نميل، زوجتي وأنا، إلى تفادي أن يعرف ابننا (11 سنة) بالعمليات الإرهابية المتنقلة في أرجاء العالم. ونفشل غالباً! وبعد عملية ميونيخ سألني عما إذا كان المنفذ مسلماً، ذاك أن الـ«يوتيوب» الذي يخبره بالوقائع لم يتمكن من تحديد الهوية الدينية للمنفذ. وعندما شعر ابني بأنني لا أملك جواباً واضحاً عن سؤاله، انتقل إلى سؤال آخر: «في مقابل الإسلاموفوبيا هل هناك شيء اسمه كريستيانوفوبيا»؟ فأجبته بالنفي، ولكن على نحو قاطع وموحٍ بأن المحادثة انتهت.
هذه الصعوبة في المحادثة امتداد لصعوبات مفهومية جديدة بدأت تواجهنا مع الانتشار الوبائي للإرهاب. هل لـ«داعش» دور في العملية التي نفذها ياباني في طوكيو؟ المنطق الوقائعي يقول أن لا علاقة له، لكن منطق الوباء لا يُبرئه، ذاك أن مُطلق الوباء وصاحبه غير بريء من تفشيه، لا بل أن «داعش» كان يتمنى أن يكون المنفذ في طوكيو، وهو من دون شك فكّر وبحث عن وسيلة لتبني العملية ولم ينجح، تماماً كما فعل مع عملية ميونيخ، لكن هوية المنفذ لم تُسعفه.
والحال أن القول إن «داعش» مصفاة الاختلالات النفسية والاجتماعية والسياسية في العالم، وإنه الوعاء الذي عثر عليه كل معتوهي الكوكب، قول سياسي أيضاً، ذاك أن إيجاد مهمة «سياسية» للعته خطوة عبقرية لطالما شهد التاريخ صوراً متفاوتة لها أثناء جريانه. وإذا كان الهذيان الجماعي في أوقات الثورات والتحولات السريعة صورة عن العته العام تولت السوسيولوجيا والبسيكولوجيا تفسيره، فـ«داعش» وجد للفصامات الفردية، تلك التي لم تقارب يوماً السياسة، تصريفها في سياق نزاعها مع العالم وقيمه.
«داعش» عصي على التفسير الواحد والمباشر. هو ابن العالم وابن البعث وابن العشائر وابن تنظيم القاعدة. هذا اختلال كبير في تركيبه، واختلال مواز لتلك الاختلالات التي صعّبت عليّ مهمة تفسير ما جرى في ميونيخ لابني. والاختلال هنا هو وظيفة التنظيم الذي يُدرك هذه الحقيقة، فهو تبنى هجوم نيس على رغم أن منفذه مختل، واختلاله موثق طبياً وعيادياً، وبهذا المعنى فالتنظيم تبنى أيضاً اختلال المنفذ وفصامه. ويجب ألاّ يكون هذا القول وسيلة إدانة التنظيم، بل محاولة لفهمه، ذاك أن الإدانة هي ما يرغبه ويبتغيه.
هنا تماماً يقيم الشيطان، فقد وجد مكاناً ووظيفة لمفاوضتنا عليه، ولانتزاع اعتراف بأن الجنون يجب أن يحجز مكاناً له، وأن يُعترف به بصفته حقيقة لا يمكن تجاوزها. على الدول والمجتمعات والحكومات أن تُشاركه وأن تجري معه تسويات ومفاوضات وأن تجعل له مكاناً وقيمة واعتباراً.
لم تثبت علاقة مباشرة بين داهس المحتفلــــين في مدينة نيس و«داعش». وكل مــــا يربط اللاجئ الأفغاني، البالغ 17 سنـــة والذي هاجم بفأس ركاب القطار في جنوب ألمانيا، بالتنظيم هو راية عثــرت عليها الشرطة في غرفته، والفتاة ذات الأصـــل التركي التي هاجمت شرطياً ألمانياً وعمرها 15 سنة، كانت حاولت السفر إلى مناطق «داعش» لكنها فشلت لعدم تمكنها من التواصل مع «داعش».
إذاً نحن أمام قابليات للقتل متفاوتة الأسباب. التونسي، داهس الناس في نيس، يعاني فصاماً بحسب طبيبه، والأفغاني فشل في تأمين لجوء شرعي، والطفلة التركية ابنة عائلة أصابتها الهجرة بالتفكك والتمزق. قاتل المثليين في أورلاندو مثلي مضطرب على الأرجح، وفي ميونيخ هو إيراني مندمج بالمجتمع الألماني. وإذا كان ما يجمع كل هؤلاء إقدامهم على القتل أو على محاولة القتل، فإن ما يجمعهم أيضاً صلة غير واضحة وغير مستقرة بالإسلام غير المقيم في دياره. وأن يتمكن تنظيم مقيم على بعد آلاف الكيلومترات من الوصول إلى الوجدان المضطرب لهؤلاء من دون أن يتمكن من التواصل المباشر معهم، فذلك يدفع إلى معاودة التفكير بكل شيء سبق أن فكرنا به في سياق تفسيرنا للعنف والإرهاب.
ويبدو أن العالم في سياق تشكله على نحو ما هو متشكل اليوم، بالغ في تعويله على العقل والصواب، وجعل للخطأ وللعته مصحات وسجون بعيدة، وأوهم نفسه بأنه سيطر على الظواهر. «داعش» أول غيث هذا الفشل. القضاء على التنظيم لم يعد يكفي، فالجنون صار قيمة سياسية لا يمكن تجاهلها. التواصل بين أي فصامي وأي قضية في العالم صار ممكناً ويجب أخذه في الاعتبار. المصحات النفسية والسجون لا تتسع لشعوب ولجماعات الهذيان وللمنشقين عن أنفسهم وعن مجتمعاتهم. السفر إلى «داعش» صار ممكناً عبر هاتف نقال أو عبر جهاز كومبيوتر صغير. العالم الذي اخترع ذلك عليه أن يخترع واقيات موازية.
وزراء الأمن والعدل والدفاع في أوروبا وفي العالم يقولون إن عليهم تنفيذ إجراءات تحد من الحريات، هذا أشبه بمعالجة سرطان بمُهدئ. فـ»داعش» لم يمول ولم يُسلح ولم يتواصل مع المعتدين. «داعش» موجود واقعياً في العراق وفي سورية، لكن وجوده هناك في أوروبا وبائي. هل تذكرون «الإيدز» في بدايات اكتشافه؟ لا ضابط حدودياً لتفشيه، ولا لقاحاً صمد في وجهه. العالم حينها قال إن الفيروس مركب من تلاقح فيروسات تسببت بها حداثة العيش وغرابته. «الإيدز» تحول إلى سياسة وبدأ العالم الأول طريقاً طويلاً إلى محاصرته، وهو إذ لم يبلغ هدفه حتى الآن على هذا الصعيد، كان شديد الواقعية والقبول في تعايشه مع المرض.
«داعش» في العراق وفي سورية يُشبه نفسه في أوروبا وأميركا. الخطأ نفسه تقريباً، والخطأ بهذا المعنى ليس قيمة وحكماً، بل وصف وواقع وحقيقة. فهنا، «داعش» هو العشائري الذي قتل العشائر والبعثي الذي يُكفر البعث، وهو «المهاجر» الأوروبي الذي يكره أوروبا ويكره نفسه، وهناك هو الفصامي، وهو المُنتزع من عائلته وقيمه.
حتى الآن لا يبدو أن ثمة وصفة جاهزة يُمكن أن تعالج هذا الصدع الكبير. الاعتراف بأن «داعش» جزء من مشهد العالم الأول في لحظة انتقاله إلى مرحلة لاحقة لحداثته، لا يعني قبولاً بالشيطان، بل اعترافاً بوجوده. كما أن المراجعة لا تكفي، ذاك أن كم الأخطاء هائل، وهو هائل إلى حد أن الخطأ وجد لنفسه قيمة صوابية. فمن الصواب أن تقتل، لأن القتل رسالة تصل.