى الخارجية، هذا أولا. وثانيا، أنه تنازل في لحظة حصار أهلنا في حلب. والمعنى أنه حتى هذا التراجع المحدود والسطحي يحسب عليه، وليس له، خاصة وأن هذا الأمر لم يحصل نتيجة تولد قناعة ذاتية.
في كل الأحوال فإن هذا التطور يعبّر عن إفلاس وعقم هذه المنظمـات الإرهابية المتطرفة التي ما كان لها أن تتصّدر مشهد الصراع السوري لولا وجـود دول وقـوى تقف وراءها، بالسياسة والإعلام والمال والسلاح، وكلنا نعلم أن الجيش الحر هو الذي حرّر الكثير من المنـاطق في صيف العـام 2012، وأن جبهة النصرة (ثم تنظيم داعش) قضمت هـذه المناطق في ما بعد، بعد أن حاربت الجيش الحر، لأن ثمة دولا وقوى أرادت تحجيم هذا الجيش وتجميده، لأخذ الثورة إلى غير مقاصدها المتعلقة بإنهاء الاستبداد وإقامة دولة وطنية ديمقراطية ومدنية.
ملاحظة أخرى ينبغي الإشارة إليها هنا، أيضا، ومفادها أن اعتقاد البعض بأن جبهة النصرة وأخواتها بمثابة نبت طبيعي للبيئات الشعبية الحاضنة للثورة هو اعتقاد غير دقيق، ويصبّ في الدعاية التي يروّجها النظام، إذ أن نمط التديّن لدى المتدينين السوريين، يتسم بالمرونة والاعتدال وقبول الآخر.
وباختصار فإن هذه المناورة من قبل الجولاني تكشف كم هو متلاعب ومنافق ومستعد للتغيير وجاهز للتكيّف وقابل للخضوع لجبـروت القوة، وهذا كله ليس دليل عقلانية أو واقعية أو مسؤولية، وبالطبع ليس دليـل وطنية، لأن هذه لا يعرفها ولا يعترف بها سوى الجـولاني وأمثاله.
هكذا شهدنا أن الجولاني أو تنظيمه، وصل إلى ما وصل إليه بعد أن فرض هيمنته بالقوة على السوريين في ما اعتبر “مناطق محررة”، وبعد أن قوض صدقية الثورة ونال من شرعيتها ونبل مقاصدها، وبعد أن سقطت داريا وبعد أن تعرضت حلب لحصار مشدد.
هذا هو الجولاني وإلى هنا وصلنا مع هذه الجماعات المتطرفة والمنفصمة عن الواقع والعالم، والتي تدعي الوكالة عن الله، حيث لا يوجد فرق كبير بين داعش والنصرة، فهذه خرجت من رحم تلك، وهذه وتلك تتغذيان من الاستبداد، وهذا بدوره يتغذى من التطرف والإرهاب.
كلمة أخرى، لا بد منها في هذا السياق، وهي أن معظم الدول تلاعبت بثورة السوريين، وأرادت حرفها، بخاصة من خلال تشجيع التحول نحو العمل المسلح.
نعم نظام بشار الأسد هو المسؤول الأول عن كل ما جرى ويجري وسيجري في سوريا، ومعه حليفاه الروسي والإيـراني وميليشيات حزب الله وكتائب أبي الفضل العباس ونجباء والفاطميون، لكن ثمة دولا “صديقة” تتحمل المسؤولية أيضا، تماما كما ثمة معارضة تتحمل قسطا من هذه المسؤولية، وهذا ما يفترض الاعتراف به بجرأة أخلاقية وسياسية، فهل ثمة من يجرؤ؟
هكذا، ليست القصة كشف الجولاني لوجهه ولا تغيير اسم جبهته، المهم هو معرفة مآلات هـذه الجبهـة، والأهـم الكشف عن وجه الدول والقوى التي تقف وراء صعودها غير الطبيعي والوظائف التي أنيطت بها.